صُور في قصائد جورج غنيمة روحانية تلامس التصوّف
لا يقتصر الحديث عن الجنوب ومدينة صور تحديدًا على البعد الاجتماعيّ والسياسيّ والنضاليّ، بل يتّخذ المكان بمرافقه المؤلّفة من دور العبادة والبيوت والآثار بقعة مهمّة في عالم الفكر والتفكير من جهة وفي الأدب العربيّ من جهة ثانية.
والحقّ أنّ المرافق الدينيّة المكانيّة احتلّت في تجارب المحدّثين شعرًا مساحة كبرى، فمحمود درويش خاض على مدى عقود تجربة شعريّة اتّسمت بالتحرّر من فلسطين ومعانقتها لغة في آن واحد، وكذلك فعل شوقي بزيع الذي أعاد في مجموعته “مدن الآخرين” نسج الإشكاليّة الإنسانيّة ما بين الريف والمدينة وأعاد نحت القرية إضافة إلى تفاصيل المدن بعد تركها. أمّا الشاعر اللبنانيّ جورج غنيمة، فقد وظّف المكان والمرافق المكانيّة في تجربته الشعريّة من خلال عدّة أشكال حديثة: أوّلًا عبر قصيدة النثر المكثّفة التي تراعي ما تقدّمت به الناقدة الفرنسيّة سوزان برنار من شروط ومعايير وإيضاحات حول ماهيّة هذه القصيدة. ثانيًا الجانب النفسيّ الروحانيّ الذي خلقه غنيمة ليقدّم الأمكنة سيّما دور العبادة في صور والجنوب اللبنانيّ، ففي مجموعته الشعريّة الأخيرة “وحيدًا يشدو القصب مواويل البنفسج والمطر” اتّسمت شعريّة غنيمة بالروحانيّة التي تلامس التصوّف أو ما يعرّفه سيغموند فرويد بالتسامي.
شغلت اللغة عند غنيمة في تصوير الأمكنة الصوريّة وإن لم يتحدّث بشكل مباشر عن هويّتها، إلّا أنّ الخلفيّة الاجتماعيّة لجورج غنيمة ورؤيته الثقافيّة إلى المدينة تجعلنا على يقين بأنّ صور هي المدينة المنوال التي يكتب عن أسسها الجماليّة، فكيف تجسّدت الأمكنة؟ وإلى أيّ حدّ اتّخذ صور والجنوب مجتمعين طابعًا رمزيًّا ساميًا في قصيدته؟
المعجم الصوريّ الجنوبيّ
في مجموعته “وحيدًا يشدو القصب مواويل البنفسج والمطر” خرج غنيمة من التعريف الهويّاتيّ للأمكنة والمرافق المكانيّة التي تؤثّر فيه، واختار بشكل لاواعٍ معجمًا ينتمي إلى صور والجنوب في آن واحد، ففي قصيدته “غزليّة لأرض غير يائسة” لمّح الشاعر إلى صور دون أن يسميها “كنتُ أحبّكِ أيّتها الأرض/ علمًا أنّها ستنال من برج صخرتي/ أمواج عصفكِ المتشاهقة” (ص. 233) نلاحظ استخدام لفظة الموج التي تعطي الأرض طابعًا حياتيًّا متمرّدًا للمكان (الأرض) ناهيك بأنّ الموج والعصف خاصيّتان تتميّزان بهما المدينة عمومًا وصور خصوصًا، هذا السلوك الكتابيّ يعيدنا إلى قصيدة “الشاعر” لشوقي بزيع: “والذي يكتبه يحجبه/ هو يدري أنّ بعض الظنّ اسم/ لذا يومىء للمعنى ولا يقربه…”.
سبق أن تطرّق جورج غنيمة إلى البحر الذي يمثّل عصب الصورة الجماليّة للمدينة ففي قصيدته “كهنة” هو البحر بيت صلاة الغروب لكهنة المساء…” (ص. 92).
الإضاءة على المدينة بلغة رمزيّة مجازيّة يضاف إليها التطرّق إلى الجنوب وطبيعته وريفه، وكما ذكرنا في الأسطر أعلاه فإنّ غنيمة يتوسّل في قصائده التحرّر من التسميات والجنوح نحو الرمزيّة والتلميح، وقد حملت عدّة قصائد إشارات إلى الريف الجنوبيّ من خلال معجم الطبيعة”، حين يخشع الزنبق ويركع في مصلّى الماء إنما هو يغتسل” (ص. 103) النبرة الصوفيّة حضرت وشكّلت نوعًا من التسامي عند غنيمة الذي لم يرَ في حضور الزنبقة والماء جانبًا يربط الله بالإنسان، المادّة بالروح، الريف الجنوبيّ بالشعر”… في مراسم حفل تتويج الأرض بصفتها سيّدة أولى للأمومة بين عائلات الجسد والطين والتراب…(ص. 174).
استطاع جورج غنيمة أن ينسج قصيدة تشبك الجنوب ككلّ وصور بتفاصيلها الطبيعيّة والمكانيّة وأوصل من خلال معجم الطبيعة والمدينة وخصائصهما فكرة التسامي والانسلاخ عن المادّيّة والموجودات بدءًا من إعطاء دلالة مغايرة للأرض.
استطاع جورج غنيمة أن ينسج قصيدة تشبك الجنوب ككلّ وصور بتفاصيلها الطبيعيّة والمكانيّة وأوصل من خلال معجم الطبيعة والمدينة وخصائصهما فكرة التسامي والانسلاخ عن المادّيّة
الرؤية إلى الأرض والعالم
شكّلت قصائد جورج غنيمة مجتمعة في هذه المجموعة رؤية الشاعر إلى الأرض والعالم، فاستحضار العناصر الطبيعيّة والتغنّي بها ومنحها المعنى يجعل من تجربة غنيمة تتناقض مع تجربة نظيره الشاعر الصوريّ عبّاس بيضون الذي اعتبر الشعر تسريرًا للمعنى[[8]] فضلًا عن ذلك، فإنّ المستوى الأسلوبيّ يمكنه أن يكشف كيفيّة صياغة القصيدة بروح أخلاقيّة مثاليّة تنقلنا إلى عالم مثاليّ أفلاطونيّ بدءًا من خلط المكان بالروح «ريفكِ الممتدة حدوده من أسوار الرموش الأجفان إلى سواري الكاحلين». والكائن بالمفاهيم «العصافير حرّاس قصر الحرّيّة» ما يضعنا أمام محاولة ثقافيّة جدّيّة لتشكيل المفاهيم بطريقة حسّيّة طوباويّة لا تحتمل الضدّين، وهذا ما يميّز غنيمة من خلال انطلاقته الأسلوبيّة البعيدة في هذه المجموعة، على الأقل، من الثنائيّات المتناقضة الباعثة للشكّ والقلق. والملاحظ بقوّة ابتعاده عن الضجيج معنويًّا.
حضرت صور وكذلك الجنوب بمكوّنيه المدنيّ والريفيّ في شعر جورج غنيمة عبر ابتعاد الشاعر عن المنطق والخطابين المباشرين ليكرّس بذلك ما توسّل إيصاله الجاحظ حين قال: “المعاني مطروحة في الطرقات” أيّ القيمة وحدها للفظة.