شوقي بزيع.. عن حبل السرّة الذي لم ينقطع بينه وبين زبقين
“ما مِن شِعر غنيّ بلا طفولة غنيّة”، قالها الفيلسوف الفرنسيّ باشلار، وردّدها شوقي بزيع كثيراً، في خلال الحوارات التي أُجريت معه. هوَ الذي يرى في تلك الطفولة الريفيّة، “الزبقينيّة” مزيج النعمة واللعنة. إذ منحه الجنوب كلّ ما هو عليه: الحساسيّة، الغضب، الهدوء، الحنان، الألم… “كلّ ما ورثته، كان من الجنوب، وفعلاً طفولتي مُترعة بالرؤى، والتخيّلات. لذلك يصعب على المدن صنع الشعراء، لكنّها تصنّعهم عبر الاستعانة بالمادّة الخام الآتية من الريف، حيث كلّ شيء يتّسع إلى ما لا نهاية.
كلّ شيء متّصل بالأبديّة. الفضاء مفتوح، والعلاقة هي علاقة بين الإنسان والسماء، النجوم، المطر، قوى الطبيعة، باطن الأرض. كلّ هذه العناصر يستجمعها الشاعر ويذهب بها إلى المدينة، حيث المصنع”، يقول بزيع موصّفاً حالته، وباقي الشعراء الدالفين من أريافهم البعيدة نحو ذلك المصبّ الإسمنتيّ الناضح بالواجهات، والمقاهي، والمنابر، وأبواق السيّارات. المدينة تصهر كلّ ما في مخزون الشاعر لتعيد تأليفه ويعيد تأليفها.
جنوب الجسد
لطالما اعتبر بزيع أنّ كلّ جنوب في الأرض معذَّب ومغيَّب، “حتى جنوب الجسد”، لكنّه يرى في هذه الأرض مخزوناً عظيماً بحضارات قديمة، وأديان، وغنى نفسيّ وعاطفيّ. “ولذلك معظم التجارب الشعريّة الكبرى جاءت من جنوب الأرض، من نيرودا، إلى لوركا، وصولاً حتّى شعراء الجنوب اللبنانيّ”، يقول شوقي بزيع، الذي يشبّه الريف بآلة الناي، بينما يرى في المدينة سمفونيّة، وأوركسترا.
يختزن شاعرنا ينابيع “العزّيّة” المتّصلة بالجليل الأعلى، تلك الينابيع التي ترفده بما يحتاجه من قصائد، فقصيدته حيّة لأنّها متّصلة بالتراب والماء، وها هو ينسج أسطورةً لدير قانون النهر، مستفيداً من اسم تلك البلدة، الحامل ثلاث كلمات مستفزّات للمخيّلة، هي: دير، وقانون، ونهر.
بيوت الطفولة
جرّاء عدوان تمّوز، في العام 2006، مات بعض أقرباء بزيع، وهُدم بيت الطفولة في “زبقين”، فلَم يكن الصاروخ الإسرائيليّ مجرّد أداة محو للإسمَنت، بقدر نهشه في مسام الذاكرة، حيث يتمركز الحنين. و”حنين” صار اسماً يرافق وجدان بزيع إذ أطلقه على ابنته، كأنّه اعتنق آيات الوجد القديم، حتّى ما عاد يطيق تخيّل الحنين كومضات لا مرئيّة، فكانت ابنته الحنين وقد تجسّد.
كلّ شيء متّصل بالأبديّة. الفضاء مفتوح، والعلاقة هي علاقة بين الإنسان والسماء، النجوم، المطر، قوى الطبيعة، باطن الأرض. كلّ هذه العناصر يستجمعها الشاعر ويذهب بها إلى المدينة، حيث المصنع”، يقول بزيع موصّفاً حالته، وباقي الشعراء الدالفين من أريافهم البعيدة نحو ذلك المصبّ الإسمنتيّ الناضح بالواجهات، والمقاهي، والمنابر، وأبواق السيّارات. المدينة تصهر كلّ ما في مخزون الشاعر لتعيد تأليفه ويعيد تأليفها.
في حوار متلفز يرّد شاعر “مرثيّة الغبار” على محاوره موصّفاً حالته بعد هدم البيت: “شعرت وكأنّ ذاتي قد تصدّعت، وأنا الذي هُدِمت، لأنّ بيوت الطفولة، متواجدة بما هو أكثر من عناصرها من طين وحجر وحديد. هي البيوت التي تأسّست عليها أجسادنا وأرواحنا في آن”، ليعود مستشهداً ببشلار: “الطفولة هي السحر الغامض للأيّام المطمورة. هي الكنز الذي لا يجفّ، ولا يستنفذ”.
المرأة في اللّيل الأسْوَد
في عمر الثالثة، تلك المرحلة الجامعة بين الواقع والسحر في مخيّل الطفل، مشى شوقي الصغير، رفقة أصابع والدته التي تجرّه، بينما تحتضن ابنها الرضيع بيدها الثانية. قصدَت مقبرة القرية، حيث شاهد شوقي “غابة من السواد، من النساء”، بينما “تلمع وجوههنّ البيضاء في الشمس”، فأشعل فيه هذا المشهد شعوراً غير عاديّ باتّجاه المرأة، لتكون “هذه الكائنات” مرَضه الأخير، وهي الكائنات التي سينتمي إليها، وهي ستكون- في نهاية المطاف- الوشم الذي سيحفر في داخله إلى ما لا نهاية. “في ما بعد، كنتُ دائماً أشتهي النساء في الليل الأسود” يقول معبّراً عن أثر تلك اللحظة، حيث سيستمرّ في رغبته للمرأة في ضوء الحداد، كأنّها “رغبة في ضوء الموت”.
منظّمة العمل الشيوعيّ
من العام 1968، حتى العام 1972، خاض شاعر “قمصان يوسف” العمل السياسيّ، بنموذجه الحزبيّ، الحَرفيّ، الملتزم، حيث انتمى إلى “منظّمة العمل الشيوعيّ”، وهو يصف تلك المرحلة بتعبير طريف، يعتبر فيه منظّمة العمل، مثل “الحصبة”، تمرّ على الناس جميعاً، ثمّ علينا الانتهاء منها بعد حين.
كان انتماؤه آنذاك، أكثر من إطار حزبيّ، لتشبه “المنظّمة” مسيرته مع الحداثة، والرفض، والتغيير، كأنّ ذلك الإطار العقائديّ، مرآة واقعيّة لأحلامه الثائرة، غير أنّه اصطدم بعد حين، بذلك الإلحاح على الكتابة الايديولوجيّة، ذات الخطاب المباشر، إذ كان المسؤولون ينصحونه بالإنصات إلى قصائد أحمد فؤاد نجم، التي غنّاها الشيخ إمام، لينسج كلماته على منوالها! يريدون منه الشعار، والهتاف.
في المقابل كان لشوقي بزيع أساتذة مباشرون في الجامعة، هُم أسّ الحداثة، مثل أدونيس، ويمنى العيد، وخليل حاوي وآخرين. هكذا وجد نفسه في حالة تجاذب بين خطّين: المباشر والمتخيّل. الجماهيريّ والنخبويّ. ليختار القفز الهادئ من صفوف “المنظّمة”، من دون أن يبتعد عن طروحاتها كشكل من أشكال النضال والتغيير آنذاك. من هنا بقيَت قصيدة بزيع ابنة المرحلة بمعانيها التأمّليّة الكبرى، لا قصيدة حدث، وردّ فعل، ليحسم المسألة بهذا الوصف: “الشاعر ليس مراسلاً حربيّاً”.
غناّه مرسيل
يُعتبر شوقي بزيع من أبرز “شعراء الجنوب”، وشعراء الجنوب هو التعبير الذي توّج مجموعة من المبدعين ممّن غادروا قراهم نحو بيروت، ومنها كُرِّسوا عربيّاً، بل وعالميّاً، بجوائز كبرى، وترجمات متعدّدة اللغات. لقد غنّى مرسيل خليفة الكثير من قصائد تلك المجموعة، وكان لبزيع حصّة تتضمّن “زعموا أنّ صباحاً كان”، و”يا حادي العيس”، و”جبل الباروك”، وغيرها. لن نكابر لننفي دور الموسيقى، حين تستلبس الكلمات، فتعيد ابتكارها بأفق جديد، كما حصل ذات أغنية كتبها في أواخر السبعينيّات، فمَن منّا لم يتخيّلْ أيمن، ويعِش تلك المشهديّات ما قبل موته، هو الطفل الذي قتلته غارة اسرائيليّة، ليصبح “مرثيّة” شوقي الأشهر، وأغنية مرسيل التي ردّدها مع الميادين في جرش، والجزائر، وباريس، والسويد…
“سأحدّثكم عن أيمن
عن فرح الغابات الفاتن في عينيه
وعن سحر يديه
إذا فرّت أنهار الأرض وخبأها بين أصابعه
سأحدّثكم عن أيمن
عن قمر تشتبك الأشجار على دمه المنسيّ
فيسقط في النسيان
عن طفل يركض خلف فراشته
وعن الخنجر في أقصى الوديان…”
يُعتبر شوقي بزيع من أبرز “شعراء الجنوب”، وشعراء الجنوب هو التعبير الذي توّج مجموعة من المبدعين ممّن غادروا قراهم نحو بيروت، ومنها كُرِّسوا عربيّاً، بل وعالميّاً، بجوائز كبرى، وترجمات متعدّدة اللغات
القصيدة العارية
حتّى في أقصى نوبات غضبه الشعريّ، وذلك الرفض الذي يستبطن جلّ قصائده، لم يبتعد شوقي بزيع عن جماليّات اللغة، وإيقاعاتها، ولم يترك باب فكرته موارباً، فهو يختار الكلمة بعد أن يطمئنّ إلى عطرها، فيوظّفها خير توظيف، متّكئاً على مفهوم العرب للجمال، إذ لم يقدّموه بميزات النقاء والصفاء، بشكل دائم، بل هو الجمال الفاتن “من الفتنة”، والرائع “من الروع”، والهائل “من الهول”.
يقول صاحب “وردة الندم”: “كلّ مشتقّات الجمال، نابعة من الخوف”، وهو الذي يعتبر أنّ القصيدة راقصة تعرٍّ، تخلع ثيابها القطعة تلو القطعة، لكنّها تُبقي قطعة أخيرة على جسدها، ليبقى الشِّعر في تلك الحالة بين الإظهار والإخفاء. وها هو يجيب على سؤال أحد المشتكين من الإبهام في قصيدته: “لماذا تحبّون المرأة المتمنّعة، وتريدون القصيدة السهلة؟!”، هكذا مثل وصف كزانتزاكيس، مؤلّف “زوربا”، حين يفكّك أزرار قميص حبيبته، إلّا واحداً منها، عالقاً، يأبى أن يُفَكّ.