صالة “إل تي غاليري” الجميزة.. “أغورا” تجمع شتات المدينة

تعود كلمة Agora إلى فلاسفة الإغريق وإلى أرسطو بشكل خاصّ ومن أبرز من تصدّوا لهذه الكلمة من فلاسفة القرن العشرين الفيلسوف الألمانيّة حنّة آرندت.

تعني الـ”آغورا” بالمعنى العريض للكلمة الساحة العامّة، الفضاء المفتوح الـpublic space وقد ارتبطتْ من جهة الدلالة بالمدينة إلى حدّ بعيد، أمّا آرندت فقد أسكنتْ هذه الكلمة في أفق من المعنى يتجاوز في بعض مضامينه ما قاله فلاسفة اليونان ويتطابق في مضامين أخرى مع ما قاله هؤلاء.

فبالنسبة إلى حنّة آرندت الآغورا هي في آن معًا ذلك الحيّز الذي يقوم على السرد الداخليّ للإنسان مع ذاته Interior Monologue لكنّه أيضًا يقوم على العلاقة الذهنيّة واللسانيّة مع الآخرين Intersubjectivity والمآرب الأخيرة للآغورا في مجمل تفاصيلها هي سيادة الإنسان على نفسه، أيّ أن يكون حرًّا في ما يؤمن به وفي ما ينطق به، يعني- وبالعودة إلى أساتذة آرندت من فلاسفة الإغريق- أن يتمتّع هذا الإنسان بالـEleutheria (الحرّيّة التي تقوم على محض التبعيّة للذات)…

وحبّذا لو كان بالإمكان التوسّع أكثر في هذه النقطة، لكن علينا الذهاب الآن إلى مار مخايل الجمّيزة التي شهدتْ في السادس من شهر حزيران/ يونيو افتتاح الصالة الجديدة لـLT Gallery (إل تي غاليري) حيث إغراء العودة إلى فكرة الآغورا شدّني في أثناء وجودي في ذلك الافتتاح.

معرض “LT Gallery” في الجميزة
أرخبيل العيون والنظرات

لا أخال أنّ أيًّا من منظّمي هذا الإفتتاح قد ظنّ أنّ ثمّة من سوف يقارب هذه المناسبة من هذه الناحية بالذات، إلّا أنّ ما رافق ذلك الافتتاح البديع من ناس وحوارات وقراءات لهذا العمل الفنّيّ المعروض أو ذاك حفّز عندي هذه المقاربة بلا تردّد على الإطلاق.

من الدلالات الكلاسيكيّة لكلمة آغورا، جمع شتات المدينة، وهو ما شاهدته مليًّا في الـLT Gallery في السادس من حزيران بين السادسة والتاسعة ليلًا.

ليس على المدينة أن تكون محلّ تطابق في الآراء والنظرات أو محلّ تصوّر واحد إزاء أيّ من شؤون الحياة، بل إنّ جوهر المدينة يقوم على المغاير والمختلف، على الواضح والضبابيّ، على الشبحيّ وحسن الصورة وصولًا إلى اللامنتهي والذي هو قيد التشكّل في كلّ حين وآن، تمامًا كبعض الأعمال المعروضة في صالة الـLT Gallery في ذلك اليوم. فأن تكون اللوحات المعلّقة على الجدران بمثابة أرخبيل للعيون والنظرات وأن تكون تلك العلاقة بين المرئيّ والمنطوق محلّ تذبذب على الدوم هو ما يشكّل جوهر الانفتاح على الآخر وجوهر أن يكون المرء كائن المدينة بعامّة.

تزاوج بين المدينة والفنّ

ثمّة تماه شاهدته في مار مخايل الجمّيزة في أثناء ذلك الافتتاح بين التمعّن في الأعمال الفنّيّة من جهة وعدم الامتثال لِما تريد أن تقوله تلك الأعمال من جهة أخرى. إنّ المتلقّي في هذا السياق بمنتهى الحرّيّة في كيفية تلقّيه… أيضًا وأيضًا، إنّه ذلك التزاوج بين المدينة والفنّ.

من الدلالات الكلاسيكيّة لكلمة آغورا، جمع شتات المدينة، وهو ما شاهدته مليًّا في الـLT Gallery في السادس من حزيران بين السادسة والتاسعة ليلًا.

بالنسبة إلى حنّة آرندت أن الآغورا هي تلبية للشرط الإنسانيّ الأرقى في ما يتجاوز الحاجات الأساسيّة أو البيولوجيّة للعيش. إنها– الآغورا– تحفيز لإمكانات العقل وإمكانات القول (اللوغوس) وأيضًا لإمكانات الخيال، ولا شيء في هذا السياق يمنع من أن يكون المتفرّج أيضًا فنّانًا، وهو ما أوحت به تلك الأمسية في الجمّيزة كما شاهدت الأمر في عيون ولفتات الناس.

جمع المعرض في ذلك الافتتاح الجديد للـLT Gallery مجموعة من الأعمال لفنّانين وفنّانات من لبنان ومن خارجه، وبالنسبة إليّ ما يجمع بين كلّ من تلك الأعمال هو عدم إمكان البتّ في ما يريد أن يقوله هذا الفنّان أو ذاك عبر نصّه البصريّ المعروض. فجوهر الآغورا هو عدم إمكان البتّ. فالبتّ هو نهاية الأشياء، نهاية المواضيع، نهاية اللوحة ونهاية الكلام وهو ما يضادّ شرط المدينة بعمق… شرط المكان المفتوح بالإجمال.

الرغبة في التنوّع

ثمّة استدعاء لبيروت التي نحبّ نجح منظّمو هذا المعرض/ الافتتاح في ترسيخه بالأذهان، وثمّة استدعاء لذاكرة أخرى تجسّدَ بعمق في السادس من حزيران في منطقة مار مخايل الجمّيزة ببيروت. ذاكرة نجاة ترنو إلى مستقبل مشرق لبيروت.

ربّما الدرس الأول الذي يمنحه الفنّ لنا هو الرغبة في التنوّع… ثمّة من كتب مرّة، حين تتعب الأشياء من تنوّعها تبدأ نهايات المدن.

لست أدري إذا ما كان في نيّة منظمي تلك الآغورا البصرية بشارع الجمّيزة يومذاك أن يبثّوا التفاؤل في القلوب حيال مستقبل بيروت، بيد أنّ ذلك التفاؤل كان جليًّا فوق الوجوه ونظرات العيون، وإمكان تلمّس هذا التفاؤل كان واضحًا في زخم تبادل الأحاديث بين الحضور وأيضًا في صمت بعضهم.

في تقديمه لكتابه الموسوعيّ “قصّة الفن” يقول أرنست غومبرتش، لا يوجد في الحقيقة شيء اسمه الفنّ بل يوجد فنّانون وحسب وهؤلاء بدأوا سيرهم الفنّيّ برفع التراب من فوق الأرض وتلوين جدران الكهوف.

ربّما تستودع المدن تاريخها في عيون ناسها وفي شرود خواطرهم، وربما هي تستودع هذا التاريخ أيضًا في صخبهم وفي سكوتهم وفي تمرير الأيدي فوق الحواف والجدران تمامًا مثل أهل الكهوف. فلا أحد يستطيع أبدًا احتكار ذاكرة المدينة، فهذه الذاكرة في تنوّعها هي تمامًا مثل تنوّع الأعمال الفنّيّة في صالات العرض، وجلّ ما يستطيعه الإنسان في هذا الصدد هو ترقّب مستقبل آخر لا علاقة له بالحاضر المهزوم لبيروت.

وربما يكون نجاح الـLT Gallery في إلقاء القبض على هذا المستقبل الجميل لمدينتنا ليلة ذلك الافتتاح الكثيف هو صدى لِما قاله آلبرتو جياكوميتي لجان جينيه في واحد من حواراتهما الرائعة: “إن تلقّي العمل الفنّيّ– قال جياكوميتي لجينيه– هو بمثابة الركض المحموم نحو مستقبل أفضل”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى