صفحة “طرائف الأدب العاملي”.. “الشغف في التراث العاملي الساحر”
تغيب مظاهر التراث بأبعاده كافة عن معظم قرى وبلدات الجنوب اليوم. سواء كان ذلك التراث عبارة عن معالم أو عمران أو حتى في الفضاءين البصري والسمعي اللذين يملأهما الثنائي المسيطر على الجنوب من خلال التحشيد الكبير للأعلام والصور والمجسمات التي تنتشر في طول القرى والبلدات وعرضها، وأيضاً الأنشطة المكثفة التي تركّز على البعدين الديني والسياسي دون غيرهما.
لا شك أن الاعتداءات الاسرائيلية المتواصلة والاجتياحات المتعددة والمتكررة وما ألحقته من دمار لقرى وبلدات بأكملها، أدّيا إلى خسارة الجنوب لجزء كبير من تاريخه العمراني والتراثي الغني. حتى يُخيّل لزائري الجنوب اليوم أن القرى والبلدات قد بُنيت بالأمس وعلى عجلة، وأن لا تاريخ يمتد لمئات السنين لتلك القرى والبلدات. العامل الآخر هو الانفجار السكاني والعمراني الكبير الذي شهده الجنوب وما رافقه من فوضى أدّت أيضاً لخسارة الجنوب لجزء كبير من تراثه.
طرائف الأدب العاملي
الغياب الكبير لتراث الجنوب من مساجد ومقامات ومدارس ومكتبات تاريخية إضافة للبيوت التراثية وغيرها من الأحداث على أرض الواقع، حضرت بقوة من خلال صفحة فايسبوكية تهتم بتراث الجنوب وتاريخه وأحداثه. صفحة تهتم بالطّريف من الأدب العاملي، نثرًا كان أم شعرًا، زجلًا أم شعرًا موزونًا”. هكذا يُعرّف المهندس حسن ترحيني مؤسّس صفحة “طرائف الأدب العاملي” التي أنشأها عام 2010 على فايسبوك.
اللافت بالأمر أن ترحيني الشاب الجنوبي من بلدة عبّا في قضاء النبطية لم يدرس التاريخ، لذلك يرفض لقب “مؤرّخ”، بل تخرج من كليّة الهندسة في الجامعة اللبنانية. وحده الشغف هو الذي جرّه إلى نقل التراث العاملي المهمل والإهتمام به.
يقول ترحيني إن الصفحة في بداية تأسيسها كانت تُعنى فقط بنشر الطرائف العاملية، من أشعار ومساجلات وقصص طريفة من الأدب. في ما بعد لم يتخلَّ ترحيني عن نشر هذه الطرائف التي تشكل هوية الصفحة، لكنه بدأ بالتشعّب بغية التنويع. فدخل في التاريخ والسياسة العاملية، ما حوّلها إلى صفحة تتعرّض إلى كافة أنواع الأدب والتاريخ والتراث والسيَر والمؤلفات العاملية والشخصيات التاريخية المهمة التي شكلت البوابة أو الواجهة لهذا التراث الكبير، كالشيخ “حبيب آل ابراهيم”، و”محمد بك التامر”، والعلامة الشيخ “عبد الحسين نعمة”، وغيرهم.
نستذكر من هذه الطرائف التي نشرها ترحيني في الصفحة، المناظرة الأدبية الحادة التي جرت بين أدباء “بنت جبيل” و”شقراء” عام 1936. أرسل الشاعر “موسى الزين شرارة” وقتها قصيدة مطلعها “شقراء لا زلتِ منارة عاملة/وبكل عصرٍ بالمعارف شاعلة”، محاولًا تلطيف الأجواء مع بلدة شقراء.
نشر المُهمل والمجهول
يؤكد ترحيني أن هدف الصفحة الرئيسي هو نشر المهمَل والمجهول وكشف المزوّر من التاريخ، وأيضاً لفت النظر إلى الغياب الواضح والإهمال بحق التاريخ العاملي. يلفت ترحيني أنه ليس الوحيد الذي بادر بإزاحة الغبار عن هذا التاريخ المهمَل، بل هناك صفحات ومواقع ومدوّنات أخرى تمّ تأسيسها كجمعيّة “قبَس” لحفظ التراث، مدوّنة الشيخ “علي الخازم”، جمعية الإمام الصادق لإحياء تراث جبل عامل، مركز الفقيه العاملي لحفظ التراث في “حاريص”، ومجلة “النجف” التي صدر منها 216 عددًا، وموقع “السرائر” بإدارة الشيخ “حسين كوراني”.
هذه المواقع والمدونات والمجلات، جميعها مبادرات فردية كالتي قام بها ترحيني الذي يحاول بمبادرته إشباع رغبة شخصية في شغف نقل هذا التراث المهمل، ولكن إلى أي حد يمكننا اعتماد ما يتم نشره في صفحة “طرائف الأدب العاملي” كمرجع موثوق؟ يقول ترحيني إن الوثائق التي يتم نشرها في الصفحة غالبها مأخود من أرشيف واسع يحتفظ به حتى اليوم من كتب ومجلات ومراجع تاريخية واقتباسات، مشيرًا إلى أنه مع تقدم الوقت صارت غالبية الوثائق والمواد الأرشيفية من مصادر إلكترونية متوفرة بشكل مجاني للعموم.
يضيف ترحيني أنّ معظم الوثائق حصل عليها خلال مطالعة صفحات تُعنى بنشر الأرشيف العثماني. كما يؤكد أنه ينقل كل المعلومات بدقة وحرفية كاملة دون التصرف بها. “الصفحة يمكن أن تكون مادّة تقميش لأي باحث” يقول مضيفًا.
هدف الصفحة الرئيسي هو نشر المهمَل والمجهول وكشف المزوّر من التاريخ، وأيضاً لفت النظر إلى الغياب الواضح والإهمال بحق التاريخ العاملي.
تهم وسجالات
لم تسلَم الصفحة ومواضيعها المنشورة من دائرة التهم والسجالات وتباين الآراء الحادة، حيث أنّ بعض المواضيع والوثائق المنشورة كانت دائمًا محطّ جدال، وبعضها مواضيع شائكة منذ بداية الحدث في الماضي. مؤتمر وادي الحجير نموذجًا على ذلك، كونه شكّل محطة مفصليّة في تاريخ جبل عامل والشيعة تحديدًا. نشر ترحيني العديد من الوثائق والنصوص المختلفة حول هذا الموضوع، كرواية الشيخ “سليمان ظاهر”، ورواية السيد “حسن الأمين”، ورواية السيد “عبد الحسين شرف الدين” وغيرهم. وكلها روايات مختلفة في وجهات النظر وفي نقل الأحداث التاريخية لهذا المؤتمر.
في هذا الإطار يرى ترحيني أنه في ذلك الوقت عام 1920 كان “العامليون” تائهون وكان هناك انقسامًا واضحًا في الآراء والرؤية السياسية، مؤيدًا رواية الدكتور الشيخ “محمد جعفر المهاجر” التي نشرها مؤخرًا في صفحة “طرائف الأدب العاملي”.
تقول الرواية إن مؤتمر وادي الحجير رغم جمعه لعيون ووجهاء جبل عامل إلا أنه كان فشلًا تاريخيّا هائلًا. يضيف ترحيني “سار الغالب الأعم من العامليين بسياسة الأمر الواقع، وهادنوا الفرنسيين وذلك بعد عام 1926. وانقلب أخصام الأمس إلى أصدقاء للفرنسيين، ولم يبقَ إلا القليل من المعترضين وغالبهم من الأدباء والشعراء”.
اللافت في الصفحة ومنشوراتها أنها تركّز على حقبات معينة، حيث تُكثَر الأخبار حول تاريخ الزعامات التقليدية والإقطاعية في الجنوب، بينما تغيب فترة الأحزاب اليسارية والبعث والقومي. يقول ترحيني إن أسباب هذا الغياب متعدّدة منها عدم توفّر مصادر كافية وعدم إلمامه بتاريخ تلك الأحزاب. إضافة إلى الحساسية المفرطة التي يمكن أن يُحدثها تناول تلك الحقبة التاريخية. في الوقت ذاته لا ينكر ترحيني دور الأحزاب اليسارية في زيادة الوعي السياسي والنقابي والتعليمي في الجنوب في حقبة الثلاثينيات وصولاً إلى السبعينيات بعد السبات التي دخلت فيه المنطقة في بدايات الانتداب الفرنسي.
مشاريع مستقبلية
ما زالت الصفحة ناشطة حتى اليوم رغم كل ما تعرّضت له من هجومات وتهم. يؤكد ترحيني أنه مستمر في النشر وفي كشف كل المهمَل في غياهب التاريخ حسبما تسمح الظروف، بلا أي خلفيات أو دوافع سوى الشغف في هذا التراث العاملي الساحر. أما عن المشاريع المستقبلية فيقول أنه يطمح للعمل على التحقيقات الميدانية لبعض الأماكن الأثرية والتراثية أو صناعة أفلام قصيرة لبعض الحوادث التاريخية العاملية.
هذه الصحافة التي تكتب في الهوامش وفي السر أحيانًا معتمدة على التفاصيل الصغيرة المنسيّة، أو التي تبدو مهمشة قسرًا هي التي لن تُنسى. هذا بالضبط ما أشار إليه بورخيس قائلًا “ما يُكتَب في جريدة، يُكتب لكي يُنسى. يُكتَب عن عمد لكي يُنسى”.
لطالما انشغل الجنوب بأحداث دون غيره، وهذا أدّى إلى مضاعفة الحاضر وتكثيفه، ونسيان الماضي وتغييبه. لم يعد التراث العاملي همّاً ثقافياً أو إرثياً لدى الجنوبيين. وكأن هناك بترًا متعمّدًا للتاريخ، وكأن هذا التاريخ بدأ البارحة ولم يتراكم على مدار مئات السنين. قلّة هم الذين انشغلوا بنقل التراث العاملي، حيث أنّ معظم هذه المبادرات فردية تعتمد على أرشيف ورقي يأخذ طريقه شيئاً فشيئاً نحو التكنولوجيا لينحفظ في أدراجها. ماذا لو كان هذا الأرشيف اختفى مع تقادم الزمن، وماذا لو اندثرت الأجيال القليلة التي وحدها تحمل تلك الذاكرة؟ ماذا يبقى؟ لن يبقى لنا شيء.