صُور عباس بيضون، وجه المدينة وبحرها
لطالما شكّل المكان هاجسًا في الأدب، تناوله الشعراء العرب بشكل لاواعٍ بدءًا من المعلّقات في العصر الجاهليّ والوقوف على الأطلال الذي كان حجر أساس لنوستالجيا أو التعبير عن فقد ما، يمهّد لموضوعات مضغوطة في قصيدة واحدة، مرورًا بقصائد العصر الإسلاميّ التي تغنّى شعراؤها بشعائر الحجّ المرتبطة بقدسيّة الكعبة، والعصر العبّاسيّ حيث أتقن البحتريّ الوصف سواء على صعيد الأمكنة أو أجزائه.
تراجعت حدّة سيطرة الأمكنة على مطلع القصيدة ومتنها في العصر الحديث ليخرج المكان من كونه جزءًا قائمًا بذاته إلى الكلّ الذي يفتح النقاش حول قضايا فلسفيّة واجتماعيّة وسياسيّة نقديّة، ولعلّ تجارب بدر شاكر السيّاب رائد قصيدة التفعيلة في العالم العربيّ وشاعر جيكور والتي تبعها تجربة عبد الوهاب البيّاتي شاعر الفكر والعقل والسجون مرورًا بتجربة محمود درويش “الفلسطينيّة” خير دليل على ما أسلفنا ذكره.
لم تكن قصيدة النثر- التي ركّز تمرّدها على الشكل ومن ثمّ طبيعة الموضوعات يهمّها المكان “كأغنية اجتماعيّة” ونقصد بالأغنية الجانب الرومنسيّ الغنائيّ للمكان– سوى عتبة لفتح نقاش حرّ حول طبيعة المكان وتكوينه وبنيته وتنوّعه الاجتماعيّ السياسيّ والطائفيّ إن وجد، هذا ما فعله عبّاس بيضون في قصيدته صور (طبعة أولى 1985) حين ركّز على الجانب الاجتماعيّ الطبقيّ للمدينة بدءًا من مطلعها وصولًا إلى قسمها الثاني، دون أن يهمل الجانب الفنّيّ الشكلانيّ القائم على الإيجاز في العبارة الخبريّة والترميز، فكيف نحت عبّاس بيضون صورَ بريشة اجتماعيّة؟ وما علاقة التاريخ بتكوينه رؤيته إلى العالم (صور- المكان)؟
الطبقات الاجتماعيّة وتأنيث المدينة
من يقرأ القسم الأوّل من القصيدة- النشيد – التي عادت وأصدرتها “دار النهضة العربيّة” العام 2022 يعرف أنّ الشاعر **عبّاس بيضون (80 عامًا)** لجأ إلى تكوين المجتمع “الصوريّ” من خلال الشعر، أيّ أنّنا أمام كتابة تاريخ مدينة وتأسيسها الآدميّ الاجتماعيّ الطبقيّ المعاصر بدءًا من نسيجه البشريّ “من أنا حتّى أقف بين… صانعي النعال… الحطّابين الذين خنقوا بالكلس النيران الصغيرة (ص. 6)؟ الثابت أنّ مطلع القصيدة ينطلق نحو دلالة اجتماعيّة تعكس صورة المدينة وطبقاتها المهنيّة ( الحطّاب/ الاسكافيّ/ الفرّان…) لكنّ ما يحمل التأويل هو الآتي: هل بدأت القصيدة بالعودة إلى أصل سكّان المدينة القرويّ، خصوصًا وأنّ أهل مدينة صور الأصليّين المتحدّرين من حقبات عدّة سيّما الفنيقيّة، المملوكيّة والعثمانيّة، فهل نحن أمام سياق ينطلق من الحال المهنيّة الحاليّة والنهائيّة لأهل المدينة خصوصًا وأنّ القصيدة كتبت العام 1974 قبل سنة من الحرب الأهليّة، حينها كانت صور تتّخذ وجهًا مدنيًّا مغايرًا؟
لكنّ الشاعر يجيب عن هذه الاشكاليّة حين يؤنّث المدينة “لا نصفكِ لأنّكِ ما زلتِ تبحثين في جلدكِ/ عن فمكِ المندمل (ص. 23)، والحقّ أنّ تأنيث المدينة يتجاوز المستوى اللغويّ نحو أنسنتها، فصور تخاطب من قبل عبّاس بيضون على أنّها أمّ تتعدّد ولاداتها وتتكرّر، سبقتها إشارة اجتماعيّة إلى دخول الريفيّين إلى صور وتمدّنهم “يا صور… حين نزلنا إليكِ انتزعت من حناجرنا الوتر الفلّاحيّ… (ص. 22).
لم يكن طرح عبّاس بيضون الاجتماعيّ مجرّد تأريخ، بل كان تكوينًا لاواعيًا لرؤيته القائمة إلى صور المدينة التي تبدّل وجهها السكّانيّ الطبقيّ باستمرار “حين نزلنا من القرى أفرغوا بنادقنا من كلّ حبّة باقية” (ص. 34). إنّ استخدام ضمير نحن له اشارة ذاتيّة، فبيضون الذي نشأت عائلته في بنت جبيل القرية الحدوديّة الجنوبيّة لم ينسَ الإشارة إلى دور القرويّين والفلّاحين في تشكيل المدينة، واستخدام لفظة البنادق تحيلنا إلى مدلولين: الأوّل، دور أهل القرى في المقاومة واستعدادهم لمواجهة العدوّ الاسرائيليّ وولاؤهم القوميّ العربيّ خصوصًا وأنّ إسرائيل اجتاحت لبنان لأول مرّة العام 1978[1].
يرى عبّاس بيضون المدينة كأمّ جمعت بتفاصيلها التاريخ والنشأة بعيدًا من الاطناب، أراد الشاعر الانطلاق من الجزء الحداثيّ للمدينة ليثبت أنّ تكوينها الحقيقيّ والقائم حتّى لحظتنا سكّانيًّا وجغرافيًّا واجتماعيًّا هو الذي يستحقّ الدراسة والتمحيص والتركيز وبخاصّة أنّ النسيج اللبنانيّ قائم على تعّدد طائفي ومذهبيّ.
لم يكن طرح عبّاس بيضون الاجتماعيّ مجرّد تأريخ، بل كان تكوينًا لاواعيًا لرؤيته القائمة إلى صور المدينة التي تبدّل وجهها السكّانيّ الطبقيّ باستمرار “حين نزلنا من القرى أفرغوا بنادقنا من كلّ حبّة باقية”
الوصف والرؤية إلى العالم الآخر
رافق الوصف رحلة القارىء الشعريّة على مدى ثلاثة أقسام من القصيدة، وفي القسم الأوّل والثالث تحديدًا، فالبحر لم يكن فقط رمزًا مدنيًّا وجغرافيًّا للمدينة بل كان جزءًا من مقابلة فكريّة أجراها بيضون بين اليابسة والماء، بين البحر وجوف المدينة، بين السمك والسكّان، والتبحّر في وصف المياه وشكلها واعطائها بعدًا رومنسيّا كرّس دلالة البحر في ذهن المتلقّي، ورؤية الشاعر إلى العالم الندّ لمدينة صور الأرض والمجتمع والخريطة” هذا الماء عليلٌ ينزف في الساقية… ليظهر بعد ذلك تحت أسرّتنا كالسمكة الميّتة” (ص. 15).
فعل النزيف المعطى مجازًا للماء يعكس حجم القلق الذي يحمله الشاعر حول فهمه لهذه التحوّلات “تبقى الأواني على الرفوف، والساعات الكبيرة معلّقة على الجدران” (ص. 17) يكشف التطرّق إلى تفاصيل البيوت والوقت حجم القلق والترقّب لدى الشاعر ورغبته في نقل صورة المدينة إلى العالم الصاخب، العالم الذي يضج بالتطوّرات والحروب الكبرى التي تركت الناس بدلًا من التغيير الهروب “نعرف بين قليلين أنّ الناس لم يتغيّروا لكنّهم يبدّلون دفّة أحلامهم والليل ليس كافيًا…” (ص. 18)، الهروب من الحلم إشارة إلى ضيق الأفق الذي يفرضه الخوف واللا استقرار في الشرق الأوسط منذ ذلك الوقت والذي انعكس على الصوريّين، خصوصًا وأنّ سيناريو تطوّر المدينة وتقدّمها سرمديّ، والحقّ أنّ التطرّق إلى “قصر الليل زمنيًّا” يحيلنا إلى الصيف فصلًا وإلى طبيعة الصوريّين الاجتماعيّة القائمة على العمل والمثابرة والانكباب على السعي “نحلم في ليل لا يرتفع إلى حافّة السرير. نجلس بين حيطان المفكّرة (ص. 42).
شكّل الوصف أداة لدخول عبّاس بيضون الجانب النفسيّ إلى المدينة وقاطنيها والتوغّل اجتماعيًّا ليعكس بشكل أوضح حال المدينة التي تتغيّر لقاء عالمٍ آخر يضجّ بصراعات سياسيّة وكونيّة لا تنتهي.
تعتبر قصيدة صور نشيدًا لمدينة تكتب تاريخها باستمرار، وقد آثر عبّاس بيضون أن يتخلّص من كلّ الزوائد التاريخيّة والانطلاق نحو الحداثة لغايتين: توصيف الحال الاجتماعيّة الراهنة، وتقديم المدينة كبطاقة هويّة للعابرين إليها، فضلًا عن الالتزام بمساره الحداثيّ المتأثّر بالغرب كتابة وشكلًا وجوهرًا، لتطلّ صور قصيدة حداثيّة تمدّ يدها إلى الأمام… إلى مستقبل متحوّل.
—
[1]خاض لبنان حربًا مع الاحتلال الاسرائيليّ سبع مرّات وذلك في الأعوام 1978، 1982، 1993، 1996، 2000، 2006 و2024 وانتهت الحرب الأخيرة بهدنة تنتهي في 26 كانون الأوّل (ديسمبر) 2025