سوق صور القديمة ذاكرةٌ من حجارةٍ وملحٍ وفخّار

في مدينةٍ تتنفّس من البحر، تنصهر الرائحة في التاريخ، وتتداخل الحجارة مع الذاكرة. صور، المدينة التي تُعيد تعريف البحر كمرآةٍ للحضارة. كلّ موجة تضرب شاطئها تُوقظ فينا مملكة الفينيقيّين، وتذكّر بأنّ هذه الأرض كانت يومًا تصدّر الأرجوان إلى العالم. وعندما تدخل سوق صور القديمة، تقف أمام نَصّ حيّ من الطين والحديد والعطر، تتشابك فيه الأزمنة كما تتشابك روائح الفول والتوابل والعنبر.

ميلاد السوق من أنقاضها

تقول اليافطات المثبّتة على مداخل السوق إنّ إعادة بنائه تمّت العام 1750، في زمنٍ كان الجنوب اللبنانيّ يعيش تحوّلاتٍ عمرانيّة وتجاريّة دقيقة. أُعيد البناء من حجارة المدينة نفسها، من بقايا الجدران والبيوت التي تهدّمت عبر العصور، وكأنّ السوق نهضت من ذاتها. كلّ حجر فيها يحمل تاريخًا، وكلّ قوسٍ هو جملة ناقصة من مدينةٍ عرفت السقوط والنهوض مرارًا. البنّاؤون أرادوها امتدادًا للمدينة، فاستعانوا بموادّها الأصليّة: الحجارة الرمليّة، الأخشاب الداكنة، والحديد المشغول على نارٍ خفيفة. ومنذ ذلك الحين، تنفّست السوق بحر صور، وروت للمارّين حكاياتٍ تشبه الموج، تأتي وتعود وتبقى.

خان ربو: ذاكرة تتدلّى من الحجر

من بين الأبنية التراثيّة التي ما زالت تزيّن السوق، يبرز خان ربو الذي شُيّد العام 1810، وكان مركزًا تجاريًّا مهمًّا كما تشير اللافتة المعدنيّة المثبّتة عند بوابته المقوّسة. حين تمرّ تحته تشعر بأنّك تدخل إلى قلب التاريخ: جدران سميكة من الحجر الرمليّ، أقواس متتالية كأنّها أنفاق للذاكرة، وباحات داخليّة استقبلت القوافل القادمة من فلسطين وسهل الحولة وجبل عامل. الخان كان ملتقى للتجّار ومكانًا للنوم والتبادل، وللمساومة على الأقمشة والتوابل والفخّار. اليوم، يتحوّل إلى مادّة متحفيّة لعيون الزوار الذين يبحثون عن ظلٍّ من الماضي وعن صورٍ لم تلتقطها الكاميرات بعد.

خان ربو في سوق صور القديمة منذ العام 1810
جغرافيا الحواس في الأزقّة

على بُعد أمتار من البحر، تفتح السوق أبوابها كحكايةٍ مشتهاة. الدخول إليها تجربةٌ حسّيّة كاملة. الرائحة أوّلًا، مزيج فولٍ يغلي منذ الفجر، زيت زيتون يقطر على الحمّص، دخان شواءٍ يتسلّل من الأزقة، وعطر فانيليا يهرب من متجر صغير. الألوان بدورها تغنّي المشهد؛ جدران دافئة متعبة، علب توابل مصفوفة كفسيفساء، أباريق فخّاريّة مصطفّة على رفوفٍ حجريّة كأنّها تماثيل. الأصوات تشكّل موسيقى السوق؛ مناداة الباعة، صرير الأبواب المعدنيّة القديمة، وقع الأقدام على الأرضيّات الرطبة، وضحكات نساءٍ يساومن على ثمن ركوة نحاسيّة. السوق كائنٌ حيّ يتحدّث بلغاتٍ كثيرة، وينبض بتنفّس العابرين.

في زاويةٍ تعبق برائحة الفول، يقف مطعم بارود شاهدًا على سيرةٍ إنسانيّة بدأت في حيفا العام 1945. الجدّ كان يطبخ الفول في زقاقٍ قريبٍ من البحر، ثمّ انتقل إلى لبنان، وجاء إلى صور ليواصل ما بدأه في فلسطين. الأحفاد اليوم يقفون خلف القدر نفسه، يحملون الملعقة النحاسيّة ذاتها، ويقلبون الفول كما لو أنّهم يقلبون ذاكرة العائلة.

حرفيّون وأسماء محفورة

بين الدكاكين، تتدلّى اللافتات الخشبيّة القديمة التي تحمل أسماء العائلات: “آل فرّان”، “آل عواضة”، “محلّ زيدان”، “النحّاس العربيّ”. الأبناء ورثوا هذه المحال عن آبائهم. في أحد الأزقّة دكّان صغير بمساحة مترين يفيض بعالمٍ من التراث؛ أباريق فخّاريّة، صحون ملوّنة بخطوط زرقاء، جرار تحمل رائحة الأرض. بجانبه متجرٌ للنحاسيّات يعرض دلّة القهوة بفخر، وركوة صغيرة من تراث البداوة. أمّا دكاكين القشّ والقصب، فهي لوحات من ذاكرة الريف؛ سلال معلّقة ومكانس طويلة وقبّعات ومقاعد منسوجة بخيوطٍ صفراء وبنّيّة. البساطة هنا تتحوّل إلى فنٍّ مكتمل.

روائح القهوة والمشاوي والعطور

الروائح تتابع عزفها، والمقاهي الصغيرة تفتح أبوابها كابتسامةٍ في منتصف الزقاق. القهوة العربيّة تُقدَّم في فناجين مزخرفة بالذهب الخفيف، ورائحة الهال تعبق في الهواء. بجانبها محلّ عطورٍ تقليديّ يضع قواريره الزجاجيّة الصغيرة على رفوفٍ خشبية. المسك والعنبر والياسمين تتنافس مع دخان المشاوي الصاعد من الشارع الجانبيّ، حيث يقف شاب يشوي اللحم على فحمٍ متّقد. الدخان يلتفّ حول الناس مثل ستارةٍ دافئة، والرائحة تمتزج بنسيم البحر الذي يمرّ من جهة الميناء. هناك في الأفق لمّاحة زرقاء تذكّر بأنّ السوق مبنيّة على كتف البحر، تراقبه كصديقٍ قديم.

يقف شاب يشوي اللحم على فحمٍ متّقد. الدخان يلتفّ حول الناس مثل ستارةٍ دافئة، والرائحة تمتزج بنسيم البحر

عمارة السوق قطعة شِعرٍ حجريّة. الجدران من الحجر الرمليّ الأصفر، الأرضيّات مرصوفة ببلاطٍ خشنٍ يُصدر صدى خاصًا. في الطابق الأوّل شرفات صغيرة بأرضيّاتٍ رقيقة، تتدلّى منها نباتات متعبة لكنّها حيّة، وتزيّنها درابزونات حديديّة مشغولة يدويًّا بزخارف بسيطة. بعض الأبنية يحتاج إلى ترميمٍ عاجل إذ ثمّة أسقف متصدعة، وأبواب فقدت ألوانها، وجدران نالت منها الرطوبة البحريّة. مع ذلك، يبقى البناء شامخًا، يعكس صلابة مدينةٍ قاومت كلّ الغزاة.

 كلّ حجر هنا يعرفني

اليوم تعيش السوق بين حنين الأمس وضغط الحاضر. الأبنية تتعب، والمهن التقليديّة تتقلّص، والحياة تستمرّ. شيخ يجلس أمام دكانه منذ أربعين سنة يبيع التذكارات النحاسيّة ويقول: “كلّ حجر هنا يعرفني”. على بعد خطوات، ثمّة شاب يفتح محلًا يبيع القهوة المحمّصة محلّيًّا في أكياس قماشيّة كتب عليها “صنع في صور”. بينهما تمرّ امرأة تحمل سلّة قشّ فيها صابون زيت الزيتون وزهر الليمون. السوق تعيش على إيقاعٍ مزدوج: ماضٍ يهمس ومستقبلٌ يحاول أن يصغي.

لقد خضعت سوق صور القديمة في السنوات الأخيرة إلى عمليّات ترميمٍ حديثة أعادت إليها جزءًا من بهائها. يمكن ملاحظة ذلك في صفاء الحجارة التي نُظِّفت بعناية، وفي القرميد الأحمر الذي غطّى بعض الأسطح ليحميها من الرطوبة، وفي الأرض التي أعيد رصفها لتستعيد ملمسها القديم بروحٍ جديدة. هذه اللمسات لا تُعيد البناء وحسب، بل تُرمّم الذاكرة أيضًا، لأنّ كلّ حجر تمّ تنظيفه بدا كأنّه يستعيد صوته القديم. أبنية السوق ما زالت بحاجة إلى متابعة هندسيّة دقيقة، إلى صيانة النوافذ الخشبيّة، وإلى ترميم الأقواس التي أثقلتها السنوات.

من صور الفينيقيين إلى السوق

تاريخ صور أطول من مدّ البحر. من هنا انطلقت فينيقيا إلى قرطاج ومالطا وقادس. من هنا وُلدت فكرة التجارة البحريّة، ومن هنا أبحر الأرجوان نحو القصور الملكيّة. حين تسير في السوق تشعر أنّ الإرث الفينيقيّ ما زال حاضرًا، متحوّلًا من سفنٍ إلى متاجر صغيرة، ومن أمواجٍ إلى ممرّاتٍ تتنفّس بالعطر والموسيقى. العثمانيّون أضافوا أقواسهم، العرب تركوا نوافذهم الخشبيّة، الفرنسيّون رمّموا بعض الواجهات، واللبنانيّون وضعوا ألوانهم وأرواحهم. صور القديمة اليوم مدينةٌ تسير فوق طبقات الزمان، وسوقها هي اللسان الذي يروي حكايتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى