صوتي المتلاشي تحت شبح الحرب

يُفرغ الصخبُ أصواتنا من قدرتها على التعبير، أخال نفسي أقف على الحافّة، أحدّق في هوّةٍ بلا قاع. الصمت الذي أسمعه ليس هدوءًا، بل ازدحامٌ بأصواتٍ لم تُسمَع. هو زخمُ ما تبقّى من أمل، وما انهار من يقين. الدموع تنساب غزيرة من مقلتيّ من دون سبب واضح وفي لحظة تبدو عاديّة. أتساءل: “هل أنا مهزومة وحدي، بينما يحتفل الناس بالانتصار؟”.

أنصت حائرة، أصوات من حولي مرتفعة تقول “نحن بخير وإنّ الحرب انتهت”، لكنّ طنين المسيّرات في سمائي تنغّص أكثر لحظاتي استسلامًا، تنغّص عليّ صلاتي، فأستسلم لأسئلة تتشابك داخل رأسي، لأفكار تسحبني إلى واقع أواجهه تارةً بالخوف وتارةً بالإنكار. تناقض مستمرّ أثقل روحي وأرواح كثيرات مثلي، أمّهات وأخوات وبنات، نساء يرزحن تحت قسوة الحرب. نساء غزّة أوّلًا ولبنان ثانيًا وكثيرات في سوريّا أو اليمن أو السودان أو ليبيا.

أتساءل: هل ستتوقّف هذه المسيّرة عن الدوران؟ صوتها أصبح جزءًا من معاناتنا اليوميّة، أولم يكفنا ما عشناه من ويلات، ألا نستحقّ بعض السكون؟ تتسارع التناقضات، الإجابات تصبح مخيفة أكثر، مواجهة الحقيقة تحتاج إلى طاقة وجرأة. في بلادي، أصبح الجهل نعمة وربّما ضرورة.

سلسلة من الصدمات

أتذكّر كلمات “أوتو رانك” عن صدمة الميلاد، تلك اللحظة التي يُنتزع فيها الإنسان من جنّته الدافئة وهي أمّه، ليبدأ سلسلة من الصدمات التي تلازمه طوال حياته، فهل من المنطقيّ أن أقطع حبل السرّة الذي يربطني بأمّي الأرض؟ أن أفصل نفسي عن نفسي؟ أن اتفرّج على الأحداث وكأنّها فيلم مرعب مقتبس من قصّة حقيقيّة، عن حياتنا اليوميّة، عمّا نعيش؟ ولكنّني لا أستطيع إغلاق عينيّ كما كنت أفعل في الماضي، فقد شعرت بسخونة دموع الفاقدين أحبّاءهم.

الدمار في الضاحية الجنوبية

يرى كارل يونغ عالم النفس السويسريّ، أنّ الأمّ تُجسّد الأرض والخصوبة والطبيعة؛ فهي رمزٌ للحياة، وأيضًا للفناء لأنّها تحتضن الموت. تحدّث عن الأثر العاطفيّ العميق للأرض كجزء من الهويّة والانتماء النفسيّ للإنسان. ولكنّ “رانك” يقول بأنّ صدمة الميلاد تُحيينا، لأنّنا لا نستطيع البقاء في جنّتنا الآمنة إلى الأبد، لذلك لا بدّ لي من الانفصال.

كيف يمكنني أن أتجاهل أنين من حولي، وأنا أحمل عبء ما حلّ بهم وما زال يلاحقهم؟ فأنا واحدة منهم، وما أصابهم أصابني، لكنّ جرحهم يؤلمني أكثر ممّا يؤلمّهم لأنّهم اختاروا البكاء في الخفاء.

عندما سقط الصاروخ

لم يعد الكذب مجديًا؛ أرى الحزن في وجوه من حولي وفي سواد ملابسهم. يقولون لي إنّهم أقوياء، وأنا لا أصدقهم، لأنّني قلت لأولادي أيضًا إنّني قويّة، وعندما سقط الصاروخ كتمت خوفي بيدي وقطعت نفَسي كي لا يسمعوا صراخي.

أشاهد على “إنستغرام” فيديو لأمّ أُصيبت بتفجيرات “البيجر” عندما تلتقي بابنتيها بعد فترة علاجها الطويلة، وبينما تحتار الأولى ذات الخمس سنوات في موضع تقبيل أمّها بعد أن تغيّرت ملامح وجهها الجميل، تخاف الصغيرة ابنة السنتين من الاقتراب. هذا الخوف من الاقتراب تتمنّاه أمّهات كثيرات، تنتظرن العثور على أجساد فلذات أكبادهنّ المحاصرة في بلدات جنوب الليطاني، هذا النهر الذي أصبح محطّة فاصلة في حياتهنّ، حيث صقيع الفقد لا يدفئه لهيب النار المشتعلة في قلوبهنّ.

لم يعد الكذب مجديًا؛ أرى الحزن في وجوه من حولي وفي سواد ملابسهم. يقولون لي إنّهم أقوياء، وأنا لا أصدقهم، لأنّني قلت لأولادي أيضًا إنّني قويّة، وعندما سقط الصاروخ كتمت خوفي بيدي وقطعت نفَسي كي لا يسمعوا صراخي

صوت الدرون

حدّثتني صديقتي ذات يوم: هل تعرفين لماذا لا تحتمل الأمّ مرض أولادها؟ وقالت: “لأنّهم قطعة منها، انفصلت عنها”. ولذلك أصدّق رانك وأعرف أنّ انفصالي عن أمّي الأرض، سيضيف صدمة جديدة إلى صدماتي، فأقرّر الصمود وأسحب روحًا منهكة لأكمل رحلة من المكابرة لا تنتهي.

قالت لي أيضًا: “إنّ الله يضع الصبر في قلوب الأمّهات المفجوعات”. أخبرتها: “وهل وضع أمامهنّ خيارًا آخر؟”، أجابت: “الحزن مكلف جدًّا، وتجلّياته تظهر حتّى في اللحظات السعيدة، ولكنّ الحياة تستمرّ ليس لأنّها عادلة أو سهلة، بل لأنّها ببساطة لا تعرف التوقّف”.

أحاول تشتيت تركيزي عن كلامها، أستسلم لصوت “الدرون”، أعيش بين وعْيٍ بما يحصل ولاوعي يرفض تصديقه، فيغلق عليه في غياهب مظلمة ستظهر لاحقًا، عاجلًا أم آجلًا. خَلُص تحليل عالم النفس سيغموند فرويد إلى أنَّ سبب إصابة النساء بالهيستريا هو عدم قدرتهنّ على البوح. ويفسّر علماء النفس المعاصرون أنّ سبب اختفاء الهيستريا، هو قدرة نساء اليوم على إسماع أصواتهنّ. لكنّنا نعرف أنّ نظريّات علم النفس استندت إلى واقع النساء الغربيّات، وتطوّرت مع تقدّم حقوقهنّ وقدرتهنّ على الحضور في المساحات العامّة، واختفاء الهيستريا هناك، لا يعني اختفاءه هنا، لكنّ مظاهر التعبير عن مخاوفنا العميقة تتّخذ أعراضًا أخرى وتسميات مختلفة.

لوحة بلا ألوان

على رغم هذا، أعترف بأنّ المسار أصبح مرهقًا جدًّا. أنظر من زجاج نافذتي المكسور، فأرى مشاهد الأشلاء والدماء والدمار في كلّ مكان.

لماذا أرى كلّ هذه التحوّلات؟ لماذا كُتب عليّ أن أشهد سايكس- بيكو جديدة؟ يتحدّثون عن خطوط على الخرائط، عن تحالفات ومفاوضات، عن انتصارات وخسائر، عن أوطان بيعت في المزادات. وأنا قاصرة عن مواكبة الأجزاء التي تتساقط الواحدة تلو الأخرى، ومع كلّ جزء تنقشع الرؤية عن بصري، وأشعر بأنّني تفصيل صغير، بلا قيمة، في مخطّطات كبرى لا تعترف بوجودي كإنسان، أعيش كجزء من لوحة بلا ألوان، أو بألوان قاتمة ممزوجة بفوضى لا نهاية لها.

نازحون خلال الحرب في أحد مراكز الإيواء

أتابع الأخبار وأقرأ السياسة، ولكن ماذا أستفيد إذا قرأت أو فهمت؟ ماذا سيحصل إذا تحرّك عقلي أو تجمّد؟
هل ستتغير السيناريوهات المحبوكة جيّدًا؟ بتُّ لا أبالي عندما يقولون إنّ السياسة ليست للنساء، وإنّ التفكير بها عبء أكبر من احتمالهنّ. أهرب اليوم من السياسة إلى الأدب، وأفكّر، هل هذه حال الأدباء والشعراء؟ هل هم منفصلون عن الواقع؟ أم أنّهم فهموه ولكنّهم عجزوا عن البوح به فهربوا إلى الكلمات المنمّقة؟!

تعرّي الأرواح

أستيقظ صباحًا كما لو كنت من أهل الكهف، أتساءل: كم مرّ علينا؟ (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ: كَمْ لَبِثْتُمْ ۖ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ). وعندما أفتح التلفاز، أُدرك أنّني لبثت ألف عام منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) العام الماضيّ.

تخطر ببالي كلمات أستاذي في الجامعة: “اللبنانيّون لديهم مناعة نفسيّة. هم أقوياء على رغم كلّ ما يمرّون به”. لكن كيف عرف أنّنا أقوياء؟ هل لأنّنا اعتدنا الألم؟ أم لأنّنا لا نملك سوى البقاء، تمامًا كأهل غزة؟ تعرّت أرواحهم من عصف الصواريخ، واهتزّت أركانهم من شدّة الانفجارات، كلّ منهم يلملم أشلاءه، يبحث عن ذكرى في ركام حياته، عن صورة، عن ورقة كتبها ذات عيد لأمّه، أو لأبيه، لحبيب أو حبيبة. أدرك أنّنا نتشبّث بالأرض لأنّها أغلى ما نملك، نتمسّك بما تبقّى لنا من سنيّ عمرنا.. ولكن اتّفقنا سرًّا على أنّ المأساة هي لغتنا الجديدة التي نخشى البوح بها، فقد تعلّمنا منذ الصغر كيف نكبت وجعنا، كيف نبدو طبيعيّين ونمشي فوق أنقاض أحلامنا.

وبينما أكتب عن الأمّ، عن الأرض، عن نفسي، يصل خبر عاجل إلى هاتفي: أب يحاول سحب جسد ابنه الشهيد من بلدة الخيام، وإذ بمسيّرة غادرة تجمعه بابنه، فلا يعود الابن ولا الوالد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى