شمع ومقام شمعون الصفا أسرى الاحتلال والتدمير
من المفارقات الحزينة في الحروب أنّها تكشف لنا مناطق تكون عادة منسيّة ومهمّشة، فتعيدها إلى الضوء، مع كلّ ما تحمله تلك المناطق من أهمّيّة لم نكن نكترث لها، وهذا ما ينطبق على بلدة شمع الجنوبيّة التي قفز اسمها فجأة ليتصدّر نشرات الأخبار، فأعادت تعريفنا بها وبأهمّيّتها التاريخيّة، وأيضًا بمناطق الأطراف الجميلة، التي يهمّشها السلم وتعيدها الحروب، للأسف، إلى الواجهة.
لم يمنع وقف إطلاق النار الذي أصبح ساري المفعول منذ ثلاثة أيّام مع خروق متواصلة، من استعادة مشهد تدنيس العدوّ الإسرائيليّ وقوّاته لمعلم دينيّ وأثريّ مهمّ في بلدة شمع الجنوبيّة، وهو ما جعل اسم البلدة الواقعة في قضاء صور يتصدّر نشرات الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعيّ، خصوصًا وأنّ المعالم الأثريّة في شمع تمثّل بعضًا من إرث لبنان الحضاريّ، وتحتضن أيضًا بعضًا من ذاكرة الجنوب الزاخرة بذلك.
لا تزال بلدة شمع وآثارها تحت سيطرة قوّات الاحتلال التي لم تنسحب منها حتّى الآن، لكن مهما فعلت تلك الآلة الوحشيّة من تهديم وتجريف لمعالم البلدة الأثريّة والدينيّة، إلّا أنّها لن تستطيع أن تقتلع شمع من موقعها الخلّاب والاستراتيجيّ، فهناك حيث الهضاب تعانق البحر والمدى تربّعت “إرمث” ملكة تعلو جميع التلال حولها، ومنها اتّخذت شمع أهمّيّتها الاستراتيجيّة والتاريخيّة.
تفجير الموقع جريمة موصوفة
ما تسرّب من صور وڤيديوهات ترافقت مع تقدّم قوات الاحتلال الاسرائيلي لبلدة شمع، وقيامها بتفخيخ الموقع الأثري مع ما يتضمنه من قلعة صليبية و”مقام النبي شمعون الصفا” والمعصرة الأثرية، هو جريمة حرب موصوفة بحق إرثنا الحضاري المدرج على لائحة الجرد العام والمصنف ضمن قائمة المواقع التي أرسلتها الدولة اللبنانية إلى منظمة اليونيسكو لحمايتها، وفقًا لاتفاقية لاهاي عام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح.
لا يقتصر تدمير المواقع الأثرية والتاريخية والدينية على الجانب المادي فحسب، بل يتعداه إلى الجانب النفسي، فهو يطال الذاكرة الجمعية للبنانيين وما يرافق ذلك من شعور كبير بالخسارة، لما يشكّل اعتزاز وفخر بذلك الإرث، وهذا ما يشعر به أبناء بلدة شمع على فقدان جزء من هويتهم وتاريخهم الذي يربطهم بأجدادهم، ويعتبرون أن محو هذه المعالم التاريخية لا يعني فقط تدمير الحجر، بل أيضًا محاولة محو الذاكرة الجماعية لأبناء البلدة وللشعب اللبناني. يقولون ذلك ولسان حالهم يردد “لا يهم إن تدمرت بيوتنا، المهم أن يبقى المقام”.
يجري ذلك وسط صمت مطبق من الدولة التي لم يتحرّك وزير الثقافة فيها أو رئيس الحكومة لمتابعة الأمر ومناشدة “اليونيسكو” للتحرُّك من أجل وقف الجريمة، وأيضًا مناشدة قوات الطوارئ الدولية وتحديدًا الإيطالية المتواجدة في شمع على الأقل لتوثيق ما يجري.
عن تفخيخ الموقع بكامله، ورفع العلم “الإسرائيلي”، يؤكد ابن بلدة شمع إبراهيم صفي الدين، وهو ناشط منذ العام 2017 في بحث وتوثيق تاريخ وإرث بلدته الانساني والحضاري لــ “مناطق نت” أنه “لا يوجد حتى الآن أي توثيق أو تأكيد على ذلك، بل المؤكد أنّ أضرارًا بالغة رصدت في الموقع ومحيطه بعد 16 تشرين الثاني”. لكن، يتابع صفي الدين “هناك أخبار تحدثت عن أضرار في قبة من القبب الأربعة النادرة لمقام النبي شمعون، ونسف للمعصرة التاريخية وتفخيخ المئذنة وربما أجزاء من القلعة لكن لم تحدد بعد”.
أهمية الموقع الاستراتيجية
تقع بلدة شمع على بعد 6 كلم من الحدود اللبنانية الفلسطينية، وتبعد عن مدينة صور 13 كلم، ويقع الموقع التاريخي الأثري في أعلى تلة فيها بارتفاع 380 م عن سطح البحر، ويُشرف هذا الموقع على كامل الساحل من صور إلى حيفا، وقد اعتبر في التاريخ القديم نقطة وصل ما بين البحر المتوسط ومنطقة الجليل.
“من المعروف أن الجيش الإسرائيلي استعمل القلعة مرارا منذ العام 1978 حتى التحرير في العام 2000”. يقول صفي الدين ويتابع: “في عام 1978 استهدفها الاحتلال بالمدفعية، ثم استخدمتها الكتيبة الهولندية في قوات حفظ السلام اليونيفل من العام 1979 حتى العام 1985، وبقي الاحتلال يستخدمها وعاث فيها فسادًا وجرفا، فقام في العام 1998 باقتلاع بوابتها الأثرية وأجزاء منها وصولًا إلى العام 2006، حين قام باستهدافها وتهديمها بشكل كلي”.
صفي الدين: هناك أخبار تحدثت عن أضرار في قبة من القبب الأربعة النادرة لمقام النبي شمعون، ونسف للمعصرة التاريخية وتفخيخ المئذنة وربما أجزاء من القلعة لكن لم تحدد بعد.
ويؤكد صفي الدين على “أهمية الموقع الاستراتيجي إلى يومنا هذا”، مستندًا إلى “محاولة العدو السيطرة عليها والتمركز فيها لإحكام قبضته على الساحل والمناطق المحيطة بها”.
التاريخ يعيد نفسه
يروي صفي الدين بعضًا من تاريخ قلعة شمع فيشير إلى أنه “في سنة 1741 بدأت العشائر العاملية بتجديد القلاع وتحصينها للدفاع عن الحدود الجنوبية لجبل عامل، فشرع الشيخ واكد آل علي الصغير بترميم القلعة، على غرار ما قام به زعماء آل عاملة من ترميم للقلاع والحصون، منها قلاع تبنين وهونين وروبية ويارون، فاتخذ من الطابق العلوي من القلعة مقراً له، وأصبحت القلعة مركزًا لمقاطعة مهمة هي مقاطعة الشعب، حيث كانت مركزًا نشطًا للدفاع عن الحدود الشرقية لجبل عامل، حيث كانت تنطلق منها الجيوش ويتدرب في ميدانها الغربي الفرسان”.
عن أهمية القلعة تاريخيًا وحاليًا، يقول صفي الدين: “المفارقة أن قلعة شمع التي بنيت في القرون الوسطى لإسقاط مدينة صور الساحلية، يعود الاحتلال الإسرائيلي من خلال احتلالها، إلى الهدف نفسه، وهو إحكام السيطرة على صور وسقوطها استراتيجيا من أجل السيطرة على طول الخط الساحلي الممتد من القليلة إلى صور”.
القلعة التاريخية
من جانبه، يقول المؤرخ علي داوود جابر، صاحب كتاب “شمعون الصفا بطرس بين المسيحية والإسلام” لـ “مناطق نت”: “بعد السيطرة الصليبية على مدينة القدس، بدأ الصليبيون يفكرون بإحكام السيطرة على مدن الساحل السوري ومنها مدينة صور، فعمدوا إلى بناء القلاع والحصون عند التخوم المشرفة على هذه المدن”.
يتابع “وعندما دخلت الجيوش الصليبية لبنان من شماله أواخر القرن الحادي عشر للميلاد، وسارت على طول الساحل اللبناني، هاجموا مدنه وقراه، فسقطت على التوالي طرابلس وجبيل ثم بيروت وصيدا، ما عدا مدينة صور التي عصت على جيوشهم، فحاصرها الصليبيون، وعمدوا إلى بناء قلعة تبنين 1105 ميلادي وحصن آخر عند تلة المعشوق سنة 1108 ميلادي لتشديد الحصار على مدينة صور، ثم عمد بلدوين (ملك القدس) إلى بناء قلعة جديدة لتطويق صور من جهتها الجنوبية، وهي قلعة شمع وذلك في العام 1116 للميلاد”.
كانت القلعة تتألف، وفقًا لجابر “من تسعة أبراج بقيت صامدة حتى العام 2006، قبل أن يستهدفها العدو الاسرائيلي بصواريخ دقيقة وذكية، ليبقى منها أربعة أبراج فقط، ومسار غرفة القبو الأكبر من القلعة”. ويشير جابر “إلى أنه بعد ذلك حصلت عملية ترميم بسيطة للقلعة، تضمنت مسارات للمشي”. لكن برأي جابر “لم تراعِ هذه العملية الأصول الأثرية في الترميم، لكن بالرغم من ذلك بقيت محط إعجاب وأنظار السائحين والزوار”.
جابر الذي شارك في عملية ترميم المعصرة التاريخية الصليبية والتي أشار إلى أنها الأقدم والأعرق في المنطقة”، يقول: “في الـ 2007 عُثر في القلعة على فسيفساء تعود للعهد البيزنطي، نقشت عليها كتابات مرتبطة بمقام النبي شمعون الصفا المتداخل مع القلعة”.
شمعون الصفا
من هو شمعون الصفا؟ سؤال طرحته “مناطق نت” على جابر الذي أجاب: “أخذت بلدة شمع اسمها من مقام النبي شمعون الصفا المدفون في ربوعها، وكلمة شمع هي مخفف لشمعون ابن حامون الملقب بـ (الصفا) وهو كبير الحواريون، وهو نفسه بطرس الحواري خليفة يسوع الناصري”. ويشير جابر أن “لشمعون أسماء أخرى منها بطرس باليونانية وكيفاس بالسريانية وسمعان أو شمعان الصفا ونستند في ذلك للمراجع التاريخية”.
في السياق نفسه يؤكد صفي الدين: “المقام أطلق عليه اسم النبي شمع، ولكن بحسب التاريخ المحلي هو وصي نبي أي المسيح عيسى ابن مريم وشمعون ابن حامون هو ابن خالة السيدة العذراء والمفارقة إن اليهود الذين حاولوا تفخيخ مقامه قبل ايام هم أنفسهم أحفاد اليهود الذين قتلوه قبل 2000 عام تقريبا”.
يضيف صفي الدين: “يعد المقام من أكبر مزارات الجنوب وأقدمها تاريخًا، ويتميز بقبابه الأربع التي لا مثيل لها في المنطقة، إذ يحتوي على أربع غرف كبيرة، تعلوها أربع قباب ومئذنة انهارت أثناء عدوان تموز العام 2006 وأعيد ترميمها ضمن البرنامج القطري لإعادة بناء المواقع الدينية المتضررة”.
عن الموقع الأثري يشرح جابر: “يتكون المقام من 4 غرف تاريخية ومئذنة وباحة داخلية تجاوره، من ضمنها صهريج المياه التاريخي (بئر النبي شمع)، وهو من الحقبة الصليبية التي كانت توفر مصدرًا آمنا لمياه الشرب للقلعة وحاميتها في وقت السلم وفي أيام الحرب والحصارات الطويلة، كما أن هناك عدة صهاريج مماثلة تحت القلعة الصليبية كانت تعتمد على نظام المزاريب وهي قنوات موجهة لجمع مياه الأمطار شتاء”.
وصف دقيق
عن وصف المقام، يقول جابر: “يتوسط المقام باحة خارجية، إلى جانبها حديقتين صغيرتين فيهما بعض القبور، تتوسط إحداها غرفة قديمة أمامها صخرة دائرية، استعملها العرب قديمًا كساعة لمعرفة أوقات الصلاة، وتحت هذه الساحة بئر كبيرة لا تجف إلا نادرًا، وهي أحد مخازن المياه المتبقية من زمن الصليبيين، بعدها تدخل عبر بوابة رخامية حديثة الصنع، ومن ثم تسلك طريقًا مرصوفة بالحجارة تؤدي إلى الساحة الخارجية، لتصل حتى البوابة الرئيسية حيث الأرض مرصوفة بالحجارة المنصورية، وقد سميت لاحقًا بالحجارة السلطانية نسبة إلى السلطان سليم العثماني، وصولًا إلى قبر العجمي، وهو القبر الوحيد الذي كان موجودًا فيها، ونحت على شاهده (هو الباقي قال إني عبد الله أصم إذا نوديت باسمي وأنني إذا قيل لي يا عين لسميع فاتحة عام 1307 ميلادي)”.
جابر: يتكون المقام من 4 غرف تاريخية ومئذنة وباحة داخلية تجاوره، من ضمنها صهريج المياه التاريخي (بئر النبي شمع)، وهو من الحقبة الصليبية التي كانت توفر مصدرًا آمنا لمياه الشرب
“لاحقًا أصبح يلاصق المقام قبورًا عدة لعائلات من البلدة”، يقول جابر ويضيف: من الجهة الجنوبية تستطيع رؤية الصحن الخارجي للمقام مع قناطره الثلاثة، والمئذنة والقناطر شبه الدائرية التي تقوم على ركائز مربعة، من ثم الصحن الخارجي للمقام وغرفة الضريح والصحن الداخلي والصندوق الخشبي، ومن الجهة الغربية غرفة رابعة تسمى غرفة الجامع، يتبع ذلك أملاك المقام وغرفه الأربعة مع المدخل والمئذنة، الساحة الداخلية والمقبرة الموجودة في الساحة الخارجية للمقام، والمقبرة الموجودة تحت المقام والمعصرة الأثرية، غرفة المنزول والقبو وغرفتان من الناحية الجنوبية، قطعة أرض تدعى الحمارة وهي التي بنيت فيها الحسينية والجامع الجديد”.
قصص وحكايات
تجدر الإشارة إلى أن الناس توارثوا اسم النبي شمع أبًا عن جد، وهم لا يعلمون هل هو نبي أم وصي؟ وقد ارتبطت ابتهالاتهم وأدعيتهم به وأهل المنطقة يرددون من الصغر دعاء “دخلك يا شمعون الصفا يلي سرك ما اختفى”، ما جعل من المقام مزارًا ليس لأهل البلدة والمنطقة فحسب بل أبعد بكثير”.
عن مواسم زيارة المقام يذكر جابر في كتابه: “في ذكرى 40 الامام الحسين وفي النصف من شعبان المبارك بميلاد قائم المهدي المنتظر حفيد شمعون الصفا، يتوافد الزائرون إلى مقام وصيه عيسى، ويذكر أنه في الماضي كانت مواسم الزيارة مناسبة لإظهار الفرحة والسعادة إلى جانب العبادات، فتقام حلقات الدبكة ذكورًا وإناثًا، ويدورون حول صحن الدار الذي لم يعد له أثر في يومنا هذا، أما اليوم فترى الزائرون بين راكع وساجد ومتعبد ونادر وباك”.
وعن التقليد السنوي الذي أصبح معروفًا في شمع بنقل الراية الحسينية الحمراء من العتبات المقدسة في العراق إلى المقام قبيل موسم عاشوراء إيذانًا ببدء موسم الحزن، يرجّح جابر أن يعود ذلك ربما لسبب أن الشيعة يربطون بين علاقة شمعون الصفا بالإمام المهدي، إذ يعتبر شمعون الصفا بحسب المراجع جد الإمام المهدي لأمه مليكة بنت يشوع ابن قيصر ملك الروم كما أن عليًا هو جده لأبيه الحسن العسكري.