صوت النساء ضرورة والتمثيل في البلديّات ليس ترفًا

كيف تُقصى التي تبني؟!

كأنّها تقف خلف الشباك المزجّج، تراقب المشهد السياسيّ بصمت، تعرف خفاياه، تحوي قدراته وتفهم مساراته، لكنها لا تطرق الباب. المرأة اللبنانية، هي التي تُشعل الضوء في مدارس القرى، وتُنعش الجمعيّات والمؤسّسات، بيدٍ تدير وتُداوي وتُعلّم، لكنّها حين يحين أوان القرار، تُطلب منها خطوة إلى الخلف. فكيف لجسد الوطن أن ينهض إن كانت نصف قوّته مُغيّبة؟

تتجدّد الآمال وتكبر التطلّعات مع اقتراب موعد الانتخابات البلديّة في لبنان في أيار (مايو) 2025، في أن تشكّل محطّة مفصليّة لتعزيز دور المرأة في صنع القرار المحلّيّ، الأرقام وحدها تصرخ بالحقيقة: 2.066.794 ناخبة في مواجهة 1.983.865 ناخبًا، وفق لوائح الشطب الرسميّة. ومع ذلك، يبقى حضور النساء في المجالس البلديّة ضئيلًا لا يتعدّى الظلال، بحيث لا تتجاوز الـ 10 في المئة، ما يشكل مفارقة مع ما أنجزته في القطاعات الأخرى مثل القطاعات التربويّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، فتتجدّد الدعوة إلى ضرورة مشاركتها السياسيّة التي أصبحت أكثر إلحاحًا.

من إحدى ورش العمل التي تتعلق بترشّح النساء للانتخابات البلدية والاختيارية
تمثيلها حاجة مجتمعيّة

إنّ تمثيل النساء في المجالس البلديّة والاختياريّة ضرورة وليس ترفًا، إذ إنّ وجود النساء في هذه المجالس ليس مجرّد تمثيل رمزيّ، بل حاجة مجتمعيّة. فالمرأة قادرة على تحديد الأولويّات المجتمعيّة ودراسة الاحتياجات بحكم ارتباطها الوثيق بقضايا الأسرة والمجتمع المحلّيّ ما يمكّنها من تحسين جودة التعليم وصولًا إلى تطوير الخدمات البيئيّة والصحيّة والتنمويّة.

والمرأة اللبنانيّة لم تكن يومًا على هامش البناء الاجتماعيّ أو الاقتصاديّ، بل هي العمود التربويّ في المدرسة والثانويّة والجامعة، والعقل الإداريّ في الجمعيّات، واليد التي تبني مراكز التنمية وتُداوي آلام المناطق المهمّشة. ولعل هذه التجربة تؤكّد قدرة النساء على تحمّل المسؤوليّة القياديّة وإدارة الموارد بفعاليّة وكفاءة عالية. فلماذا حين تُفتح صناديق الاقتراع، يُطلب إليها أن تبقى متفرّجة، أو أن تكون “اسمًا تزيينيًّا” على لوائح لا تُمنح فيها حقّ التأثير؟

المشهد البلديّ محكوم بمعادلات قديمة، تتحكّم فيه عائلات كبرى تفضّل الذكور في الترشّح، باعتبارهم “أقدر على التفاوض (الصراخ)”، كما يظهر في دراسة حديثة حول الديناميّات الريفيّة في الانتخابات. أمّا الأحزاب، ففي كثير من الحالات، تُبقي النساء في خانة الشعارات لا الفعل، باستثناء حالات محدودة. المشاركة الحقيقية تتطلّب قرارًا سياسيًّا لا مجرّد موافقة عابرة. هنا لا بد من التنويه بالخطوة الناجحة التي قام بها عدد من الأحزاب اللبنانيّة من مختلف الطوائف منذ عشرات السنين، حينما فتحت الباب للمشاركة السياسيّة للمرأة وقدّمت نساء عدّة كنموذج يحتذى به، فقد مثّلت المرأة خير تمثيل.

الأرقام وحدها تصرخ بالحقيقة: 2.066.794 ناخبة في مواجهة 1.983.865 ناخبًا، وفق لوائح الشطب الرسميّة. ومع ذلك، يبقى حضور النساء في المجالس البلديّة ضئيلًا لا يتعدّى الظلال، بحيث لا تتجاوز الـ 10 في المئة،

من الجدران إلى المقاعد: لماذا تخاف النساء؟

الخوف ليس من السياسة، بل من العنف السياسيّ المقنّع؛ من التنمّر والتشكيك، من حملات التشويه والتهميش. عديد من النساء أبدين تردّدًا حقيقيًّا في الترشّح بسبب التعرّض للإهانات، وسُخرية الأدوار التقليديّة. فقد ذكرت احدى السيدات ما قيل لها: “اذهبي واطبخي لأولادك”، و”هل تعرفين شيئًا عن الطرقات والصرف الصحي؟”.

لكنّ هناك نساء اخترقن جدران المشهد وأثبتن حضورًا مشرّفً، منهن: داليا غندور في النبطية الفوقا، نموذج محلّيّ آخر لامرأة تحدّت المألوف ونجحت في إدارة العمل البلديّ بكفاءة وشفافيّة، حمدة حيدر أيضًا نموذج للمرأة المثقّفة والمتعلّمة التي ذكرت أن تجربتها كانت مفيدة وهي تشجّع السيدات اللواتي يمتلكن مؤهّلات لخدمة بلداتهن على الترشح. ريتّا أبو نادر شكّلت حلقة مميّزة لإدارة الأزمة في منطقة جزّين أيضًا وكانت مرجعًا مهمّا للخدمات والمشاريع أثناء الفترات الصعبة. رانيا أسعد نجّار قدّمت ترشيحها للمرّة الثانية في نيحا زحلة وعبّرت عن حماسها لخوض المعركة مرارًا وتكرارًا.

وهناك نماذج كثيرة قدّمنا عددًا قليلًا على سبيل المثال لا الحصر، وهناك أسماء نقشت بماء الذهب في سجلّات المجالس البلديّة وعبر التواصل المباشر مع هموم الناس واحتياجاتهم.

آن الخروج من الضوء الخافت

في القرى والبلدات، لا تكاد تجد جمعيّة ناشطة إلّا وتقودها امرأة. هؤلاء النسوة، بلا ضوء، يرفعن سقف التنمية المحلّيّة، يدبّرن التمويل، ينفّذن المشاريع، ويصغن سياسات مصغّرة بكل حنكة. أليست هذه المهارات هي ما يُطلب من أيّ عضو بلديّ؟ فلماذا إذًا لا تُترجم هذه الكفاءة إلى موقع قرار رسميّ؟

آن للمرأة أن تخرج من دائرة الضوء الخافت، أيّتها النساء اللبنانيّات، لا تنتظرن أن يمنحكنّ المقعد، اصعدن إليه. لا تقفن خلف الستار، فالمسرح يحتاجكنّ. كفى خوفًا، كفى تردّدًا أمام “ماذا سيقولون؟”، كفى صمتًا أمام من يربط السياسة بالرجال وحده، فالانتخابات البلديّة فرصة لإعادة كتابة العقد الاجتماعي. البلديّة ليست مجرّد خدمات ونفايات وإشارات مرور. هي المساحة الأولى التي تُمارس فيها السلطة، ويتكوّن فيها مفهوم الدولة.

من دون النساء، يبقى هذا المفهوم مشوّهًا، أعور، لا يرى إلّا بعين واحدة. ولأنّ التغيير لا يُهدى، بل يُنتزع، فإنّ الانتخابات المقبلة يجب أن تكون موعدًا بين المرأة وصوتها، وبين المجتمع ونهضته. الكرسي لا يُمنح، بل يُنتزع بالوعي والجرأة والموقف. والمرأة اللبنانية، آن لها أن تنتزع مكانها، لا في الصفوف الخلفيّة، بل في قلب القرار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى