سيرة خالد العبدالله وفرقة “جيلان”.. الأب والإبن والروح الموسيقيّة التجديديّة
لا شيء يُذكر إلّا تعابير وجهه وهي تتناغم مع الطرب على صوت جميل آتٍ من بعيد، أو على كلام فريد يقوله أحدهم أو على جواب ثاقب لمّاح من أحد طلّابه. يغمض عينيه ليتلّقى الجمال ويسرح في تأمّلات ربّاها وربت عليها لسنين في داخله، ليقدّس الجمال وبالتحديد ذاك الذي تخلقه فيه الموسيقى والصوت. ويا خالد من هو هذا الصوت الساحر الذي تذكره ولا يفارقك؟ “صوت أمّي، الرائع. أقول ذلك على رغم أنّني سمعته لمرّات تُعدّ على الأصابع”.
وُلد خالد العبدالله في العام 1970 في بلدة كفرشوبا في جنوب لبنان، ضمن عائلة كبيرة مؤلّفة من ثمانية شبّان وبنتين، هو الابن الثامن فيها. وُلد العبدالله وسرعان ما فتح أذنيه على أصوات الحرب والقصف في كفرشوبا، هو الذي لا يذكر من ضيعته إلّا جولات المشي الطويل بين الجبال وأصوات المدافع. بسبب الحرب عاش العبدالله طفولة متنقّلة بين كفرشوبا والنبطيّة وعبرا التي غنّى لها في ما بعد “عبرا عروس مزيّنة ومزيّنة برجالها”.
أصوات القصف من ميل وصوت أغنية “يابا له” لطوني حنّا من ميل. صوتان كانا يطرقان أذنيّ خالد الطفل في آن، ولكنّه اختار أن يتبع أثر دندنة هذه الأغنية، “كنت مدمنًا على دندنتها، وذلك في أواخر السبعينيّات. شعرت أنّني أملك هذه الروح بداخلي منذ صغري، روح الموسيقى، على رغم أنّ العائلة لم تخرّج فنّانين. ومنذ تلك اللحظة بدأت أحلم” يقول خالد العبدالله في حديث إلى “مناطق نت”.
عود الطفولة الأبديّ
“اخترت الموسيقى لوحدي، لم يساعدني أحد بذلك، اتّبعت إحساسي وتلك الدندنة التي رافقتني وقد منحتني شعورًا ساحرًا. كنت طفلًا، عندما سمعني أخي أدندن، وكنّا نسكن في صيدا، فاشترى لي عودًا، تعلّمت العزف عليه من خلال أستاذ خاص اسمه أحمد المصريّ، كان عازف عود وكمنجا” يقول العبدالله.
ويتابع: “كانت بدايتي على يد هذا الأستاذ، إلى أن تسجّلت في الكونسرفتوار ودرست مدة خمس سنوات عودًا وغناءً شرقيًّا، ثمّ دخلت إلى كلّيّة الفنون لأدرس المسرح، وبعدها تخصّصت في كلّيّة الحقوق وأصبحت محاميًّا. فعلت كلّ تلك الأشياء معًا، بالتزامن”.
في سنّ الثامنة عشرة تقدّم العبدالله على برنامج ليالي لبنان الذي كان يُعرض على تلفزيون لبنان، ثمّ شارك في استوديو الفنّ في العام 1993 وحاز المركز الأوّل عن فئة الطرب العربيّ، “ولكنّني رفضت توقيع العقد مع المخرج سيمون أسمر، والذي ينصّ على التعاقد مدّة 15 عامًا، وذلك لأنّني ومنذ صغري لديّ شعور عارم بأنّني حرّ”.
بين مطرقة المحاماة وروح الفنّ
“مارستُ المحاماة مدّة أربع سنوات، وإلى جانب مهنتي استمرّيت بمسيرتي الفنّيّة والموسيقيّة ولكن كهواية ليس أكثر. أثناء مهنتي كمحامٍ أذعت برنامج “طلّ القمر” على قناة المستقبل، استضفت في خلاله فنّانين على مدى ليالي شهر رمضان، فاعتبرت نقابة المحامين أنّني أمارس مهنتين، وفي المحاماة لا يجوز الجمع بين مهنتين. فعلّقت عضويّتي في مهنة المحاماة واخترت الموسيقى والفنّ” يقول العبدالله.
بعد اختياره للفنّ وتركه مهنة المحاماة بدأ خالد العبدالله التدريس في كلّيّة الفنون في الجامعة اللبنانيّة “على رغم أنّني لا أحبّ التعليم، ولكن لأنّني أعلّم في المجال الذي أحبّه وأتقنه، لا أعتبر ذلك تعليمًا، بل هو متعة وتبادل خبرات، فأنا آخذ من طلّابي وأقدّم لهم في المقابل”.
خالد العبدالله: أثناء مهنتي كمحامٍ أذعت برنامج “طلّ القمر” على قناة المستقبل، فاعتبرت نقابة المحامين أنّني أمارس مهنتين، وفي المحاماة لا يجوز الجمع بين مهنتين. فعلّقت عضويّتي في مهنة المحاماة واخترت الموسيقى والفنّ
يتابع العبدالله: “اخترت المحاماة تأثّرًا بأخي الأكبر الذي درس العلوم السياسيّة وهو مثقّف وذكيّ، نصحني أن أدرس الحقوق ففعلت، وأبدعت في امتحانات الدخول. المحاماة عمل عظيم ومهمّ، ولكن لو أردت التفكير في الحياة التي نعيشها مرّة واحدة، فأنا أفضّل عيشها بالإبداع وخلق الفنّ وتغذية روحي”.
وهل ندمت لتركك المحاماة؟ يقول: ” تردّدت في البداية، فكلّ الناس من حولي قالوا لي “حدا بيترك المحاماة وبروح عالمسرح والفنّ اللي ما بيطعمي خبز؟”، فذهبت إلى صديق مثقّف كبير اسمه عبدالله الأحمد واستشرته فقال لي جملة واحدة: “كم هناك من محامٍ في العالم العربي؟ بالمقابل كم هناك من الفنّانين المبدعين؟”، فقرّرت بثانية واحدة”.
ويضيف العبدالله: “هو لم يكن صراعًا بين العقل والقلب، فالعقل والقلب عندي في توازن دائم. الإحساس بالنسبة لي أقوى، ولكنّني في حاجة ماسّة إلى عقلي لكي أبرهن أنّني قادر من خلال عقلي على أن أحارب و”أبطش” ولكن ولأنّ روحي وقلبي في مكان نظيف، أنا قادر دائمًا على أن “أبطش” ولكنّني أبدًا لا أفعل”.
“الخيالُ شَجَاعَة”
غاص خالد العبدالله في عالم “التأمّل” وهو صبيّ في التاسع عشر من عمره، ما فتح له أبوابًا على الإبداع والخيال. يقول العبدالله: “لم أنقطع عن التأمّل ولو ليوم واحد، حتّى لو كنت في زيارة عند الأصدقاء أو الأقارب أستأذن وأدخل لأجلس في عزلة تامّة من أجل التأمّل، ما فتح لي أبوابًا داخليّة، لا تزال تتفتّح أمامي إلى اليوم، وقد جعلت بين التأمل وبين الصوت والموسيقى رابطًا، إلى أن أثبتُّ في رسالة الدكتوراه إنّه كما يقولون “في البدء كانت الكلمة”، أنا أقول “في البدء كان الصوت”.
ويتابع العبدالله: “الفنّ يحتاج تأمّلًا، لأنّ عماد الفنّ الإبداع وخلق الأفكار الجديدة إن كان بالصوت أو الموسيقى أو التمثيل، فإذا لم تستطع خلق شيئ جديد اذهب والعب في ملعب آخر. والعامل الأساس في عمليّة خلق الفنّ هو الخيال، الخيال هو شَجَاعَة، بالخيال يستطيع الفنّان أن يفتح الأبواب التي يريد وأن يناقش ما يريد، وأن يكون حرًّا”.
ويضيف: “غالبًا ما يقولون إنّ الفنّان من أجل أن يبدع عليه أن يكون مدمَّرًا وحزينًا وأن يتعرّض لفاجعة، بالنسبة لي الأمر عكس ذلك تمامًا. ليس عليك أن تُفجع لتبدع، أنت فنّان، ابدع بفرحك وجنونك وحزنك وبكلّ حالاتك”.
“جيلان”: الأب والإبن والروح الموسيقيّة
منذ سنتين أسّس خالد العبدالله وأسامة الخطيب ونجلاهما آدم وإبراهيم فرقة “جيلان” وهي فرقة موسيقيّة لبنانيّة برؤية جديدة، تتألّف من جيلين كما اسمها: الأب والابن. الفنّان خالد العبدالله (غناءً وعودًا) وابنه آدم العبدالله (غناء، بيانو، كيبورد). الفنّان أسامة الخطيب (غناء وغيتار باص) وابنه إبراهيم الخطيب (درامز).
بالحديث عن البدايات يقول خالد العبدالله: “أنا وأسامة الخطيب أصدقاء منذ زمن طويل، وكنّا قد عملنا سويًّا سابقًا، وبالصدفة تعرّف ابني آدم الذي يغنّي ويعزف على البيانو إلى ابنه إبراهيم الذي يلعب على آلة “الدرامز”. في زيارة إلى أسامة كنّا جالسين نحن الأربعة، فبدأت أدندن وأرتجل، فرافقوني بالعزف والإرتجال. خلقنا جوًّا ساحرًا بالدمج بين الآلات الغربيّة والغناء الشرقيّ. فقرّرنا بعد تلك الأمسية أن نخلق شيئًا جديدًا ممّا ارتجلناه في تلك الليلة، وكنت قد أخذت على عاتقي إيجاد اسمٍ لفرقتنا، فوُلدت “جيلان”.
تمزج “جيلان” بين ما هو خاص بها من تأليف وتلحين الفرقة، وبين ما هو إعادة إحياء أغانٍ مختلفة بين الطرب والجاز و”الروك” والأغاني الصوفيّة.
في هذا الصدّد يقول أسامة الخطيب في حديث إلى “مناطق نت”: “نشأة فكرة جيلان نابعة من رغبتنا في تقديم شيء مختلف يعبّر عن هذين الجيلين، ويجمع بين أفكارنا القديمة والمخضرمة وبين أفكارهم الحديثة والتجديديّة. نتاجًا لذلك كانت جيلان التي تشكّل خليطًا بين شخصيّاتنا وخبراتنا، فهي فرقة تشبهنا جميعنا نحن الأربعة سويًّا وليس كلّ واحد على حدة”.
ويشير نجله إبراهيم الخطيب إلى “مناطق نت”: “فرقة جيلان بحدّ ذاتها هي فكرة مثيرة، منحتنا الفرصة للتعبير عن طريقتنا في صناعة الموسيقى وعن طريقة آبائنا في الوقت ذاته. أنا في البداية كنت أعزف على البيانو، ولكن حبّي للتجريب أخذني إلى الدرامز، وقد أتقنت العمل عليها”.
في حديث إلى “مناطق نت” مع آدم العبدالله يقول إنّه أخذ من والده كثيرًا، هو الذي نشأ في بيت محاط بالفنّ والموسيقى بعكس خالد، “رافقتني الموسيقى منذ صغري بسبب والدي، وقد دخلت إلى الكونسرفتوار في سنّ التاسعة لأتعلّم العزف على البيانو. وفي ما بعد علّمني والدي العزف على العود وبدأت بتطويرها بنفسي” يقول آدم.
ويتابع آدم: “جيلان هي من أجمل الأشياء التي حدثت معي. ساعدتني هذه الفرقة بالتطوير من ذاتي وخبراتي، لأنّ فكرة العمل مع أشخاص محترفين كالأستاذ أسامة ووالدي خالد تلزمني التقدّم دائمًا والعمل على تطوير عملي. الآن تجهّز جيلان لأغنية جديدة، وهي أغنية الحلّاج “أين تغيب” وهي في آخر مراحل الإنتاج، وقد وزّعتها أنا شخصيًّا”.
يختم خالد العبدالله: “ما بعد جيلان صارت جمعاتنا عبارة عن مطبخ لهذه الفرقة. حتّى الآن وقفنا على مسرح المدينة وفي الجامعة الأمريكيّة وأقمنا حفلتين في صيدا وواحدة في البحرين لاقت قبولًا واسعًا وقتذاك. جيلان جزء من مشروع كبير، نطمح من خلاله إلى أن نصل عمل جيلان بجمهور العالم العربي وأوروبّا كذلك. أمّا طموحي الشخصيّ فهو أن أتفرّغ في الفترة المقبلة من أجل المسرح، مازجًا بين التمثيل والغناء، اللذين برأيي يجب ألّا يفترقا بتاتًا”.