طاريّا تخرج من تحت الركام وتبقى ضحية الإهمال والنسيان
ربّما يمر وقت ليس بقليل قبل أن تستطيع بلدة طاريّا الواقعة في غرب بعلبك من أن تنفض عنها آثار الدمار الذي لحق بها جرّاء العدوان، فالبلدة البقاعيّة عاشت كشقيقاتها من مناطق لبنان، ويلات الحرب ومآسيها التي استمرّت 66 يومًا بلياليها ونهاراتها الجهنّميّة، إذ نالت نصيبها “الوافر” من غارات الموت الاسرائيليّة “وحلّت” في المرتبة العليا مع عدد من بلدات البقاع لناحية عدد الغارات وسقوط الضحايا في البقاع.
لم يكن معنا إلّا الله
بشكلٍ متلاحق، غادر بلدة طاريّا أهلها البالغون حوالي 17 ألف نسمةٍ ولم يبقَ منهم سوى بضع عشراتٍ “لخدمة الأموات الذين كانوا يسقطون مع كلّ غارةٍ وصاروخٍ لا يخطىء الأرواح والأجساد” يقول ابن البلدة محمّد (اسم مستعار) وهو أحد “خدّام الضحايا” كما أراد أن يسمّي نفسه. يضيف لِـ “مناطق نت”: بقيتُ مع عددٍ قليلٍ من الإخوة في البلدة وحيدين لنقوم بواجبنا الإنسانيّ والدينيّ تجاه أهلنا من أطفالٍ ونساءٍ وشيوخٍ والذين كانوا يسقطون تحت ركام منازلهم قبل أن تتسنّى لهم فرصة الهروب، فسقط لنا عشرات على امتداد أيّام الحرب خصوصًا في الأيّام الأولى منها.”
يتابع “66 يومًا لم يكن معنا إلّا الله وهِممنا؛ لا جرّافات ولا آليّات، ولا أيّة وسيلة متوافرة لرفع أنقاض المنازل التي تُستهدف، ولا من يقدّم دعمًا أو مساعدة لإنقاذ أحدٍ إن كانت ممكنة نجاته تحت الركام، وكلّ ما لدينا كانت هي المعاول اليدويّة والرفوش البدائيّة وما تيسّر من أدواتٍ بسيطةٍ، وهي كلّها أدوات غير صالحة لكوارث مماثلة، لكنّنا استخدمناها للضرورة وإخراج الضحايا”.
يردف محمّد “الكّل تخلّى عنّا في محنتنا؛ الرسميّون والسياسيّون والحزبيّون، وقد ناشدنا الجميع للمساعدة، فلم نلقَ استجابة من أحدٍ، حتّى أنّه لم يكلّف أحد نفسه باتّصالٍ هاتفيّ للسؤال عنّا، فنحن كنّا من حيث الواقع والميدان متروكين لمصيرنا الذي هو الموت الحتميّ”.
نحن المغسّلين والمشيّعين والموارين
يشير محمّد إلى أنّ كلّ ما كان تحتاجه أيّ ضحيّة من ساعة سقوطها تحت ركام منزل ما إلى مرحلة الدفن “كنّا نحن القلائل من يتولّى هذا الأمر، إذ كنّا نغسّل ونكفّن ونشيّع ونحفر وندفن، نقوم بهذا ونحن في قمّة الشعور بمسؤوليّتنا الكاملة أمام مشاهد لم ترَها أعيننا من قبل، ولم تخطر ببال بشرٍ إلّا مَن رآها بأمّ العين ولمسها بيديْه.”
يتابع “ما رأته أعيننا من هول المشاهد والصور لأجسادٍ متناثرةٍ وكتلٍ من اللحم معلّقة على الجدران أو الأشجار تقشعرّ له الأبدان والعقول، ولا يمكن لبشريّ أن يتقبّله أو يرضى به. لقد رأينا الجحيم في الواقع، وشاهدنا الفظاعة في الإجرام والقتل بطريقةٍ أكبر من الوحشيّةٍ، ولم نكن نعلم أنّ الإنسان عندنا رخيص إلى هذا الحدّ”.
لم نتلقَّ أيّ دعمٍ
يؤكّد محمّد أنّه طوال أيّام الحرب كان مع مَن بقيوا معه في البلدة يأكلون من مؤونة بيوتهم، ويصرفون ممّا كان في جيوبهم، ولم يسأل أحد عنهم بتاتًا. “لم تأتِ إلينا أيّ جمعيّةٍ خاصّةً كانت أم عامّةً. كذلك لم تسأل عنّا جهات حزبيّة ولا بلديّة، كنّا معزولين تمامًا عن أيّ مساعدةٍ أو خدمةٍ على الرّغم من أنّ بعض الجمعيّات كانت تؤمّن الموادّ الغذائيّة والاحتياجات اليوميّة إلى كلّ النازحين إلى مناطق نزوحهم. وحتّى أنّ الصامدين في منازلهم تلقّوٌا مساعداتٍ ماليّةً من مكتب السيّد علي السيستاني وحزب الله بالإضافة إلى موادّ غذائيّةٍ باستثنائنا نحن الباقين في منازلنا كي نكون في خدمة المحتاجين لم نخطر على بال أحد.” ويختم بأنّ “ما قمنا به كان في سبيل الله والوطن والبلدة وأهلنا، ولا ننتظر شكرًا أو رضىً من أحد”.
محمد: كنّا نحن القلائل من يتولّى هذا الأمر، إذ كنّا نغسّل ونكفّن ونشيّع ونحفر وندفن، نقوم بهذا ونحن في قمّة الشعور بمسؤوليّتنا الكاملة أمام مشاهد لم ترَها أعيننا من قبل، ولم تخطر ببال بشرٍ إلّا مَن رآها بأمّ العين ولمسها بيديْه
خسائر طاريّا
يقول رئيس “جمعيّة الإصلاح البلديّ” في طاريّا الزميل مرحب حميّة إنّه كان لبلدته النصيب الأكبر من الاستهدافات الاسرائيليّة على البقاع “حيث سُجّلت 90 غارةً على البلدة ومنازلها، أدّت إلى سقوط نحو50 مدنيًّا بين أطفالٍ ونساءٍ وشبابٍ، وتدمير قرابة60 منزلًا تدميرًا كلّيًّا وتضرّر نحو 200 منزلٍ بأضرارٍ مختلفةٍ. “ويشير لِـ “مناطق نت” إلى أنّ “طاريّا كانت تُستهدف مرّتيْن إلى ثلاث مرّاتٍ في اليوم الواحد. وهذا ما كان يرعب الأهالي لا سيّما الأطفال منهم، إذ لم يكن أمامهم إلّا النزوح حفاظًا على أرواحهم”.
يضيف حميّة “هناك أضرار كبيرةً حصلت في شبكتيْ الكهرباء والمياه في البلدة، إلى جانب تضرّر عديد من طرقاتها الداخليّة ما جعلها بلدةً منكوبةً بكلّ ما للكلمة من معنى، لأنّ ما أصابها يحتاج إلى كثير من الوقت والإمكانيّات حتّى تعود كما كانت، لكن مَن يعيد الأموات؟”.
حاجات طاريّا الملحّة
ويرى حميّة أنّه على الجهات المعنيّة وبعد أن انتهت الحرب منذ أيّامٍ، أن تقوم بواجباتها بأسرع وقتٍ “لأنّ التأخّر أو التباطؤ الرسميّ من الدولة بجميع أجهزتها في القيام بواجباتها تجاه البلدة من نواحٍ عدّةٍ، يفاقم الكارثة ويعمّق الألم لا سيّما وأنّ الأهالي فقدوا كثيرًا ممّا لا يعوّض.”
ويقول “إنّ أول ما تحتاجه البلدة وعلى الفور، هو تأمين مساكن لائقةٍ للذين دُمّرت بيوتهم بالكامل، كونهم إمّا لا يزالون نازحين في أماكن بعيدةٍ، أو بعضهم يسكن موقّتًا في منازل أقاربه وحالهم هذه تزيد من نكبتهم ومأساتهم لا سيّما ونحن قد دخلنا فصل الشتاء مع صقيعه وبرده والحاجة إلى مادّة المازوت في وقتٍ لم يعد لدى الناس من مالٍ يؤمّن لهم لقمة عيش كريمة”.
ويضيف “على مؤسّسة كهرباء لبنان العمل سريعًا على إصلاح الأعطال التي طرأت على شبكة الكهرباء جرّاء العدوان لإعادة الأمور في البلدة إلى طبيعتها”. كذلك طالب حميّة وزارة الأشغال العامّة بإزالة الركام والحطام عن الطرقات الداخليّة “ليتسنّى للمواطنين التنقّل داخل البلدة وتأمين احتياجاتهم”.
وينهي حميّة كلامه بأنّ بلدته طاريّا دفعت ثمنًا باهظًا في هذه الحرب، فخسرت كثيرًا “لأنّها البلدة المقاومة للاستعمار والذلّ منذ العثمانيّين مرورًا بالاحتلال الاسرائيليّ مراتٍ عدّةً، ولها في ذلك شهادات حيّة لمقاوميها”.