شجرة الميلاد في الجنوب.. حزن وبشارة
تشكّل شجرة الميلاد عنوانًا سنويّا لحدث عظيم في الديانة المسيحيّة، إذ تعكس رمزيّة خاصّة تتّصل بميلاد السيّد المسيح عيسى بن مريم، ولعلّ هذا الارتباط العميق بالشجرة يعود إلى دلالاتها الروحيّة التي تعزّز مشاعر الأمل والتجدّد، بخاصّة في موسم الأعياد. اللافت أنّ اللبنانيّين من مختلف الطوائف والأديان وجدوا في شجرة الميلاد رمزًا مشتركًا يعبّر عن قيم إنسانية مشتركة، ممّا جعلها تحضر بشكل دائم في بيوتهم في كلّ عام.
حين نتقفّى دلالات شجرة الميلاد في الثقافة المسيحيّة، سنكتشف أنّ الفرح أحد أوجهها، بينما هناك رموز أخرى محمّلة بالرسائل الجوهريّة في وعي ولا وعي العقل الجمعيّ المسيحيّ في العالم. أمر توضحه أنطوانيت حوراني، من “مركز ميلاتونيا للإصغاء” في مغدوشة فتقول لـ “مناطق نت”: “شجرة الميلاد، مثل المغارة، من تراثنا المسيحيّ الحامل للرمزيّات الخاصّة، لذلك تحضر في كلّ بيت مسيحيّ ولو كان سكّان البيت محزونين جرّاء حالة وفاة”.
تضيف حوراني: “هذه السنة، الشجرة حاضرة في البيوت، وكذلك في ساحات القرى والبلدات الكبرى، حيث تزيّنت بالأضواء والألوان، مثل لبعا، وكفرجرّة، وجزّين بطبيعة الحال، وأيضًا في مغدوشة، فالأمر يتلخّص بجملة واحدة: بشارة الميلاد هي بشارة رجاء وفرح”.
حين نتقفّى دلالات شجرة الميلاد في الثقافة المسيحيّة، سنكتشف أنّ الفرح أحد أوجهها، بينما هناك رموز أخرى محمّلة بالرسائل الجوهريّة في وعي ولا وعي العقل الجمعيّ المسيحيّ في العالم
شجرة وريسيتال وهدايا
في بلدة المعمريّة، قضاء صيدا، حملت احتفاليّة الميلاد عنوان “ولِد الحبُّ” فكانت الشجرة فضاءً بصريًّا مرافقًا بريسيتال ميلاديّ أحيته المرنّمة ليال كرم، في كنيسة رعيّة سيّدة الخلاص. أمّا ريسيتال الميلاد في بلدة الحجّة (الزهراني)، فقد أحياه أطفال البلدة في كنيسة العائلة المقدّسة، رفقة أنشطة عديدة مثل افتتاح مغارة وشجرة الميلاد وتوزيع الهدايا ومواكبة موسيقيّة وسوق الأكل. عن هذا النشاط يقول نديم غزال لـ “مناطق نت”: “بعد إطفاء جميع الأنوار بدأت الاحتفالّية بإضاءة الشجرة والمغارة، رفقة الأغاني، وكانت هناك مواكب في الضيعة”.
من جهته يشير فارس من بلدة دبل (بنت جبيل) إلى أن الأجواء الميلاديّة ليست على عادتها هناك. يضيف لـ “مناطق نت”: “أهل القرية عادوا من نزوحهم وهُم منشغلون بترتيب بيوتهم وأراضيهم كي يعودوا إلى حياتهم اليوميّة”.
في بلدة رميش (بنت جبيل) هناك مظاهر احتفاليّة عدّة، تتخلّلها شجرة الميلاد، مع تركيز على رمزيّة المغارة التي أعيد تجسيدها في الكنيسة، كذلك في ساحة الكنيسة. “وهناك قداديس خاصّة في المناسبة عند منتصف الليل، وأخرى نهاريّة يوم الأربعاء” يقول رئيس بلدية رميش ميلاد العلم لـ “مناطق نت” ويضيف: “سوف نوزّع 550 هديّة على 550 طفلًا، تقدمة من البلديّة”.
الحزن يلفّ القرى
قلّما تُلمَح أضواء الميلاد، وشجرته في القرى التي تعرّضَت للدمار، وبخاصّة تلك الحدوديّة، حيث لم يعُد سكّانها إليها، فكيف يعود الفرح بالعيد هناك؟ تقول هبة ابنة بلدة حولا (مرجعيون)، التي تقطن وعائلتها في مجدل سلم: “أنا ممّن كانوا يزيّنون شجرة الميلاد سنويًّا في بيتي، لكنّنا وبهذا الكمّ من الشهداء والدمار والوجع والقهر، لن أفعل ذلك، وكذلك بقيّة البيوت والمحال وجميع من اعتادوا وضع الشجرة في السابق”.
تتابع هبة لـ “مناطق نت”: “رفيقاتي في عيادات التغذية كنّ يضعن شجرة الميلاد لمدّة شهر، اليوم تغيّر الوضع، فغالبيّة النسوة في الجنوب يتّشحن بالسواد، خصوصًا أن الجثامين في عديد من القرى لم تنتشل من تحت الردم حتّى الآن”. الأجواء عينها ينقلها لنا الكاتب علي مزرعاني عن مدينة النبطيّة، ويؤكّدها ابن إحدى القرى المجاورة فيخبرنا بقراره في تجنّب زيارة النبطيّة التي لا يريد مشاهدتها بحال الدمار، لذلك هو لا يعتقد أنّ أيًّا من مظاهر الميلاد والزينة ستشاهَد هناك.
صور وصيدا
من ناحيتها تقول أم جاد عن أجواء الميلاد في بلدة العبّاسيّة: “دائمًا كانت شجرة الميلاد عامرة في بعض بيوتات البلدة، ومعظم المحلّات، بينما اليوم نراها غائبة، بل الناس غير منتبهين للعيد، ولا نعرف ماذا علينا أن نفعل لنتخطّى حال الحزن والكآبة التي تغلّفنا؟”. وختمَت أم جاد حديثها لـ “مناطق نت” قائلة: “نزلت إلى صور مرّات عديدة. لا يبدو أنّ البلديّة قرّرت وضع أيّ مظهر من مظاهر الزينة”.
من ناحيته يلفت مدير مدرسة قدموس الأب جون يونس لـ “مناطق نت” أنّه: “وبسبب الظروف وضيق الوقت وانشغالنا بإزالة آثار الحرب والزجاج المتكّسر وبعض الأضرار، اقتصرت تحضيراتنا الميلادّية على أنشطة احتفاليّة بالتعاون مع فِرَق فنّية من بيروت، ووزّعنا أشجار الميلاد الصغيرة على الصفوف، بينما انجزنا المغارة في داخل كنيسة المدرسة، ولم يسمح لنا الوقت بتجهيز شجرة الميلاد الكبرى، كما عوّدنا طلّابنا في كلّ عام”.
من ناحيتها تقول المربيّة نابغة وليد دنب ابنة صيدا: “لم أشاهد مظاهر الميلاد المعتادة في صيدا. لم تتوقّف مواكب تشييع ضحايا الحرب حتّى اليوم”. وتتابع نابغة لـ “مناطق نت” “الحال ذاتها في المدارس التي كانت تتحضَّر قبل أسابيع لزينة الميلاد في الصفوف والأروقة. اكاد أجزم أن أحدًا لم يقم بأيّ خطوة من هذا النوع”.
احتفاء رمزي
“لا أريد أن تذهب هذه الفرصة التي تأتيّ لمرّة واحدة في السنة، من دون أن أحتفل بها” تقول خديجة لـ “مناطق نت”، علمًا أنّ خديجة صنعت احتفاليّتها بطريقة خاصّة، إذ صنعت شجيرة من وريقات شجر السرو، وأحاطتها بإطار من أكواز الصنوبر والرمّان المطليّ بالأحمر. لم يكن الأمر إشهارًا للفرح، بقدر ما يشكّل محاولة لتصنيع التفاؤل بواسطة زينة اقترنت بالفرح والضوء والأمل.
تطوّر المعنى
لشجرة الميلاد تاريخ طويل يعود إلى تقاليد ما قبل المسيحيّة، لكنّها اكتسبت رمزيّتها السيميائيّة الخاصّة من الميلاد المسيحيّ تدريجًا، حتّى أصبحت رمزًا شائعًا يحتفل به مسيحيّو العالم إلى جانب المغارة. الشجرة الخضراء الدائمة مثل الصنوبر والتنوب، كانت تستخدم في احتفالات الشتاء في ثقافات قديمة متعدّدة، منها الفايكنغ في شمال أوروبّا والرومان في عيد “الساتورناليا”. اعتبرت هذه الأشجار رمزًا للحياة والخصوبة في مواجهة قسوة الشتاء. كذلك كانت الشعوب الجرمانية تعتقد أنّ الأشجار الخضراء تحمي من الأرواح الشرّيرة، وتزيّنها كنوع من الطقوس الاحتفاليّة.
في العصور الوسطى، انتشرت مسرحيّات عيد الميلاد في أوروبّا، ومنها مسرحيّات “آدم وحوّاء”. كانت الأشجار تُستخدم في هذه المسرحيّات وترمز إلى “شجرة الجنّة”، وكانت تُزيّن بالتفّاح الذي يمثّل الخطيئة الأصليّة، وبالكعك أو اللفائف التي ترمز إلى الخلاص. في القرن السادس عشر، بدأ تقليد شجرة الميلاد كما نعرفه اليوم في ألمانيا. ويقال إنّ المُصلح مارتن لوثر هو أوّل من أضاء شجرة باستخدام الشموع، ليرمز إلى نور المسيح.
بحلول القرن الثامن عشر، أصبحت شجرة الميلاد عادة منزليّة بين المسيحيّين الألمان، وكانت تُزيّن بالفواكه والحلوى والزهور الورقيّة. وفي القرن التاسع عشر، انتقلت الشجرة إلى إنكلترّا بفضل الملكة فيكتوريا وزوجها الأمير ألبرت، ممّا ساهم في انتشار التقليد في العالم الناطق بالإنكليزيّة. وشاع استخدام شجرة الميلاد في الولايات المتّحدة بفضل المهاجرين الألمان. أمّا المغارة التي تمثّل مشهد ميلاد المسيح، فقد بدأت في الانتشار منذ القدّيس فرنسيس الأسيزي في القرن الثالث عشر في أوروبا، جمعت الزينة الميلاديّة بين المغارة والشجرة كشكل من أشكال الاحتفال التكامليّة.
ترمز الشجرة إلى الحياة الأبديّة، والتجدّد، ونور المسيح الذي يغلب الظلام. النجمة في قمّة الشجرة تمثّل نجم بيت لحم، والكرات والزينة ترمز إلى نِعم الله، بينما الإضاءة التي تطوّرت من الشموع إلى الأضواء الكهربائيّة، فتجسّد نور المسيح. بحلول القرن العشرين، أصبحت شجرة الميلاد رمزًا عالميًّا بفضل الهجرة والعولمة، واكتسبت طابعًا ثقافيًّا يتجاوز البعد الديني.