“طائر على سنديانة” قراءة في مذكّرات كمال الصليبي

لدى الانتهاء من قراءة مذكّرات المؤرّخ اللبنانيّ كمال الصليبي، لعلّ الانطباع الأوّل الذي تولّد لدي، ليس في ذهني فقط إنّما أيضًا في القلب والوجدان، هو أنّني كنت بحضرة شخص خبر ليس فقط الأيّام والشهور والسنين، إنّما خبر وبعمق شديد القرون والدهور وما خفي من متاهات التاريخ وتبدّياته.
ثمّة ما يشي أنّ الاختلاء بكمال الصليبي هو أشبه بالاختلاء بواحد من الحكماء الأقدمين، حيث الذات انطوت على محض ذاتها، وقد فعلت ذلك بعد تجربة عيش خيضت فيها كلّ دروب التاريخ، فالإنصات إلى كمال الصليبي من خلال مذكّراته، هو في بعض وجوهه، أقرب إلى الإنصات إلى حكيم من أهل الأتراكسيا (Ataraxia) الإغريق، حيث السكون المتأتّي عن محض الاستغراق في الذات، تلك الذات العتيقة التي عبرتْ الأزمنة والأمكنة واللغات والطبائع وضجيج العالم وصمته الحزين.
بعض أهل الاختصاص في علم النصوص وتشكّلاتها من يرى أنّ لبعض النصوص تلك، القدرة المتوقّدة على الترحال، من حيّز تصنيفيّ إلى حيّز تصنيفيّ آخر، على غفلة حتّى من الذين يكتبون هذه النصوص، ونحن مع كمال الصليبي بحضرة هذا الترحال الرائع من نصّ سرد الذات، من نصّ كتابة المذكّرات إلى نصّ روائيّ رائع، إذ الذات التي تروي تقوم على جملة من التشعّبات والانطواءات وعلى جملة من الوضوح والغموض، فضلًا عن تداخل مدروس بين المُصرّح به والمكبوت.

“طائر على سنديانة”
يفتتح كمال الصليبي مذكّراته التي عنوَنها بـ “طائر على سنديانة” بالقول: “هذا الكتاب هو سجلّ لأشياء أذكرها”، بيد أنّ نقطة نهاية هذا الكتاب، تدفع بالقارىء الجسور إلى التساؤل عن الأفق الذي يحدّ من سلطة الذاكرة، وفي البال تمنٍّ عميق، فحواه الرغبة بعدم نهاية هذه المذكّرات، هذه الرواية الفريدة إلى حدّ كبير.
أمّا عن العنوان الغريب الذي اختاره الصليبي لمذكّراته، “طائر على سنديانة”!!، فهو لا يلبث أن يبثّنا مصدره في فصل يحمل عنوان الكتاب. فالطائر الذي على السنديانة استقاه الصليبي من قصيدة للأطفال في التراث الإنكليزيّ القديم، حيث جاء في هذه القصيدة: “طائر حكيم مسنّ حطّ على سنديانة، كلّما رأى أكثر تكلّم أقلّ…” أيضًا وأيضًا، إنّها حكمة السنين التي استوجبت الاكتفاء فقط بما لا يتجاوز الـ 300 صفحة، وإن كان ثمّة ما ينمّ عن إمكان أن تنفلش هذه المذكّرات إلى آلاف الصفحات… يا ريت. لعلّها الحكمة التي تجيد فرض الانضباط على غلوّ الذاكرة وشطحها المبين هي من اكتفت بهذا الشحّ من الكلام.
رائعة جدًّا تلك النصوص التي لا يبغي واضعها استوداع نفسه في عيون وقلوب وأذهان الآخرين، وهي نصوص بغاية الروعة عندما تبغي استوداع نفسها فقط في عيون وذهن وقلب من قد بثّها، و”طائر على سنديانة” هو في هذا السياق بمثابة المثال الذي يليق أن يكون محلّ احتذاء إلى أقصى الحدود.
ثمّة في مذكّرات هذا المؤرّخ اللبنانيّ الكبير ما ينمّ عن حكي الذات مع ذاتها بالدرجة الأوّلى وما ينمّ أيضًا عن استذكار الماضي عطفًا على الحاضر الشخصيّ جدًّا لصاحب هذا الاستذكار
حكي الذات مع ذاتها
ثمّة في مذكّرات هذا المؤرّخ اللبنانيّ الكبير ما ينمّ عن حكي الذات مع ذاتها بالدرجة الأوّلى وما ينمّ أيضًا عن استذكار الماضي عطفًا على الحاضر الشخصيّ جدًّا لصاحب هذا الاستذكار وكأنّي بالصليبي عبر هذه الآليّة السرديّة في البوح يسأل، وعن طريق الصدفة يجعل قراءه يسألون، عن ذلك الشعور الذي يحرّر الذاكرة وعن تلك القوى التي تجعل الذاكرة أكثر تحيّزًا إلى هذه الذكرى من تلك، وعن ذلك الإسراف في عرض هذه الواقعة دون تلك وعن الفيض السرديّ حيال هذا الحدث التاريخيّ وليس ذاك…
وتراني في هذا السياق محلّ تشتّت بين إيراد أمثلة عن هذه الأمور مثلما وردت في المذكّرات أو عدم إيرادها لأراني متشبّثًا بعدم الركون إلى ذكر الأمثلة، فـ “طائر على سنديانة” الصادر عن دار الشروق متوافر في المكتبات. وهذه المادّة هي بالدرجة الأولى عبارة عن انطباعات شخصيّة عن هذه السيرة الرائعة وهو أمر يجيزه الصليبي لقرّائه إلى أقصى الحدود.
يقول الكاتب الفلسطينيّ صقر أبو فخر في المقدّمة التي وضعها لحوار طويل أجراه مع الصليبي (صدر الحوار في كتاب بعنوان “الهرطوقيّ الحكيم، حوار مع كمال الصليبي” عن المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر في بيروت): “إنّ كمال الصليبي مؤرّخ قليل الكلام لكنّه مثير للزوابع”. وربّما قلّة كلام الصليبي في مذكّراته هو ما يجيز لمتلقّيه أن يقع مغبّة زوبعة من الانطباعات الشخصيّة، بل ومغبّة زوبعة من الخيارات، وبهذا الصدد أسمح لنفسي بالقول إنّ “طائر على سنديانة” هو بالعمق واقعة شفاهيّة حيث الكلمات تنطق بجهر الصوت، ولا أرى بأسًا في الاستعانة بهذا الكليشّيه، إذ – واستطرادًا – “أليست بعض الكليشّيهات أفكارًا جيّدة أثبتت جدارتها في الرواج؟” كما يقول واحد من قرّاء سيّد التذكّر والنسيان في الأدب العالميّ، مارسيل بروست.
الذاكرة الشفويّة
كثير من متون مذكّرات الصليبي تدفع بقارئ هذه المذكّرات، إلى الظنّ أنّ ذلك الطائر المسنّ، والذي حطّ فوق سنديانته بعد رحلة عمر فائقة التجارب والإنجازات، اختار أن يبثّ أخباره عن طريق الشفاه وليس الكلمات في هذا الصدد، إلّا عتبات أوّليّة لهذه الشفاهيّة المتجذّرة بعمق في السرد وفي التاريخ وفي الأسطورة بل وفي كلام الربّ.
يفيدنا علماء التاريخ وصفوة منقّبيه أنّ الذاكرة الشفويّة في الغالب الأعمّ ذات وظيفة طقوسيّة لها علاقة بالأسلاف وأسلاف الأسلاف ولعلّ ذلك البُعد الشفاهيّ الذي يعزّز نصّ مذكّرات كمال الصليبي، يستمدّ هيبته من تلك العلاقة المتينة التي تشدّ هذا المؤرّخ إلى أسلافه الأقربين والأبعدين، حيث طقوس كتابة التاريخ عند الصليبي – ومن باب الوفاء لهؤلاء الأسلاف – لا تقوم على محض نقل ما سبق من حكايا ومرويّات وأخبار، إنّما ترى هذه الكتابة تقوم على فكفكة مرويّات التاريخ وحكاياه، ثمّ استنطاقه وصولًا إلى جرجرة لسان هذا التاريخ بغية البوح بما يفوق ما هو مبثوث في الأسفار والبرديّات وسعف النخل والأوراق.
حثّ الآذان على الإنصات
إنّ اللسان الذي يحيك نصّ “طائر على سنديانة” لا يتوسّل الكلمات إلّا من باب الضرورة، بينما جوهر هذا النصّ كما تلقّفته أنا فيكمن في حثّ الآذان على الإنصات إلى صوت كمال الصليبي الذي أسعفني الحظ بأن جالسته لما يفوق ساعة من الوقت، وكان ذلك عن طريق الصدفة في مكتبة الفرات في شارع الحمرا ببيروت. هذا الصوت الذي داخل أذنيّي في تلك الصدفة الرائعة، تراه متشبّثًا بمسامعي أثناء قراءتي أو بالأحرى أثناء إنصاتي إلى ما جاء في “طائر على سنديانة”.
ينهي صاحب “التوراة جاءت من جزيرة العرب” و”خفايا التوراة” و”حروب داوود” و”بيت بمنازل كثيرة” و”تاريخ لبنان الحديث” وغيرها، مذكّراته بالقول إنّه وبعد هذا العمر، قرّر أن يتحوّل إلى مستمع للأجيال الجديدة من الكتّاب والمؤرّخين، وأن يتعلّم منهم متمثّلًا بذلك الطائر العجوز الذي حطّ على تلك السنديانة.
يقول واحد من الأصدقاء الروحيّين لكمال الصليببي – كما أخال عليه الأمر – “إنّ العثور على حياة كُتبت جيّدًا هو في ندرة العثور على حياة عيشت جيّدًا” (توماس كارليل). لا يرهق كمال الصليبي قارىء مذكّراته بما حفلت به حياته الشخصيّة من منغّصات، بيد أن المنغّصات التي تحول دون أن يكون لبنان هو وطن التعايش والسلام الدائم لا تني تتكرّر في هذه المذكّرات وهو ما يغري صراحة بالانكباب على مادّة بعنوان “لبنان في مذكّرات كمال الصليبي” وآمل أن تسعفني الهمّة لكتابة هذه المادّة في يوم من الأيّام.