“سينمات” طرابلس المندثرة.. الجمعة للمسجد والأحد لـ “السيلما”
كانت السينما في طرابلس تبرمج افلامها ابتداءً من يوم الأحد، ممّا أكسبها معاني ضمنيّة وظاهرة. بحسب الباحث خالد زيادة صاحب كتاب “يوم الجمعة، يوم الأحد”: “بقي يوم الجمعة مشدودًا إلى المدينة القديمة، إلى السوق والمسجد. بينما صارت المدينة الحديثة مسرح وسينما يوم الأحد”. هي السينما التي شيّدت لها أوّل صالة في طرابلس العام 1910، واقتصرت على مشاهد الحيوانات والمناظر الطبيعيّة، لكن سرعان ما دخلت إلى المقاهي الشعبيّة كامتداد لأمسيات الحكواتيّ وسيَر “عنتر وعبلة” و”أبو زيد الهلالي” و”الملك الظاهر” وأساطير معاركه. بالإضافة إلى خيال الظلّ والعروض المتنقّلة في شوارع المدينة لصندوق الفرجة.
تحوّلت الكلمة الأجنبيّة سينما إلى “سيلما” بلهجة الطرابلسيّين المحكيّة كما يوثّق الباحث هادي زكّاك في كتابه “العرض الأخير” الذي يعود في بحثه إلى ثلاثينيّات القرن الماضي، عندما راحت طرابلس تتحضّر إلى افتتاح صالات العرض السينمائيّة. بدأ العمل على أدقّ التفاصيل: الستائر، الزخرفة، ونوعيّة الكراسي. كلّها خلقت جوًا كي يسافر المشاهد في رحاب الفنّ السابع.
ازدادت العروض في الخمسينيّات، وباتت الشرائط العربيّة والأجنبيّة، تحتلّ أولويّة مطلقة عند الجمهور. يكتب الممثّل صلاح تيزاني (أبو سليم) في مذكّراته: “كانت السينما من أكثر الأماكن التي ترتادها العائلات من جميع الطبقات للتسلية وتمضية الوقت. وكان الذهاب إلى حضور فيلم ما، هو تمامًا كالذهاب اليوم إلى أرقى السهرات”.
صالات… صالات
دخلت المدينة مرحلة جديدة في الثلاثينيّات بعدما شاهد المتموّل حسن الأنجا تصاميم المسارح الأوروبّيّة في رحلاته، فعاد إلى طرابلس ليشيّد مسرحًا بتصاميم إيطاليّة، حمل المسرح يومها اسم “زهرة الفيحاء”، الذي توافدت إليه الفرق المسرحيّة من مختلف الدول. حتّى إنّ “الآنسة أم كلثوم” غنّت على خشبته، في أيلول (سبتمبر) العام 1931، فيما راحت طرابلس في ثلاثينيّات القرن الماضي، تتحضّر لافتتاح صالات العرض بأدقّ تفاصيلها من الستائر والزخرفة ونوعيّة الكراسي، ومن بينها أقدم صالة في لبنان هي صالة “أمبير” إذ يروي حكايتها الباحث زكّاك في كتابه “العرض الأخير، سيلما”: يقترح نقولا قطّان على أنطوان حبيب شاهين، تشييد “سينما وبلكون” في الطابق السفليّ، على أن تقطن العائلة في الطابق العلويّ.
يقتنع شاهين بالطابع التجاريّ للمشروع، ويشيّد السينما”. عرضت “أمبير” أفلامًا متنوّعة مثل “صراع في الوادي” لعمر الشريف وفاتن حمامة وفريد شوقي (1954). ومن أبرز عروضها، الفيلم اللبناني “عذاب الضمير” لجورج قاعي من بطولة إحسان صادق وميشال تامر ونهوند ولوسيان حرب (1953). في ذاكرة السينما أمسيات حاشدة وأفلام من كلّ حدب وصوب، منها كما عرضت الموجات السينمائيّة العالميّة مثل الموجة الإيطاليّة في فيلم “كان يا مكان في الغرب” (1968)، وموجة الأفلام الهنديّة كـ “أمنا الهند” (1957)، كما ارتبطت السينما بشكل وثيق بتاريخ السينما ونجومها فعرضت سينما “روكسي” فيلم “ذهب مع الريح” (1939)، وبدأ شباب المدينة بتقليد شاربي الممثّل الوسيم كلارك غايبل.
دخلت المدينة مرحلة جديدة في الثلاثينيّات بعدما شاهد المتموّل حسن الأنجا تصاميم المسارح الأوروبّيّة في رحلاته، فعاد إلى طرابلس ليشيّد مسرحًا بتصاميم إيطاليّة، حمل المسرح يومها اسم “زهرة الفيحاء”
صدح صوت ليلى مراد في سينما “ريكس” في فيلمها “قلبي دليلي” (1947) ، فيما توافد الناس بالباصات إلى سينما “الحمراء” لمشاهدة فيلم “شمشون ودليلة” العام 1949. أسماء صالات شكّلت الجيل المؤسّس لصالات السينما في طرابلس: مسرح الأنجا الذي تحوّل إلى سينما “بروكة”، “أمبير” أقدم صالة لبنانيّة، “روكسي” التي تعرض أفلام الأساطير، “دنيا” المتخصّصة بالأفلام المصريّة، “الحمراء“ و”ركس” والأفلام الرومانسيّة، “أوبّرا” تعرض مسيرة وتاريخ السينما العالميّة، أسماء صالات كانت المؤسّس لصالات عدّة بين طرابلس ومينائها البحريّ وحاراتها وصل عددها إلى ما يقارب 30 صالة، بعضها يفتح وأخرى تقفل وصولًا إلى مرحلة الأفول عشيّة الحرب الأهليّة اللبنانيّة 1975.
سينما الحرب
حاولت صالات السينما في طرابلس الصمود، على عكس الصالات البيروتّية التي كانت أوّل من أصابها الرصاص المتطاير بين “البيروتين”، إلى أن وصل الصراع إلى طرابلس ومحيطها وداخل طرابلس وحاراتها. شهدت المدينة نزوحًا بحسب ما يذكر جان توما في كتابه “يوميّات مدينة” عن انتشار الحواجز الطائفيّة. سكّانها من زغرتا وبشرّي والكورة تركت المدينة ولم تعد. انقطع وصول الأفلام بين بيروت وطرابلس وانقطع التيّار الكهربائيّ وبدأت الصالات تقفل الواحدة تلو الأخرى.
أحد المشاهدين يطلق الرصاص من مسدّسه على شاشة الصالة وآخر يطلق النار على شاب يجلس إلى جانبه لأنّه تضايق من صوت “قصقصة” البزر. بعض الصالات تحوّلت إلى ملاجىء احتمى فيها مدنيّون وأخرى تحوّلت إلى مراكز اعتقال ومجازر جماعيّة. افتتحت بعض الصالات أبوابها بخجل في فترات الهدنة وانحصرت في شارع واحد وسط طرابلس.
هي حكاية أعمار صالات سينمائيّة برّزت المرحلة الذهبيّة لانفتاح مدينة متوسّطيّة في فترة الخمسينيّات، كما أظهرت الفوارق الاجتماعيّة والطبقيّة والثقافيّة بتنوّع هندستها الداخليّة بين صالة وبلكون و”لوج”، وبين اختلاف الأفلام المعروضة بين شارع وآخر.
من جهة ثانية شكّلت السينما روابط اجتماعيّة وأماكن للقاء ودخول المرأة والعائلات إلى صالاتها مظاهر الحداثة والتي تبلورت منذ أواخر الأربعينيّات وصولًا إلى أواخر الستينيّات من القرن الماضي، على رغم تسجيل حركات احتجاج أحيانًا على بعض المظاهر والمشاهد من مجموعات محافظة جدًّا. لكن بدت شعبيّة السينما أقوى وفرضت نفسها في أوساط واسعة وهذا مهمّ للغاية كونها أصبحت المكان الجامع لمختلف الطبقات الاجتماعيّة، على نحو ما دوّن الباحث خالد زيادة في كتابه “يوم الجمعة، يوم الأحد” عن التنوّع الثقافي للمدينة: “والحقّ أنّ السينما كانت هي الأخرى منذ الأربعينيّات والخمسينيّات قد افتتحت لها صالات واسعة ذات قدر وأناقة خصوصًا تلك التي تقع في وسط المدينة الحديثة”.
ويضيف: “واقع الأمر أنّه كان ثمّة نوعان من دور العرض تمثلان درجتين متعاقبتين: الأولى التي تحمل بغالبيّتها أسماء أجنبيّة وتعرض الأشرطة الأميركيّة والأوروبّيّة، والأخرى التي تحمل الأسماء العربيّة والتي تعرض الأفلام المصريّة”.
شكّلت السينما سلوى لأهالي المدينة بامتياز، كانت مكان اللقاء وربط العلاقات الاجتماعيّة، والمكان المؤثّر في تطوّر تلك العلاقات. كان للسينما دورها في العلاقات الاجتماعيّة، ومراحلها التاريخيّة (الاجتماعيّة والثقافيّة) تشبه إلى حدّ بعيد صورة طبق الأصل لمراحل المدينة وتحوّلاتها من ثلاثينيّات القرن الماضي حتّى يومنا هذا.
استند هذا المقال بمصادره إلى كتاب” العرض الأخير” لهادي زكّاك.