شباب باب التبانة يعاندون “تنميط” منطقتهم

ثلاثة عوامل ساهمت في ترسيخ صورة نمطيّة عن منطقة باب التبّانة الواقعة في مدينة طرابلس، عن أنّها بؤرة للمتطرّفين وتجّار السلاح والخارجين على القانون، والعوامل الثلاثة تتلخّص بتهميش الدولة المزمن للمنطقة، والإعلام الذي روّج بشكل مكثّف لهذا التنميط، والفقر المدقع الذي تعيشه أحياؤها. وعلى الرغم من أنّ التنميط اللاحق بباب التبّانة فيه شيء من الواقع، لكنه في الوقت نفسه يجافي الحقيقة الكامنة في تاريخ تلك المنطقة بينما ترويها أزقّتها وأحياؤها.

فباب التبّانة التي كانت تُعرف سابقًا بباب الذهب هي من أكثر مناطق طرابلس حيويّة، سواءً بأهلها الذين يرونها كوكبًا خاصًّا بهم، ينتمون إليه وينتمي إليهم، أو بمصانعها ومحترفاتها ومتاجرها. وبعيدًا من العوامل السياسيّة والأمنيّة والديموغرافيّة التي أفقدت باب التبّانة دورها على مرّ السنين، وبعيدًا من تفاصيل ما عانته هذه المنطقة التي نُكبت بالحرب الأهليّة اللبنانيّة، وبعدها وصولًا إلى أحداث جبل محسن وباب – التبّانة، ماذا عن شابّات وشبّان باب الذهب ممّن يودّون لو يسكت جميع من في هذه البلاد قليلًا كي يسمعوا أصواتهم .

“الزعتر بيخلّيني صير ذكي”

في باحة مسجد حربا الواقع وسط المنطقة، يقف عمر ناصر البالغ 26 عامًا على رأس ثلة من المتطوّعين اليافعين، إذ وصلت اليوم بعض المساعدات من “أخ مغترب” وطلب توزيعها على الأسر المحتاجة في التبّانة.

باب التبانة

يروي عمر كيف اضطرّ بعد موت والده إلى ترك الدراسة قبل شهادة البروڤيه بشهر واحد، والعمل في سوق الخضار الشعبيّ في المنطقة، وكيف أصبح اليوم ينظّم وقته بين العمل في سوق الخضار والتطوّع في المبادرات المحلّيّة، فيقول لـ “مناطق نت”: “كنت طالبًا نجيبًا في مدرسة دار السلام القريبة من حيّنا، هناك كان من يشتري منقوشة بالجبن، يقف متباهيًا أمام بقيّة ممّن لا يستطيعون سوى شراء منقوشة الصعتر (الزعتر)، أمّا أنا فكنت خارج هذا التحدّي، إذ كنت أكتفي بعروسة زعتر وزيت تعدّها أمي”، ويستطرد ضاحكًا “قال بيخليني الزعتر صير ذكيّ”.

يتابع ناصر: “توفّي والدي وكنت أبلغ 15 سنة، وأنا الشاب الوحيد على ثلاثة فتيات أصغر منّي سنًّا، فاضطررت للعمل في سوق الخضار مع تاجر جملة صديق والدي”. يضيف “حينما كنت في المدرسة كنت أحلم في أن أصبح مسؤولًا لجمعيّة أو منظّمة غير حكوميّة، إذ كان يلفتني عمل هؤلاء عندما كانوا يزورون مدرستنا في حملات التلقيح، أو لتوزيع الهدايا أو لإعطاء محاضرة توعويّة، لكنّ هذا الحلم تبدّد مع وفاة والدي، إلّا أنّني اكتشفت أنّ العملين الخيريّ والاجتماعيّ لا يحتاجان إلى شهادات، إذ يكفي أن تكون محبًّا لما تفعل وشغوفًا به، لذا انخرطت في جمعيّات المحلّيّة هنا في المنطقة، وصرت أنهي عملي في السوق وأمضي بعدها وقتي في جمعيّة قريبة من بيتنا”.

يرونها مكتبًا انتخابيًّا ونراها وطنًا

عن عمله في الجمعيّات يقول ناصر: “اليوم أصبحت أنا وجهة أيّ منظّمة غير حكوميّة تودّ العمل على مشروع في المنطقة، وأمام كلّ الذي وصلت إليه، أنا لست مدينًا إلّا للتبّانة، التي كبرت فيها وترعرعت في شوارعها وعرفت كيف أتصرّف كابن شارع في الوقت المناسب، وكيف أتصرّف كابن للجمعيّة في الوقت المناسب أيضًا”.

ناصر: أنا لست مدينًا إلّا للتبّانة، التي كبرت فيها وترعرعت في شوارعها وعرفت كيف أتصرّف كابن شارع في الوقت المناسب، وكيف أتصرّف كابن للجمعيّة في الوقت المناسب أيضًا.

ويختم عمر ناصر “أحزن على هذه المنطقة وألوم كلّ من ينتخب أحدًا من هؤلاء الكذّابين، الذين لا يعرفون باب التبّانة إلّا قبل الانتخابات، فهم يرونها على أنها مكتب انتخابيّ، أمّا أنا وكثر مثلي فنراها وطنًا”.

“جميل” هتّاف 17 أكتوبر

لا يختلف حديث جميل قطب (23 عامًا) عن حديث عمر، فجميل الذي عرفته ساحات ثورة الـ 17 من تشرين الأوّل (أكتوبر) شابًّا يحمل الميغافون، ويردّد شعارات المطالبة بالعدالة الاجتماعيّة، وانخرط في الحركات الطلّابيّة، تعلم الانتفاض- بحسب قوله- من رحم ما عاناه شباب التبّانة، فيقول لـ “مناطق نت” عن منطقته: “هي أكبر من مجرّد منطقة صغيرة، ولا يدرك قيمتها إلّا أبناؤها الذين كبروا فيها، وغادروها واكتشفوا بعد ذلك أن قوّة عاطفيّة ما أعادتهم إليها”. يضيف: “لا أنكر أنّ في المنطقة ظواهر غير جيّدة ولكنّ التبّانة وطن بالنسبة إليّ وعلاقتنا نحن فيها كأبنائها علاقة أبعد وأعمق من الشعارات العاطفيّة التي يستخدمها الأدباء في الحديث عن أحيائهم وأوطانهم”.

بمواجهة الصورة النمطيّة

تتناول ابنة باب التبّانة جنى السيّد (22 عامًا) وهي صحافيّة مستقلّة “العلاقة الغريبة مع هذه المنطقة، وكثيرًا من الأمور التي تزعجها وتفرحها في منطقتها”، وتقول لـ “مناطق نت”: “في باب التبّانة، انقسم شباب المنطقة بين من انجرف نحو حمل السلاح في أزقّة الحرب، وبين من اتّخذ من العِلم سلاحًا للنهوض بمستقبله”. تتابع “كابنة لهذه المنطقة، لا يمكنني إلّا أن أُعبّر عن حزني العميق تجاه السلاح المتفلّت الذي أودى بحياة كثيرين من الأبرياء، وعن استيائي من المضايقات اليوميّة التي تعكس صورة مشوّهة عن مجتمعنا، كذلك فإنّ البناء العشوائيّ الناتج عن صراعات النفوذ، وتراكم النفايات في الطرقات يزيدان من تعقيد المشهد ويعيقان أيّ محاولة للتغيير”.

تضيف السيّد “لكنّ ما يحزنني أكثر هو الوصمة الاجتماعيّة التي تُلاحقنا عندما نُعرّف عن أنفسنا بأنّنا من باب التبّانة، إذ أسمع تعليقات مثل: في ناس متعلّمة ومرتّبة من باب التبّانة؟. هذه الصورة النمطيّة، وعلى رغم أنّها لا تعكس الواقع، إلّا أنّها تؤلمنا، وبخاصّة عندما ننظر إلى الجيل الجديد الذي أصبح اليوم يضمّ صحافيّين وأطبّاء ومحامين، نجحوا في كسر تلك القيود”.

التبّانة باب ذكريات جميلة

على رغم كلّ ما طال باب التبّانة من مشاكل ومآس، تبقى الطفولة فيها حاضرة بذكرياتها الجميلة. فصباح كلّ عيد، كانت الشوارع تكتظّ بالأطفال وهم يسعون نحو الألعاب، وأصوات المفرقعات تصدح في الأجواء، بينما يتجمّع أبناء التبّانة حول الأضاحي. وفي رمضان، كانت الزينة تضيء الأزقّة، والليالي الرمضانيّة تحمل دفئًا خاصًّا لا يشبهه أيّ مكان آخر.

باب التبّانة ليست منطقة تعاني من التحدّيات فحسب، بل هي أيضًا مكان ينبض بالحياة والتفاصيل الجميلة. الأمل باقٍ في أن تتحوّل هذه المنطقة، يومًا ما، إلى نموذج يحتذى به، حيث يجتمع الماضي الجميل مع مستقبل أكثر إشراقًا.

كثيرة هي أصوات من يودّون الحديث عن باب “تبّانتهم” أو “الحنونة” كما يطلقون عليها، وكثيرة هي طاقات شبابها ممّن يحفرون في الصخر بحثًا عن فرص في منطقة مهمّشة ومدينة مظلومة ووطن مكلوم تلاحقه الأزمات والحروب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى
document.addEventListener("DOMContentLoaded", function() { var blockquotes = document.querySelectorAll('blockquote, q'); blockquotes.forEach(function(blockquote) { var beforeContent = window.getComputedStyle(blockquote, '::before').content; if (beforeContent === '"\\f10e"') { blockquote.style.setProperty('content', '"\\f10f"', 'important'); } }); });