سينما الأمبير طرابلس تطفئ شاشتها وتشرّع صالتها للنازحين
حوَلت الحرب الإسرائيليّة على لبنان سينما “الأمبير” الشاهدة على “مرحلة العزّ” الطرابلسيّة إلى مركز إيواء لعشرات العائلات القادمة نزوحًا من جنوب لبنان. عند مدخل السينما، تستقبلك “أفيشات” أشهر أفلام السينما العربيّة إبّان حقبة الثمانينيّات والتسعينيّات، ومكتبة مليئة بالمؤلّفات والمراجع، تثير رفوفها مخيّلة الزائر. ما هي إلّا خطوات حتّى يأتي دور كشك الحجز، فيحكي عن توقّف عداد العروض عند “التيكت” بسعر خمسة آلاف ليرة لبنانية للصالة، وسبعة آلاف في “البلكونة”. في قاعة الانتظار، يتشارك الشبّان تجاربهم الشخصيّة مع الحرب وقصص النزوح المفاجىء.
سينما الحرب
في الداخل، يحمل المخرج قاسم اسطنبولي كاميرته التسجيليّة لتوثيق تجارب المواطنين. يروي اسطنبولي أنّه “قبل ثمانية أشهر، خصّصنا باصات لجلب الطلّاب إلى المسرح الوطنيّ في صور من أجل نشاطات تثقيفيّة وتوعويّة”، كاشفًا “خلال الأشهر الأولى التي أعقبت الثامن من أكتوبر 2023، نزح أبناء القرى الحدوديّة إلى مدينة صور، فقمنا بتنظيم ورش خاصّة بهم، وقمنا بتدريب 300 طفل وشابّ على مدى ستّة أشهر”.
مع اشتداد القصف على مدينة صور ومحيطها، طالب بعضهم بالبقاء في السينما لاتّقاء خطر الانتقال، فراح المسرح يتحوّل رويدًا رويدًا إلى مركز إيواء”، متحدّثًا عن استهداف محيط السينما في مدينة صور، وسقوط شهيدة من بين المتدرّبات تدعى سيلينا السمرا التي فارقت الحياة برفقة عائلتها، بينما نجت شقيقتها سيلا.
جاء قرار النزوح شمالًا نتيجة اشتداد الحرب جنوبًا وازدياد التهديدات الإسرائيليّة، وانضمّت سينما الأمبير إلى شقيقتها الجنوبيّة لاستقبال الهاربين من جحيم الحرب، قائلًا: “لا يمكن الجزم بوجود مكان آمن بالمطلق في ظلّ الحرب الهمجيّة، ولكن نحاول قدر الإمكان تأمين مساحة مفتوحة للجميع”.
يلفت اسطنبولي إلى استمرار المسرح بعمله لناحية العروض، مضيفًا: “يحقّق المسرح إحدى غاياته من خلال استقبال النازحين وعدم تركهم يبيتون في الشارع، وتحقيق اللُحمة بين أبناء الشمال والجنوب، وإقامة جسر بين أبناء الوطن”. يؤكّد اسطنبولي أنّ “المسرح مفتوح للجميع، وكلّ من يريد المبيت مرحّب به”، مشيرًا “إلى وجود حوالي 50 شخصًا موزعين على موقعين، فإلى جانب السينما استأجرنا شقّة، وقمنا بتوزيع النساء لتأمين راحتهن”.
ويتحدث اسطنبولي عن “محاولة المسرح تأمين الحد الأدنى من الخدمات للضيوف من مأكل ومشرب، وماء ساخن. كما تواصل الورش عملها من خلال إتاحتها للنازحين التفريغ والتعبير عن مكنونات النفس والمعاناة والتجارب الشخصيّة”، انطلاقًا من أنّ “المسرح هو وسيلة للعلاج النفسيّ وتجاوز الأوجاع والضغوط”. ويكشف اسطنبولي عن “التوجه نحو تجهيز سينما الكوليزيه في الحمرا (بيروت) كي تتحول إلى مركز إيواء إضافيّ، تضاف إلى المراكز في مدينتي صور وطرابلس، وهي تستعدّ لتنضمّ إلى مشروع انطلق من صور في العام 2014، ونضج في طرابلس في 2022 من خلال إعادة إحياء سينما الأمبير التي توقّفت عن العمل نحو ثلاثة عقود”.
قاسم اسطنبولي: المسرح مفتوح للجميع، وكلّ من يريد المبيت مرحّب به. يوجد حوالي 50 شخصًا موزعين على موقعين، فإلى جانب السينما استأجرنا شقّة، وقمنا بتوزيع النساء لتأمين راحتهن.
لم تبخل طرابلس على زوارها، فقد أبدى أهلها كلّ تعاون مع أعمال الإغاثة. ونهض شبّانها ونساؤها من أجل “إغاثة الملهوف” دونما سؤال عن خلفيّته المناطقيّة أو الحزبيّة. ويجتمع ضيوف المسرح على شكر “أمّ أمير” جارة السينما التي لم تتركهم، وتقوم بشكل يوميّ بالطبخ لهم في منزلها، أو تأتي لمساعدتهم داخل المسرح. في الموازاة، يقوم ناشطون بتقديم الأطباق الساخنة بصورة يوميّة. ناهيك بمجموعة من الخدمات والتقديمات العينيّة.
قصص لا تنتهي
بين زوايا سينما الأمبير في طرابلس، تتردّد قصص المواطنين الهاربين من الاعتداءات الإسرائيليّة التي لم تميِّز بين حجر وبشر. فالسينما التي عادت إلى الحياة بهمّة المخرج قاسم اسطنبولي في 2022 ضمن رؤية “المسرح الوطنيّ اللبنانيّ”، تحوَلت إلى مركز للإيواء حيث تقيم عشرات من العائلات اللبنانيّة والسوريّة والفلسطينيّة التي تتشارك يوميّاتها ضمن مساحة ساكنة وآمنة بعيدًا من هدير الطائرات الحربيّة، وأزيز الصواريخ، ومشاهد الدمار وصراخ الأبرياء التي شكّلت ضغطًا نفسيًّا شديدًا.
يتحدّث الشاب العشرينيّ رأفت عن جلجلة النزوح التي استمرّت لساعات طويلة من صور إلى صيدا وصولًا إلى تقطّع الأوصال بهم في خلدة، وأخيرًا إلى طرابلس، تخلّلتها لحظات الخوف من الاستهداف “لا تنسى”، والسير على الأقدام مسافات طويلة من أجل بلوغ عاصمة الجنوب صيدا بفعل توقف خطوط النقل وغياب سيارات الأجرة بسبب الخوف من الطيران المسيَر.
يبيت الشاب برفقة مجموعة من الشبان في الطابق العلوي “البلكونة” للمسرح التي كانت تعتبر مكانًا مخصّصًا للشخصيّات المهمّة VIP لمتابعة العروض. يحاول هؤلاء التكيُّف مع الواقع المستجد، يقول رأفت: “اعتدت طوال سنوات على روتين العمل في مجال المخبوزات، حيث يبدأ النهار باكرًا جدًّا، وبالتالي من اعتاد العمل لا يمكنه الجلوس”. من هنا، يحاول تقديم ما أمكنه لمساعدة قاطني المسرح إن لناحية التنظيف، أو إعداد الطعام، وترتيب المنصّة وأقسام المسرح والمكتبة.
بعد مضي 12 يومًا على الحياة داخل المسرح، يشعر المقيمون أنّهم في “مكان آمن إلى حين”، وعليهم عيش حياة التقشّف لأن “الأولويّة في الحرب هي للبقاء على قيد الحياة وليس لتحصيل كثير من المال” يقول رأفت. من جهته، يتطرّق الشاب يمان (21 عامًا) إلى تجربته في النزوح، “نزلنا إلى بيروت في كزدورة- رحلة، ففوجئنا برسائل تهديد إسرائيلية، والدعوة إلى الخروج، وحالت شدّة القصف دون العودة إلى صور”، مضيفًا: “بتنا الليل في السيّارة، وبدأنا البحث عن ملجأ، فما كان من أحد أشقائي إلّا أن تواصل مع قاسم اسطنبولي، ونزحنا إلى هنا ثلاثة أخوة، ومجموعة من الأصدقاء”.
يتطرق إلى محاولة التعرف على معالم المدينة وشخصيّة الناس، ملاحظًا وجود اختلافات بين المناطق اللبنانيّة. ويشير إلى الاستجابة الانسانيّة وحالة التكافل، إذ تقدم الجمعيّات بعض المساعدات والخدمات، آملًا “في انتهاء الحرب والعودة إلى مدينة صور وبحرها”.
يتحدّث يمان عن صعوبة العيش بعيدًا من محلّة “الحوش” في صور التي انتقل للعيش فيها في العام 2011، عندما كان ابن ثماني سنوات، وتفتّحت عيناه على تفاصيل المدينة، مضيفًا: “أسهم النزوح المشترك لمجموعة من الرفاق في تخفيف ألم الفراق، حيث نمضي أوقاتنا سويًّا لفترات طويلة”.
روتين المدينة
مع مرور الأيّام، بدأ هؤلاء يشاركون في أنشطة المسرح من عروض وورش العمل والأنشطة الخاصّة بالأطفال. كذلك راحوا يتفاعلون مع المدينة العريقة تاريخيًّا من خلال الرحلات الاستكشافيّة. يتحدّث اسطنبولي عن اكتشاف مواهب أداء لدى بعض الشبّان النازحين، كما بدأ آخرون في تعلّم التصوير والتسجيل. وتشكلت فرص لملء أوقات الفراغ بالقراءة ومطالعة الكتب، إذ وجد بعضهم أنهم “يعيشون في جوّ يشبههم يقوم على الثقافة والفنّ والسينما” بحسب الشاب رأفت.
من جهتها، تؤكّد السيّدة دانيال أنّ “طرابلس مكان آمن، ويشكّل النزوح إليها فرصة لاكتشاف مدينة غنيّة بالتاريخ والآثار”، وهي تخرج برفقة عائلتها كلّ يوم من أجل التعرّف إلى المدينة وتفاصيلها. من جهته، بدأ السيّد سالم تكييف يوميّاته وروتينه مع الحدائق العامّة والأسواق التي تشكّل فرصة عيش حياة طبيعيّة بعد موجات النزوح المتكرّر. فهو يخرج كلّ يوم إلى “حديقة المنشيّة”، يستفيد من الساعات المشمسة، ويدوِّن خواطره ويوميّاته بعيدًا من الجنوب.