سياسة: كم دفعت..وكم قبضت؟
حسين حمية
لدي شغف بالاستعارات، لها عندي متعة مستقلة قادرة بمفردها على إطراب الذهن وتسلية الروح، وأحيانا بكلماتها القليلة تخطف السرد كله ولو طال في كتاب بأكمله. هناك من المعاني ما هو مثل الأشياء، ومنها ما هو مثل العطر الثمين الذي نتخير أوعية لائقة وحافظة له، وهكذا الاستعارات هي عقاقير المعاني النفيسة.
كان أقصى تحقير للسياسة، تلك المأثورة الإنكليزية الشهيرة “ليس هناك صداقات دائمة بين الدول إنما…”، مع ذلك، كنتُ أشعر داخليا بأن هذا لا يكفي، يجب تحقيرها وتجريمها بما هو أكثر. “أكره” بين مزدوجين، (الكره على معنى سياسي وليس حقدا) النظام السوري والإيراني والروسي وحزب الله، مع هذا، ليس لا أحب فقط، إنما “أكره” بذات الدرجة وأحيانا أكثر، المعارضة السورية ودول الخليج وأميركا وأوروبا وإسرائيل ومن كانوا يتسمون ب 14 آذار وشيعة السفارة، دائما أتمزق في هذه المعادلة وهي: فضيلة معاداة الثنائي الشيعي تعادل خطيئة تأييد الفريق المضاد، وهكذا في سوريا واليمن والعراق والشرق الأوسط ومع العالم كله.
“هزلت السياسة، ثم هزلت، ثم هزلت، ثم هزلت..ثم وثم..” وجاء دونالد ترامب رئيسا لأميركا، وقام بعصر المقولة الإنكليزية كما يضغط بكفّه على مصافحيه، وأفرغ منها ما علق بها من فتات قيم ومبادىء وأسس متوافق عليها وأعراف، كانت ولو أنها شحيحة وضئيلة تحفظ حدّا معينا من السكينة الدولية، وقام بمسخ الحكمة البريطانية لأرذل صورها، لا صداقات في السياسة، حتى لا وجود للسياسة، هناك فقط الصفقة.
أتابع في قراءاتي اليومية، صحافيا إسرائيليا، ليس لمعلوماته، إنما لأسلوبه في اختيار المعنى، فهو في سلوكه لا يختلف عن الصيّاد في إصابة الطريدة، كأنه يسأل عندما تراوده الفكرة: هل أصبتُ المعنى بهذه الكلمات، وإذا نجح، يردد في نفسه: بهذه الاستعارة لا يمكنه الفرار.
كان يتحدث عما يجري في الجنوب السوري، هناك تبخّر كل شيء، لا أحد يتكلم بسياسته، لا الأميركيون ولا الروس ولا الأردنيون ولا الإسرائيليون ولا السوريون ولا الإيرانيون، قال ما يدور هناك، هو شبيه بما يجري في بيت الدعارة، فالسؤال المفتاح للصفقة، هو كم الثمن؟
للمنتصر: كم دفعت؟ وللمهزوم: كم قبضت؟ وهكذا العالم كله، لقد ماتت السياسة وعاشت الصفقة.