صناعة المراكب في الجنوب مهدّدة بالأفول.. لبنان ينزف حرفه التراثية
تعتبر صناعة المراكب البحريّة التقليديّة في لبنان من أهمّ الحرف الموغلة في التاريخ والتراث، وقد بدأ يُقرع ناقوس الخطر حولها مع تراجع اليد العاملة فيها، وتراجع الطلب عليها نظراً لارتفاع أكلاف صناعتها ولوازمها، وكذلك مع انحسار حركة المراكب في الصيد البحريّ والسياحة في ظلّ الأوضاع القاهرة التي يعاني منها الصيادون والبحّارة على حدّ سواء، وهم يكابدون في سبيل تحصيل لقمة عيشهم اليوميّة.
لكن، كيف يمكن حماية هذا الإرث الثقافيّ الحضاريّ ومن خلاله جزء من هويّتنا وتاريخنا، خصوصًا أن هذه الصناعة في خطر داهم؟ فهي أبعد من كونها مهنة أو مجرّد حرفة، بل تراث يرقى إلى آلاف السنين، سكن الشاطئ اللبنانيّ ومدن الساحل، وهو حيّز من مهد الحضارة الإنسانيّة، من أيّام الفينيقيّين، أصحاب الحضارة الكبرى الذين خاضوا غمار البحار، إلى من توالوا بعدهم على تكريس ثقافة البحر، وحدّدوا معالم الحضارة المتوسّطيّة، ثقافة وفنًّا ونمط حياة.
إنّ من يمتهنون صناعة المراكب اليوم، على قلتهم، لا يبنون مراكب وقوارب وسفنًا فحسب، وإنما يمارسون فعل صمود يحمون من خلاله وجه لبنان الثقافيّ والحضاريّ، خصوصًا وأنّهم يواجهون عقبات وصعوبات كبيرة، منها إغفال الدولة لهذا القطاع وعدم الالتفات إليه وحمايته وتطويره، بما يجعل من لبنان منافسًا اقتصاديًّا وتجاريًّا، وتاليًا التمسّك بجزء من تراث لبنان، وما يشتمل عليه من “نوستالجيا” تاريخيّة لا تزال حاضرة في جيناتنا كلبنانيّين أصحاب حضارة.
آل بربور آخر الفينيقيين
من صيدا إلى مدينة صور، يؤكّد الياس بربور، وهو واحد من أربعة أشقّاء توارثوا الحرفة عن أبيهم إيليا بربور وعن جدهم مارون، ما زالوا يعملون في صناعة القوارب والمراكب، أنّه “آخر الفينيقيّين”، ومن بعده فإنّ قدر هذه الصناعة الاندثار. والسبب أنّ الياس الذي يعمل معه اثنان من أشقّائه في صور لم يتزوّج، وأبناء أشقائه لم يرغبوا بتعلّم مهنة آبائهم وانصرفوا إلى مهن أخرى، فيما يعمل الشقيق الرابع في المهنة نفسها، إنّما في قبرص.
“الجدّ هو الأساس”، يقول بربور لـ”مناطق نت” ويتابع: “أعمل في هذه المهنة منذ أكثر من أربعين سنة. كنت في صف الفلسفة حينما بدأت الأحداث في العام 1976 فتركت المدرسة، ومنذ ذلك الوقت بدأت العمل في الورشة”. يضيف: “هنا نصنع كلّ أنواع المراكب، منها السياحيّة ومنها الخاصّة بالصيد، وذلك بحسب الطلب ورغبة الزبون. في السابق كان الاعتماد على تصنيع مراكب الصيد، حيث كنا ننتج في السنة الواحدة أربعة مراكب، أمّا الآن فيتركّز الطلب على المراكب السياحيّة، في حين تراجع حظّ مراكب الصيد”.
ويشير بربور: “ننجز حاليًّا مركبين للصيد في السنة، وبات أكثر جهدنا يتركّز على المراكب السياحيّة، وربما يعود ذلك إلى تطور القطاع السياحيّ؛ هذا فضلًا عن إصلاح المراكب، وهذا عمل لا ينتهي، إذ أصبح موسميًّا للصيانة كلّ عام أو نتيجة عطل طارئ على مركب ما، وهذا يساعد في تعديل العمل من حيث الإنتاجيّة. أمّا زبائننا فهم من كلّ مكان، من صيدا والناقورة وسدّ القرعون وبيروت والبترون وطرابلس وأيضًا من الأردن”.
باخرة فينيقية في لشبونة
عن المراكب التي صنّعوها يقول بربور: “قمنا بصناعة سفينة فينيقيّة الشكل في العام 1998، وكان والدي إيليّا بربور لمّا يزل حيًّا، وذلك لصالح وزارة الاقتصاد التي شاركت بها في معرض البحار والمحيطات في العاصمة البرتغاليّة لشبونة، حيث وُضعت في جناح المعرض اللبنانيّ، ولاقت إقبالًا كبيرًا ولافتًا، خصوصًا أنّ المعرض شاركت فيه 180 دولة، لكن للأسف بدلًا من إعادة السفينة إلى لبنان بقيت في لشبونة”.
إلياس بربور: قمنا بصناعة سفينة فينيقيّة الشكل في العام 1998، وذلك لصالح وزارة الاقتصاد التي شاركت بها في معرض البحار والمحيطات في العاصمة البرتغاليّة لشبونة لكن للأسف بدلًا من إعادة السفينة إلى لبنان بقيت في لشبونة
غياب وزارة الثقافة
يشكو بربور من غياب وزارة الثقافة المعنيّة بهذه الصناعة التراثيّة، يقول: “كما تشاهدون ليس هناك أيّ دعم، خصوصًا من وزارة الثقافة، باعتبار أن هذه المهنة تندرج ضمن المهن التراثيّة والتقليديّة، ربّما وزير الثقافة ليس لديه اهتمام بهذا الموضوع، وكذلك لا أحد على مستوى الدولة يهتمّ بهذه الصناعة”. ويلفت بربور إلى أنّ “رئيس بلدية صور الحاج حسن دبوق وحده يهتم بهذه الصناعة، ووحده يدعمنا، وإذا أردنا الخشب على سبيل المثال فيقوم بتأمينه لنا”.
عن وضع العمل حاليًا يضيف بربور: “نعمل الآن على صناعة سفينة فينيقيّة سياحيّة كبيرة بطول خمسة عشر مترًا، وأصبحت في مرحلة بناء الأضلاع”. أمّا أكبر سفينة قام آل بربور بصناعتها، “فقد بلغ طولها نحو ثلاثين مترًا، وضمّت عشر غرف نوم، وكانت للبناني مقيم في الأردن ويملك فندقًا في المعاملتين، وصنعنا سفينة بطول سبعة وعشرين مترًا موجودة اليوم في جونيه”.
ليس هناك دعم
يصف بربو مهنته “بالجميلة”، ويشرح عن أنواع الخشب المستعمل فيقول: “أيّ مركب نصنعه نضع فيه أجود أنواع الخشب والمسامير والبراغي وثمنها اليوم مرتفع جدًّا، ولا نضع الخشب إلّا في مكانه الصحيح، فللأضلاع نستخدم خشب الكينا والتوت، أمّا من الخارج فنضع خشب السرو أو كما يطلب الزبون، فهناك خشبٌ أجنبي، ولكن تصبح الكلفة أعلى”.
وعن استبدال المراكب الخشبية بمراكب “الفايبر”، يقول بربور: “لا نرى أيّ تهديد أو منافسة بينهما، فمراكب الصيد تعتمد على الخشب، أمّا مراكب الفايبر فتكون خفيفة الوزن وتتلاعب بها الأمواج”.
يختم بربور حديثه متخوّفًا من اندثار المهنة فيؤكّد “نعمل كعائلة في هذه المهنة التي أسّسها جدّي منذ العام 1900″، والمطلوب “دعم هذه المهنة التاريخيّة الفينيقيّة التي تمثّل بعضًا من تراث لبنان، ومن وجهة نظري هي أهمّ كثيرًا من معارض الرسم التي تقوم الوزارة بدعمها، وحاليًّا لا شيء واضح حيال مستقبل الحرفة بعدنا، فأولاد أشقائي اختاروا العمل في مهن أخرى، وأنا لست متزوّجًا، ولا أحد غيرنا تعلّم هذه الصناعة، ونحن وحدنا اليوم”.
عائلة العقّاد في صيدا
على امتداد الشاطئ ثمّة أكثر من مصنع وورشة، لكنّها تقوم بجهد ذاتي، وتستمرّ بالتوارث من الجدّ إلى الابن فالحفيد، دون آفاق للتطوير والتوسّع، فهذه الصناعة تتطلّب بنى تحتيّة ودعمًا لتنطلق نحو المنافسة.
مصطفى العقاد “أبو رامي” ابن مدينة صيدا الذي يتشارك مع المخرج السينمائيّ السوري الراحل الاسم والكنية نفسيهما، ورث المهنة عن أبيه مع أشقائه، يقول لـ”مناطق نت”: “نعمل في مجال صناعة المراكب أبًّا عن جدّ، ونقوم أنا وأشقّائي بتوسيع العمل في صيدا والصرفند والجيّة”. يضيف: “نبني المراكب بمختلف الأحجام، وأكبرها موجود اليوم في ميناء صور، وقد صنعته ليكون مطعمًا وفندقًا، وهو بطول ثلاثين مترًا وبعرض سبعة أمتار ويعرف باسم (إليسار مارين)”.
من الجدّ إلى الحفيد
يضيف العقّاد: “على صعيد لبنان، نحن معروفون من الحدود إلى الحدود، وابني اليوم يرافقني في هذه المهنة، منذ قرر عدم إكمال دراسته، على رغم أنّني تمنّيت عليه متابعة تعليمه، لكنّه رفض وقرّر أن يكون معي ويتعلّم المهنة”. ولدى مصطفى ابنان آخران أصغر من شقيقهما سنًّا، “عملا في هذه المصلحة، لكنّهما لم يكملا كونها متعبة قليلًا”.
وعمّا إذا كان ثمّة سرّ متعلّق بهذه المهنة سوف يسلّمه لابنه، يقول العقّاد: “بالتأكيد هناك سرّ سلمته إيّاه منذ اليوم الأول، أيّ منذ قرّر أن يتعلّم المهنة، وهو سرّ صغير مغطّى بقشّة كما يقولون، وكما علّمني والدي بألّا أخاف من شيء، أنا بدوري أدعمه وأعطيه معنويّات كي لا يخاف، لأنّ هذه المصلحة فيها هدر، ويمكن خسارة كمّيّات من الخشب إذا ارتُكب أيّ خطأ صغير، ولذلك أشجّعه كما كان والدي يشجّعني”.
لا منافسة
ويضيف: “هذه المصلحة لا تؤمّن مردودًا كبيرًا، ولكنّنا مثلنا كمثل سائر الناس نعيش مستورين، ولا يمكن جمع مال كثير، وهذه المهنة مستمرة بسبب أنّ العاملين فيها عددهم لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، ولا يمكنهم تلبية كلّ الطلبات، إنْ على مستوى صناعة المراكب السياحيّة أو مراكب الصيد، ولذلك يبقى الطلب قائمًا بما يوفر الاستمراريّة”.
ويؤكّد أنّه “يمكن أن أصنع في السنة الواحدة ثلاث قطع، وطبعًا بحسب الحجم، بمعنى، إذا كان حجم المركب تسعة أمتار يمكن أن نصنع منه ثلاثة. أمّا في مجال الصيانة فلدي زبائن في صور وصيدا والصرفند وغيرها، وهؤلاء لا يمكن إلّا وأن أساعدهم، ولذلك إذا قمت ببناء مركب واحد في السنة فذلك يعني أنني أنجزت كثيرًا جدًّا من أعمال الصيانة، ولذلك، يمكن القول أنّ الاعتماد على الصيانة بات أكثر من صناعة مراكب جديدة”.
ويتابع العقّاد: “نعمل في معظم الموانئ، في الجية، الصرفند، صور، الأوزاعي، وفي معظم الأوقات نعمل على مراكب الصيد، وهناك أيضا مراكب للسياحة نلبّيها. وبالنسبة إلى الصيّادين فما زالوا يعتمدون المراكب الخشبيّة، حاولوا استخدام مراكب صناعيّة تعتمد عمليّة الصبّ، لكن التجربة لم تكن ناجحة أو مشجّعة؛ لا نقول لم تنجح كصناعة مركب، وإنما لناحية أنّها لم تكن صالحة للصيد، ولذلك لم نشهد منافسة أبدًا على صعيد صناعة مراكب الصيد”.
مصطفى العقاد: هذه المصلحة لا تؤمّن مردودًا كبيرًا، ولكنّنا مثلنا كمثل سائر الناس نعيش مستورين، ولا يمكن جمع مال كثير، وهذه المهنة مستمرة بسبب أنّ العاملين فيها عددهم لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة
مهددة بالانقراض
وعمّا إذا كانت هذه المهنة مهدّدة بالانقراض، يوضح العقّاد: الأمر مرتبط بمدى رغبة ومحبّة العاملين في هذه الصناعة. بالنسبة لي أنا أقدّس هذه المهنة، فهي صنعة حرفيّة، وإن كانت متعبة إلّا أنّني أحبّها جدًّا، هناك أشخاص يرغبون العلم أو الوظيفة كونها مريحة، لذلك باتت هذه المهنة مهددة بالانقراض، والدليل أنّ كثيرًا من الحرفيين في مجالات أخرى رفض أبناؤهم العمل معهم أو تعلّمها، فاندثرت حرفتهم ولم تكن هناك استمرارية”.
وعن الوقت الذي تتطلّبه صناعة مركب، يقول: “بحسب حجمه، فإذا كان مركب صيد بحريّ بطول يتراوح بين ثمانية أمتار وعشرة، تتطلّب صناعته نحو شهرين ونصف الشهر كعمل متواصل، وإذا كانت لدينا أعمال صيانة فالأمر يتطلّب نحو أربعة أشهر”.
بالوراثة
وعن العاملين في هذا القطاع، يضيف: “في صور هناك شقيقان، وفي الصرفند هناك اثنان من عائلتنا، واثنان هما أبنا شقيقي، في صيدا أنا وشقيقي، وهناك جارنا، أيّ ثلاثة في صيدا، وفي طرابلس هناك كثر لكن الحرفيّين منهم خمسة فقط”.
نمي وعي العقّاد على الحياة ووالده يعمل في هذه المهنة، “وأنا ما زلت أعمل فيها وقد أصبح عمري اليوم 55 عامًا، لم أدخل إلى المدرسة، كنت طفلًا عندما بدأت العمل مع والدي، ونحن فيها أبًّا عن جد، وأيضًا عمّي هو الآخر يعمل في هذه المهنة”.
الخشب لبناني
وعن الأخشاب، يشير العقّاد إلى “أنّنا نستخدم الخشب اللبنانيّ مثل الكينا، السرو، الزنزلخت والتوت، وفي بعض الأحيان نستخدم الصنوبر، لكن ليس على نطاق واسع، لأنّه غير ملائم للبحر. وبتنا أخيرًا نواجه مشكلة في تأمين الخشب، ومردّ ذلك إلى استخدامه في التدفئة، ونحن نشتري الخشب غير مقطّع بالطنّ من قبل حطّابين”.
ويختم العّقاد: أتمنّى على كلّ من يعمل في صناعة المراكب ألّا يتركها تندثر، أيّ أن يعلّمها لأبنائه وأقاربه ولأناس يثق بهم، وبالنسبة إلينا لا نزال نعمل على الطريقة التقليديّة التي تعلّمناها من الوالد، لكن قمنا بتطويرها قليلًا، يمكن لو أنّ هناك من أتيح له التخصّص في هذه الصناعة كمهندس يعمل وفقًا للدراسات فربّما يكون هناك عمل أكبر من ذلك”.
البحر مدى الحكايات
بين آل العقّاد في صيدا وآل بربور في صور، مسافة لا تُقاس بالكيلومترات، بل بذاك الزمن المشبّع بالحكايا والروايات عن أناس أبحروا في الأزرق الكبير الواسع سعيًا للزرق، ووراء لقمة العيش. هم توارثوا تعبهم جيلًا بعد جيل، فأبناء البحر وجيرانه توثّقهم الحِرف التي يتبادلونها لتستمرّ الحياة وتستمرّ المهن، إنّها سير المراكب تمخر عباب الليل والبحر، وسير من ينحتون في أحضان المرافئ خشبًا ليصير مركبًاً، فتولّف جميعها قصصًا يروونها من دون انقطاع، عن مهنة التعب والخطر والخوف من أن تندثر.