شوقي أبي شقرا سائق الأمس ينزل من العربة
مختلف هو بلا صخب، غرائبيّ فطريّ بلا ادّعاءات كرنفاليّة، يكتب بالقلم الأحمر، يلوي عنق اللغة، ويتعمّد تسريح حاجبيه نحو الأعلى. هذا هو شوقي أبي شقرا، ببهاء سرياليّته، و”ضيعاويّته”، ونفوذه اللطيف في “النهار” التي أسّس فيها الصفحة الثقافية، ولم تكن الثقافة عنوانًا لأيّ صفحة في ذلك الزمن، كما أسّس قصيدة النثر، ليكون أوّل من كتبها. حينما سألته عن ريادته في كتابة قصيدة النثر، بصعوبة اعترف بذلك، بينما يجمع الكلّ على هذه النقطة.
كان كتلة نبل، فلا يسمح لأناه أن تتسلّل إلّا بحياء مؤدّب، هو الذي راجع مع الشاعر أدونيس قصائد بدر شاكر السيّاب واختارا أفضلها، وكانت لأبي شقرا نصائح هنا وهناك ليصدر الديوان عن مجلّة “شعر” بهذا الكمال. حين يسترجع أبي شقرا تلك الحقبة، يبعد عن نفسه أيّ فضل وسلطة. لا يريد أن يسرد الحدث وكأنّه صانعه، أو بطله، يقول الكاتب والناشر سليمان بختي لـ “مناطق نت”، وهو آخر من حاور شوقي أبي شقرا، ومن آخر المثقّفين الذين التقوا ذلك الشاعر الذي كاد يلامس سنته التسعين: “رحل شوقي قبل أن يرى كتابه الأخير، إذ سلّمَنا مواد كتابه منذ مدّة، وكنّا نتابع معه الملاحظات والتصحيح، ونحن اليوم في صدد إنجازه”.
ابن الدركي الميّت!
وجَد شوقي أبي شقرا نفسه طفلًا منقسمًا بين رشميّا ومزرعة الشوف، كما لو كان قدره أن يتنقّل بين الأمكنة دون إرادة منه، ولو في صيغة تجريبيّة ستثريه حتّى مماته. كان والده، دركيًّا، يرتدي تلك البزّة فيفتخر الابن، بدت بزّته الرسمية تلك كجلد ثانٍ، يجرّه معه في تنقّلاته المستمرّة، حتّى اختفى فجأة في حادث سيّارة، تاركًا ابنه البالغ من العمر 10 سنوات يواجه العالم وحيدًا. ربّما في لحظة موت الأب، ولِدَ شوقي الشاعر، كضرورة تنفيسية، تعبيريّة، انطلقت منذ ذلك العمر المبكر، لتغدو الصدمة فعلًا أدبيًّا مُلاحظًا، يتنبّه له القرّاء، والنقّاد، إذ دارت عديد من قصائد أبي شقرا حول ذلك الحادث البعيد.
قاموس الضيعة
في دير مار يوحنّا، كان الصبيّ يجلس في زوايا مظلمة، محاطًا بجدران حجريّة باردة تبدو كأنّها تتنفّس وتراقبه. وفي معهد الحكمة لاحقًا، تحوّل إلى كائن نهم للقراءة، يلتهم الكتب كما لو كانت الطعام الوحيد الذي يمكن أن يسدّ جوعه الروحيّ. كان يتسلّل إلى المكتبات كظلّ، يختفي بين الرفوف لساعات طويلة، حتّى يكاد يصبح جزءًا من الكتب نفسها.
بدَت نشأة مغايرة، لفتىً يعجن سرياليّته الخاصّة، في وقت مبكر، قبل أن يتعرّف على بيانات أندريه بروتون، أو أيّ من هؤلاء الشعراء المشاغبين، من بول إيلوار إلى أراغون وأبوللينير. سرياليّة القرية عند شوقي الطفل تنضح بتعابير المكان، برغل، تبن، معلف، فحل، منجل، جرن الكبّة، دكّة الشروال، زعتر، بابونج، عيزقان، تبّولة، صاج، كرعوب، قبّوط…
في معهد الحكمة، تحوّل شوقي أبي شقرا إلى كائن نهم للقراءة، يلتهم الكتب كما لو كانت الطعام الوحيد الذي يمكن أن يسدّ جوعه الروحيّ. كان يتسلّل إلى المكتبات كظلّ، يختفي بين الرفوف لساعات طويلة، حتّى يكاد يصبح جزءًا من الكتب نفسها
أبرز المجدّدين
تزوج شوقي أبي شقرا من حلوة باسيم، وشكّل معها عائلة مكوّنة من ثلاثة أبناء: مونيك وماجد وناجي. بدأ رحلته الأدبيّة بخطوات خجولة بالفرنسيّة، ثمّ انتقل إلى كتابة القصائد العموديّة، لكنّه لم يجد صوته الحقيقيّ إلّا في قصائد التفعيلة التي صاغها بروح مختلفة عن تلك التي أبدعها روّاد الشعر العراقيّون. ومع ديوانه الثالث “ماء إلى حصان العائلة”، خطا خطوة جريئة نحو قصيدة النثر، ليكون بذلك واحدًا من أبرز المجدّدين في الشعر العربيّ.
كان أبي شقرا أيضًا من مؤسّسي “حلقة الثريّا”، التي جمعته بجورج غانم وإدمون رزق وميشال نعمة. لكنّه تألّق بشكل خاص كأحد أركان مجلّة “شعر”، التي ضمّت عمالقة مثل أدونيس ومحمّد الماغوط ويوسف الخال وأنسي الحاج، إذ تولّى فيها مهمّة سكرتير التحرير. وبديوانه “حيرتي جالسة تفّاحة على الطاولة”، نال جائزة مجلّة “شعر” في العام 1962، ليؤكّد مكانته كأحد الأصوات الرائدة في الشعر الحديث.
لم تكن الترجمة بعيدة من مسيرته، فقد نقل إلى العربيّة أعمالًا لشعراء فرنسيّين سرياليّين مثل رامبو، ولوتريامون، وريفيردي، لكنّها ظلّت جانبًا هامشيًّا مقارنة بتجربته الشعريّة التي غاصت في أعماق الذات واللغة.
دهشة اللغة
انطلق ابن الدركيّ بالكتابة الصحفيّة من مجلة “الحكمة”، ونشرَ نصوصًا غرائبيّة في جريدة “البيرق”، وهذا مثال على طريقته باجتراح لغة مختلفة: “كنّا بسيرة المسيح ونحن حول طاولة نشرب كأس عرق. وكان الجالسون من أسرة دار مجلة شعر. وما كرّت دقائق حتّى قلت للأصدقاء إنّ المسيح ظهر في بيت وضيع، في محلّة مار الياس بطينة ببيروت. ولم يسمع الأصدقاء الحكاية لأنّهم شكّاكون. ولكنّهم يؤمنون بشخص المسيح ايمانًا شديدًا لا يقطعه سيف حادّ ولا يزحزحه جيش. وانساب الحديث من صديق إلى آخر كما تنساب الحيّة من حائط إلى آخر بسهولة تامّة. وكان الموضوع هو المسيح المثلّث الوجه وصاحب الأنف المدهش من طهارته وفخامة خلاقه”؛ (السبت 3 ـ 5 ـ 1963).
المؤوِّل السيميائيّ
على مدى سنوات، كانت جريدة “النهار” تعتمد نشر صورة فوتوغرافيّة، يرافقها تعليق غاية في التميّز والابتكار. وقتذاك لم يكن يظهر اسمه كمعلّق على الصورة، ولم يلتفت أحد لخصوصيّة ما يفعله أبي شقرا، إذ يحرّر المضمون الفوتوغرافيّ من محدوديّته المشهديّة، منطلقًا به نحو آفاق تأويليّة حرّة.
لهذا يقول الصحافي جهاد الزين: “يمكن اعتبار شوقي أبي شقرا مؤسّس التيّار التأويليّ في العنوان الصحافيّ اللبنانيّ والعربيّ وربّما أوسع، عملًا بالتقليد التراثيّ العربيّ في قراءة النص- هنا الصورة- بين معنى ظاهر ومعنى باطن. هو أيضا فيما كان يفعل ذلك كقرمطيّ لا يعرف أنّه قرمطيّ ويصنِّفونه في بيروت “سورياليًّا” كان شاعر العنوان الصحافيّ بامتياز. العنوان الصحافيّ هو اللحظة التي يتصرّف فيها المحرّر أو رئيس التحرير كجنديّ مجهول، كم كانت عناوينه على “الجبهة” وراء نجاح معارك جنرالات معروفين لا مجهولين. هل ظلمت الصحافة شوقي أبي شقرا؟”.
ملح مقدَّس
كان الشاعر جوزف عيساوي أوّل من نعى أبي شقرا برثاء أدبيّ، كان سيفرح الراحل لو مرّت تلك القطعة من تحت يديه، إذ كان أبي شقرا دائم الاحتفاء بكلّ نتاج مبتكَر، متجاوز للشائع في لغة أُشبِعَت تكرارًا. يقول عيساوي: “انطفأ شوقي أبي شقرا كطفل في فم السماء، متدهورًا كوالده الدركيّ، على طريق مسرعة نحو أعشاب، وحنطة، وقهر. ذهبَ شوقي أبي شقرا إلى حيث السطور وأشواك الوقت، وحيث المدى يطوي القصيدة بالبرق، واللغة تخشع لأصابعه النحيلة، وحدسه النقيّ كحبٍّ جريح. لم نحزر يومًا كيف صنعَ اليتمُ هذا الشعر العظيم، الشعر الذي يلهو بالصعقة، ويطحن الحرف، فيغدو قشيبًا كملح مقدّس، ونبعًا يراقص وداعة الفجر. تسقط منك القبّعة أيّها الساحر، لكنّ لُقاك، وطرافتك، وتلك الطفولة الباهرة كذهب السعادة، تبقى ما بقي للعرب لسان”.
من إصداراته الشعريّة
أكياس الفقراء (1959)، خطوات الملك (1960)، ماء إلى حصان العائلة (1962)، سنجاب يقع من البرج (1971)، يتبع الساحر ويكسر السنابل ركضًا (1979)، حيرتي جالسة تفّاحة على الطاولة (1983)، لا تأخذ تاج فتى الهيكل (1992)، صلاة الاشتياق على سرير الوحدة (1995)، ثياب سهرة الواحة والعشبة (1998)، سائق الأمس ينزل من العربة (2000)، نوتي مزدهر القوام (2003)، تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة (2005)، أبجدية الكلمة والصورة (2005)، شوقي أبي شقرا يتذكّر (2017)، عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى (2021)، أنت والأنملة تداعبان خصورهنّ (2023).
من نسيج عناوينه، ودّعه الناقد أحمد بيضون كاتبًا: “سنجابُ شبابنا وساقي حصان العائلة! صادمُ رأسِ الملك بحافّة السرير! الفريدُ في تظهيره الوحدةَ بين روح الفكاهة وجوهر الشعر…وداعًا يا شوقي!”