“طاحونة العميري” ..حكاية عز تنقّلت من نحلة إلى البرازيل واستقرّت في الهرمل
تحقيق وتصوير عبير شمص
عندما دخلتُ إلى حرم “مطحنة” العميري في بلدة حوش السيد علي الحدود اللبنانية السورية لناحية الهرمل، التبست عليّ مشاعري، فحار المعنى، هل هو صادرعن وحشة المكان أم أن الأمكنة مثل الناس لها أرواحها وتثير الأحزان بموتها وتذكرها؟ فأنا أمام مبنى هرم صامت وساكن لكن لا يريد أن يغادر ليس مخافة على أحجاره، إنما على حكايات وأحداث ومواقف ما زالت عالقة بين ردهاته وجدرانه.
من الهرمل إلى حوش السيد علي مسافة 15 كلم، رافقت فيها النهر لأصل إلى المطحنة التي تحتضنها بساتين الكينا والجوز، هو الطريق نفسه الذي كان أجدادنا يسلكونه مع دوابهم المحمّلة بالحبوب من قمح وشعير وذرة، وإذ أريد أن أكتب، كان صعبا عليّ الاختيار بين أن ألحق مخيلتي أو أن استقصي عنها في ذاكرة من عاصروها معاينة أو نقلا عنهم.
كما سبق القول، اسمها مطحنة العميري، نسبة لآل العميري، فكرة تشييدها كانت في أوائل القرن الماضي، وقتذاك، كان هناك شبه انعدام لهذا النوع من المشاريع الاستثمارية، كان معظم سكان المنطقة يعيشون على الزراعة وقلة منهم تحصل رزقها من تجارات بسيطة ومهن يدوية، لقد كانت المنطقة تفتقر للرساميل الكبيرة، وفوائض الانتاج الزراعي كانت شحيحة لا تساعد على تراكم راسمالي يؤسس لمشاريع كبيرة.
عندما قدم الجد الأول للعميريين في أوائل القرن الماضي إلى الهرمل، لم يكن في مهمة استثمارية، إنما دينية، على ما يقول حفيده الدكتور غسان العميري ” جدي الشيخ خليل العميري نزل عند رغبة السلطان العثماني ووفد آل حمادة. بأن ينتقل من بلدة نحلة في بعلبك إلى الهرمل ليكون مفتياً للسلطنة العثمانية”، وقد حقق له هذا المنصب كفاية اقتصادية، وهذا ما جعله في صدام مع طموحات ابنه محمد علي الذي استهوته فكرة السفر إلى البرازيل وما تحويه تلك البلاد من فرص لجمع الثروة.
ويقول د.غسان ” حاول والدي مراراً وتكراراً إقناع جدي الشيخ خليل بالسماح له بالسفر إلى الخارج وكان الجواب دائماً يُقابل بالرفض لأن تلك البلاد هي “بلاد الكفار” فلم يتحقق حلم والدي بالسفر إلا بعد وفاة والده فحزم أمتعته وسافر إلى البرازيل، وهناك عمل في شتى المجالات من أجل جمع الأموال وكان له ما أراد”.
العودة من البرازيل…
حلم الغربة والسفر بدأ يخبو داخل محمد علي بعد سنوات طويلة أمضاها في البرازيل حقق خلالها نجاحات كبيرة تحول فيها من بائع متجول إلى واحد من أصحاب أكبر مزارع البن هناك. وبالرغم من المجد الكبير الذي أصابه هناك إلا أن حلماً آخر بدأ يطرق تفكير محمد علي وهو العودة إلى الهرمل وهذا ما حصل.
وعلى ما يقول د.غسان :عند رجوع والدي إلى لبنان ونزولاً عند وصية والده قصد آل بيضون في بيروت ليستشيرهم حول مشروع ناجح، فكان اقتراحهم أن يشتري قطعة أرض على الميناء البحري لبيروت، إلا أن محمد علي عاد أدراجه إلى الهرمل معتبراً أن آل بيضون أرادوا بيعه «مزبلة على البحر»، فكان المشروع البديل الذي أراده محمد علي «طاحونة العميري» التي شكلت بحد ذاتها تاريخاً مضيئاً لآل العميري.
حكاية الطاحونة
تعتبر طاحونة العميري من أكبر الطواحين ليس في الهرمل فحسب، بل في لبنان والشرق الأوسط، وهي تحظى برمزية تاريخية وأثرية نظراً لعمرها الذي تجاوز الـ ٩٠ عاماً، حيث كانت مقصداً لقسم كبير من أبناء مناطق بعلبك والهرمل وصولاً إلى حماة وحمص في سوريا.
حكاية المطحنة رواها لـ «مناطق نت» محمد علي مصطفى العميري حفيد الجد محمد علي فقال إن جده اشترى قطعة أرض على نهر العاصي مساحتها حوالى ١٢٠٠٠متر من آل صعب سنة ١٩٢٠ ضم إليها لاحقاً بمرسوم صدر عن مجلس الوزراء أرض مشاع لتصبح ٢٣٠٠٠ متر، حيث بنيت الطاحونة على مساحة ٦٠٠ متر واستمر بناؤها ما يقارب الخمس سنوات وواجه العديد من الصعوبات والتحديات، فالمهندس الأول الذي كُلف بالمشروع لم يستطع إنجاز مهمته، فاستبدله العميري بمهندس آخر الذي أفاده بأن ذلك مستحيل! «فكيف يمكن بناء طاحونة على المياه يحيط بها العاصي من الطرفين»، فكانت الحادثة الشهيرة التي تقول أن العميري بدأ برمي ليرات ذهبية في مكان كل عمود، وهنا تراجع المهندس وبدأ العمل والبناء.
صرحٌ على العاصي…
مشروع المطحنة لم يعد حلماً بل أصبح حقيقة واقعة… فها هي تقف شامخة يحرسها العاصي من كل صوب. وفي الوقت الذي كانت فيه كل الطواحين في المنطقة عبارة عن حجر أو حجرين، خرقت طاحونة العميري القاعدة بضخامتها وطاقتها، ويصفها محمد علي بأنها عبارة عن خمسة أحجار لكل حجر مهمته، سواء لطحن البرغل أو للطحين الناعم أو للكشك أو للذرة أو لأعلاف المواشي والشعير. ويشرح محمد علي عن آلية عمل المطحنة حينها فيقول: «كان يرفد الطاحونة ساقية مياه طولها ما بين ٨٠٠ إلى ١٠٠٠ متر تصب في ما يسمى بالسواعد وهي عبارة عن خمسة سواعد حسب عدد الأحجار”.
يتابع العميري: «للطاحونة مدخل نُقش على بابه قصيدة أو أبيات من الشعر تؤرخ للطاحونة ولتاريخ تشييدها وهو الأول من آذار من العام ١٩٢٨، وبالقرب من اللوحة ساعة بالأحرف الرومانية ونقوش وزخرفة. أما في الداخل فهناك خمسة أحجار بجانب كل حجر مكعب خشبي كبير يوضع فيه القمح أو البرغل، وتحته حجر الرحى وعلى مسافة قريبة قاطع مصنوع من غصون الأشجار للتنقل عليه أثناء عملية الطحن حفاظاً على نظافة المونة. وبين كل حجر وحجر عيارات من أجل التحكم بدرجة خشونة ونعومة المنتج. وفي الزاوية حوض “للتصويل” بالمياه، بالإضافة إلى مكبح وهو عبارة عن قضيب من الحديد، هو الذي يدير الطاحونة وكان يحتاج إلى قوة وصلابة عضلات.
مشروع اقتصادي…
أحدثت الطاحونة في تلك الفترة نشاطا في الحركة الاقتصادية في منطقة الهرمل، حيث كانت تعمل موسمياً ٩٠ يوماً على مدار ٢٤ ساعة! كانت مرفق اقتصادي يرتاده أبناء بعلبك والهرمل ومحيطهما وصولاً إلى الأراضي السورية من زيتا وربله. وفي هذا الإطار يقول محمد علي إن الجد كان لديه سياسة فعالة في إدارة المطحنة، فقد ضمن مطحنتين في سوريا وبالتحديد في ربلة ومطحنة في الهرمل. وأوقفهم عن العمل وذلك من أجل أن يصب كل العمل في مطحنة العميري. مما جعل الطاحونة الأكثر طاقة وإنتاجية في تلك المرحلة. ويعطي محمد علي مثالاً على ذلك فيقول: « كانت العشرة أكياس من القمح والتي تبلغ زنتها حوالى ٥٠٠ كيلو تحتاج إلى ساعة أو أكثر قليلاً لطحنها على حجر واحد، وهذا يؤكد على ضخامة عمل المطحنة وقدرة إنتاجها، حيث كان يبلغ دخلها اليومي في اليوم الواحد ٩ ليرات ذهب أي ما يعادل ٢٧٠٠ $ اليوم، وأشار محمد علي إلى أن عمالاً أمضوا في المطحنة أكثر من عشرين عاماً.
لم يكن ما تنتجه الطاحونة “مزراب ذهب” فقط كما كان يقول سعدالله بك حمادة، فقد أدى تراكم الرأسمال مضافا إلى تجربته في الغربة إلى تحول نوعي في تفكير محمد علي، وهو التقاطه موجة التغيير القادمة إلى المنطقة، فكان بحدسه يدرك أن النظام القديم للمعاش الهرملي إلى زوال، فكانت فكرة ابتعاث ولديه المرحوم الدكتور جعفر والدكتور غسان إلى بلجيكا للتخصص في الطب الحديث، لقد اتسم قراره وقتذاك بشيء من الجرأة، وكانت مهمة شاقة على الطبيبين الجديدين إقناع أبناء المنطقة بالانتقال من الطب العربي إلى الطب الحديث، خصوصا كان يحظّر على الطبيب الكشف على النساء ولو في حالات الخطر الشديد.
بالوقت الذي كان محمد علي يقوّض الطبابة القديمة باسم الحداثة، كان هذه الحداثة نفسها تقوض مشروع “طاحونته”، فمع تطور الزمن وظهور المطاحن الكهربائية بدأ عمل الطاحونة يتراجع إلى أن توقف كلياً ومع توقفها تحوّلت إلى طاحونة لا تطحن قمحاً بل تطحن «خبريات» وذكريات من ذلك الزمن. تستأنس معها في ذلك مسمكة محاذية لها بنيت في العام ١٩٦٢على الطراز الأوروبي وهي أقدم وأول المسامك على العاصي، تتغير مياهها تلقائياً وهي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا.
لم ينل منها الزمن…
بعد مضي أكثر من تسعين عاماً على بنائها لا زالت طاحونة العميري تقف شامخة تهدر بأحجارها على العاصي ولا تحتاج إلا إلى تلك العضلات القوية التي كانت تدفع أحجارها لكي تجري ومعها تجري حكاية الخير والبركة. «مطحنة العميري» ليست عبارة عن مطحنة فقط فهي معلم تراثي له دلالات تؤرِّخ لمنطقة عانت ولا تزال من الاهمال والحرمان وكانت فيه مطحنة العميري علامة مضيئة في تاريخها الاقتصادي والاجتماعي.
مطحنة العميري تعاني اليوم إهمالاً من نوع آخر من خلال تغييبها عن الخارطة السياحية إذ تخلو جميع الكتيبات الصادرة عن وزارة السياحة عن أي ذكر لتلك المطحنة التي تعتبر رمزاً تراثياً في منطقة الهرمل، وهي بحاجة إلى مبادرات تنفض عنها الغبار وتعيد إحياؤها كمعلم تراثي شاهد على تاريخ المنطقة وغناه من نواحي عدة ولكن الدولة لم تبادر إلى أي خطوة لتبنيها رسمياً وتأهيلها وترميمها وفي هذا الإطار يقول محمد علي «المطحنة فريدة من نوعها في لبنان وذلك لضخامتها وهندسة بناؤها، وهي الوحيدة التي لا زالت صامدة في الوقت الذي هدمت فيه العديد من المطاحن في لبنان والشرق الأوسط، وحول ترميمها يتمنى العميري أن تحمل الأيام المقبلة اهتماماً بهذا المعلم، لافتاً إلى أن نية ترميم المطحنة وإعادة تأهيلها والحفاظ عليها موجودة لا سيما أن العديد من أبناء المنطقة يتواصلون معه ويبدون الرغبة في زيارة الطاحونة والتعرف عليها. ويختم محمد علي «موضوع التأهيل بحاجة إلى وقت».