سوق العمل اللبنانيّة وتحديات عودة السوريّين إلى بلادهم

مع تزايد عودة اللاجئين السوريّين إلى بلادهم، تشهد سوق العمالة في المناطق ومنها الجنوب تحوّلات لافتة لناحية ندرة العمّال وأصحاب المهن وارتفاع أجورهم، وهؤلاء غالبيتهم من السوريّين، الذين بدأوا العودة إلى بلادهم بعد سقوط النظام، وبعد أن أوقفت مفوّضيّة الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين برامج الدعم الطبّيّ والنقديّ والتعليميّ بسبب نقص التمويل، ما دفع بعشرات الآلاف منهم إلى إعادة النظر ببقائهم في لبنان. وبحسب الأرقام الرسميّة للمفوضيّة، فإنّ أكثر من 172,800 نازح عادوا إلى سوريا منذ الثامن من كانون الأول (ديسّمبر) 2024.

هذه العودة تحمل انعكاسات مباشرة على سوق العمل اللبنانيّة، إذ شكّلت اليد العاملة السوريّة على مدار عقدين ماضيين ركيزة أساسيّة في قطاعات حيويّة كالبناء والزراعة، إذ اعتمد أرباب العمل بشكل كبير على العمّال السوريّين نظرًا إلى تدنّي أجورهم واستعدادهم للعمل في ظروف قاسية، في وقتٍ يتجنّب فيه كثر من اللبنانيّين الانخراط في هذه المهن.

تختلف انعكاسات تراجع اليد العاملة السوريّة من منطقة إلى أخرى، ففي بعض بلدات الجنوب التي طالما اعتمدت بشكل كبير على العمّال السوريّين في الزراعة، بدأ المزارعون يواجهون صعوبة متزايدة في تأمين اليد العاملة. يوضح موسى الشرقاوي من بلدة أرزَي أنّ العمّال السوريّين كانوا يأتون بأنفسهم ويسألونني إن كنت بحاجة إلى عمّال لقطاف مواسم الخضراوات، أمّا اليوم فالوضع تغيّر.

مع رحيل السوريين فراغ مرتقب في سوق العمل اللبنانية

يتابع الشرقاوي لـ “مناطق نت”: “لا يمكن القول إنّ هناك نقصًا حادًّا في اليد العاملة، لكنّهم باتوا يطلبون أجورًا أعلى، خصوصًا مع اقتراب موسم قطاف الزيتون”. يضيف: “يفضّل كثيرون من السوريّين العمل على الإنتاج بدلًا من الأجر اليوميّ، إذ يحصلون على نحو 30 في المئة من محصول الزيتون مقابل القطاف فقط، ويقومون بالعمل بشكل جماعيّ كعائلات، ما يجعل الأمر أكثر ربحًا لهم”.

انعدام العمالة اللبنانيّة

في بلدة عدلون الساحليّة، يواجه المزارع أبو حسن متيرك تحدّيات مشابهة مع موسم قطاف بساتين الحامض والموز، بعدما اضطرّ إلى الاعتماد على العمالة الفلسطينيّة كخيار بديل في ظلّ تراجع اليد العاملة السوريّة. يشرح أبو حسن لـ “مناطق نت”: “أنّ العمّال الفلسطينيّين أصبحوا يشكّلون العمود الفقريّ للورش الزراعيّة، فهم يقبلون بالأجور المتعارف عليها على رغم ارتفاعها بالنسبة لأصحاب الأراضي، إضافة إلى التزامهم بالمواسم وعدم انقطاعهم عن العمل بسبب مشاكل الإقامة أو السفر كما يحدث مع بعض العمّال السوريّين”.

ويؤكّد متيرك أنّ وجود العمّال اللبنانيّين في القطاع الزراعيّ يكاد يكون معدومًا، إذ إنّهم قلّة الذين يقبلون العمل، وغالبًا ما يطلبون أجورًا أعلى مع إنتاجيّة لا تتجاوز أو تضاهي إنتاجيّة غيرهم، فضلًا عن حساسيّتهم تجاه الملاحظات، ما يدفعهم إلى ترك العمل فور حصولهم على فرصة أفضل”.

لا يقتصر أثر غياب اليد العاملة السوريّة على القطاع الزراعيّ فحسب، بل يمتدّ أيضًا إلى مهن شاقّة تتطلّب جهدًا بدنيًّا كبيرًا مثل الأفران وورش النجارة والتلحيم ومحلّات تكرير المياه وغيرها. يوضح أبو علي الطويل من بلدة كفرملكي هذه الحقيقة بالقول “لم أصادف يومًا شابًّا لبنانيًّا يرغب في العمل لديّ، فالاستيقاظ باكرًا للدوام في الفرن أمر يتجنّبه كثيرون، حتّى وإن كانوا عاطلين عن العمل وينتظرون الفرص. غالبًا ما يختارون الأعمّال وفق مزاجهم، بينما يبتعدون عن المهن التي تتطلّب جهدًا ووقتًا”.

الطويل: إنّ رحيل عدد كبير من العمّال السوريّين لم يلغِ حضورهم كلّيًّا، إذ لا يزال هناك من يرغب في العمل

ويتابع الطويل لـ “مناطق نت: “إنّ رحيل عدد كبير من العمّال السوريّين لم يلغِ حضورهم كلّيًّا، إذ لا يزال هناك من يرغب في العمل، في وقت يندر فيه وجود لبنانيّين يقبلون بهذه المهن”. ويلفت أبو علي إلى أنّ بعض العمّال السوريّين لم يعودوا مجرّد عمّال عاديّين، بل طوّروا مهاراتهم وفتحوا محالّهم ومشاريعهم الخاصّة”.

لا غنى عنها

في بلدة كفرحتى، حيث يعمل أبو محمّد مقبل في قطاع البناء، ما زالت اليد العاملة السوريّة حاضرة بشكل ملحوظ على رغم مغادرة عدد من العائلات بعد توقّف تعليم أبنائها في المدارس الرسميّة. يؤكّد أبو محمّد “أنّ أعدادًا كبيرة من العمّال السوريّين ما زالوا يشاركون في الورش إلى جانب لبنانيّين، ما يجعل الاعتماد عليهم غير حصريّ”. يتابع لـ “مناطق نت”: “إنّ بلديّة كفرحتى تفرض نوعًا من التعاون بين العمّال اللبنانيّين والسوريّين، بخلاف بلدات أخرى تسمح للعمّال السوريّين بإدارة ورشهم بشكل مستقلّ، وهو ما يفضّله كثير منهم سعيًا إلى العمل لحسابهم الخاصّ بعيدًا من إشراف معلّم بناء لبنانيّ”. هذا الواقع، بحسب أبو محمد، يخلق صعوبات إضافيّة في تنظيم اليد العاملة، ويجعل عمليّة إيجاد العمّال السوريّين أكثر صعوبة.

في بلدة عربصاليم، يوضح أبو علي عبّود أنّ البلديّة طلبت من النازحين السوريّين تسوية أوضاعهم القانونيّة أو مغادرة البلدة، الأمر الذي ربّما يسبب نقصًا واضحًا في اليد العاملة، لا سيّما أنّ العمّال السوريّين يشكّلون العصب الأساس لتلبية حاجات السوق المحلّيّة. ويشير أبو علي إلى صعوبة الاعتماد على الأيدي العاملة اللبنانيّة. لافتًا إلى أنّ الحصول على موعد مع معلّم لبنانيّ يكاد يكون أصعب من لقاء وزير، إذ يضطرّ إلى الاتّصال مرارًا وتكرارًا من أجل حلّ مشكلة طارئة كإصلاح عطل في السباكة أو الكهرباء، لكن غالبًا من دون نتيجة.

المزارع أبو ركان

وإذا كان غياب اليد العاملة السوريّة قد بدأ يترك بصماته الواضحة في قطاعات الزراعة والبناء والمهن الحرفيّة في عدد من البلدات الجنوبيّة، فإنّ الصورة في بلدة كفربيت تبدو مختلفة بعض الشيء. هنا، يستلم أبو ركان الحسن رعاية عدد من الحدائق، حيث يهتمّ مع عائلته بسقايتها وزراعة الخضروات لأصحابها المقيمين في بيروت أو في الخارج.

تقترح لارا حلّال، كأحد الحلول العمليّة، إعداد قائمة شاملة بأسماء المهنيّين والحرفيّين المحلّيّين في كلّ بلدة – من معلّمي البناء والنجارة والكهرباء والسباكة

يحصل أبو ركان على بدل شهريّ يقارب الـ 300 دولار عن كلّ حديقة، ويشرف عادة على ما لا يقلّ عن ستّ حدائق شهريًّا. وعلى رغم التغيّرات السريعة التي حصلت في سوريا، فإنّه لا يفكّر في العودة، إذ يعيش مع عائلته في البلدة التي نشأ فيها أولاده وبناته وأسّسوا أسرهم في قرى إقليم التفّاح. يقول أبو ركان لـ “مناطق نت”: “أنا مرتاح هنا، والوضع في سوريا لا يزال غير مستقرّ. جئت إلى لبنان العام 2007 للعمل ولم أكن نازحًا آنذاك، لكن بعد اندلاع الحرب العام 2012 التحقت بي عائلتي واستقرّت هنا، إذ أصبح لدينا أصدقاء وجيران، ولذلك لا نفكّر في العودة”.

مبادرات محلّيّة

في ظلّ تراجع اليد العاملة السوريّة وما يتركه ذلك من تأثير مباشر في القطاعات الزراعيّة والحرفيّة والبنائيّة في البلدات اللبنانيّة، تبرز حاجة ملحّة إلى مبادرات محلّيّة تعزز من قدرة المجتمع على التكيّف مع هذه التغيّرات. وتقترح لارا حلّال، كأحد الحلول العمليّة، إعداد قائمة شاملة بأسماء المهنيّين والحرفيّين المحلّيّين في كلّ بلدة – من معلّمي البناء والنجارة والكهرباء والسباكة وصولًا إلى العاملين في الزراعة والتنظيفات – مرفقة بأرقام هواتفهم، وتعميمها عبر مجموعات البلديّات على وسائل التواصل الاجتماعيّ.

مثل هذا الإجراء يسهّل وصول الأهالي وأصحاب المشاريع إلى اليد العاملة المتوافرة محلّيًّا، ويساهم في بناء شبكة دعم داخليّة تخفّف من الاعتماد على العمالة الخارجيّة، وتفتح في الوقت نفسه المجال أمام تشغيل مزيد من اللبنانيّين. خطوة من هذا النوع ربّما تشكّل مدخلًا أساسًا نحو تعزيز الاستقرار الاقتصاديّ والاجتماعيّ، وتخفيف حدّة الأزمة التي تواجهها سوق العمل في ظلّ المتغيّرات الراهنة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى