طرابلس خارج الأسبوع الوطنيّ للمطالعة والقرّاء خارج مكتباتها

واقع مرير ينمّ عن عزلتين، مدينة معزولة عن الأسبوع الوطنيّ للمطالعة، ومكتبات عامّة معزولة عن القرّاء. في هذا المشهد، يتجلّى الشعور بالعزلة الملازم لشخصيّة طرابلس وتصوّرات أبنائها.

يستوقف المتابع غياب طرابلس، عاصمة الشمال وثاني أكبر مدن لبنان، عن “أسبوع المطالعة” الذي أطلقته وزارة الثقافة اللبنانيّة بين 22 و30 نيسان (أبريل) الماضي، بمشاركة 24 مكتبة عامّة من مختلف المناطق اللبنانيّة، من دون أن تنضمّ أيّ مكتبة من طرابلس إلى هذه الفعاليّة. والمفارقة، أنّ هذا الغياب يأتي بعد عام من تتويج طرابلس “عاصمة للثقافة العربية”، في فرصة أُهدرت بفعاليّات هزيلة، وطُويت صفحتها سريعًا ضمن سياقات أخرى متشابكة من التراجع العام.

وطرابلس تضمّ عددًا من المكتبات العامّة، أبرزها “مكتبة مركز رشيد كرامي الثقافيّ البلديّ” المعروفة بـ “قصر نوفل”، وهي مكتبة ذات طراز معماريّ تراثيّ فريد، وترتبط ببلديّة طرابلس.

كذلك تحتضن المدينة مكتبة “المعهد الفرنسيّ” التابعة للسفارة الفرنسيّة، ومكتبة “الرابطة الثقافيّة” التي تنظّم معرضًا سنويًّا للكتاب في أواخر نيسان وحتّى مطلع أيار (مايو)، وتعود إلى عصر ازدهار الثقافة والفنون في طرابلس منذ ستينيّات القرن الماضي، وتعاصرها عبر عقود مكتبة “نادي الجامعيّين” المعبّرة عن مرحلة ذهبيّة سابقة من الحراك الطلّابي الطرابلسيّ، ومكتبة “مؤسّسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافيّة”، بالإضافة إلى مكتبات صغيرة ضمن بعض الجمعيّات والمقاهي الثقافيّة. وخسرت المدينة مكتبة مهمّة في مركز الصفديّ الثقافيّ، وقد كانت مجهّزة بنظام رقميّ حديث، وشهدت إقبالًا لافتًا للقرّاء في السنوات الماضية، قبل أن تُغلق أبوابها.

المكتبة العامة في مركز رشيد كرامي الثقافي (قصر نوفل) إحدى أهم مكتبات طرابلس
مشهد ثقافيّ متناقض

على رغم هذا الحضور المكتبيّ الظاهر، يبدو المشهد الثقافيّ متناقضًا؛ لا يكفي أن تضمّ المدينة مكتبات جميلة وعريقة، بل الأهمّ أن تكون نابضة بالحياة، متّصلة بالناس، ومعبّرة عن شخصيّة القرّاء وأذواقهم. إذ إنّ هذه المكتبات، على رغم أهمّيّتها، تعاني من ركود واضح وخفوت في نشاطها على مدار العام، وليس فقط خلال “أسبوع المطالعة”.

وبمعزل عن مسألة انحسار القرّاء عالميًّا، تضمّ طرابلس بطبيعة الحال قرّاءً، ولكنّ مكتباتها العامّة مهجورة منهم، وخصوصًا من الجيل الجديد. عديد منهم يشارك على وسائل التواصل الاجتماعيّ منشورات لقراءاته وكتبه وينشط ضمن نوادي مطالعة، ولكنّه لا ينتسب إلى هذه المكتبات الذي يفترض أن تشكّل واحدًا من أماكنهم المفضّلة، وملاذهم الآمن، ومجالًا للانتماء الفرديّ المتماهي بانتمائهم للمدينة من خلال مجالها العام.

الانكفاء: أسباب مبهمة

بداية، تواصلت “مناطق نت” مع وزارة الثقافة اللبنانيّة للاستفسار حول مسألة غياب طرابلس عن أسبوع المطالعة، فأحيل السؤال إلى مدير عام وزارة الثقافة اللبنانيّة، الدكتور علي الصمد، الّذي أكّد أنّه جرى التواصل مع إدارات المكتبات العامّة في طرابلس، على رغم ركودها، ولكن لم تجد الفعاليّات تجاوبًا.

أمّا رئيس اللجنة الثقافيّة في بلدية طرابلس، الدكتور باسم بخاش، فيقول لـ “مناطق نت”: “إنّ البلدية لم تُبلّغ بإحياء الأسبوع”، ويتابع: “مع الإقرار بأنّ قصر نوفل ومكتبته يواجها تحدّيات تشغيليّة عدّة، وبأنّنا نعيش اليوم في مرحلة أشبه بتصريف أعمال قبيل الانتخابات البلديّة، إنّما كان بالمستطاع تنظيم فعاليّات بالتعاون مع مؤسّساتنا الأهليّة والثقافيّة”. ويؤكد بخاش أنّ “التواصل مع وزارة الثقافة لم ينقطع”، مشيرًا إلى زيارة الوزير غسّان سلامة أخيرًا إلى مواقع تراثيّة في طرابلس وإلى معرض رشيد كرامي، وكذلك زيارة قريبة لممثّل عن الوزارة، وقد عرض مجالات التعاون لتطوير تجربة قصر نوفل.

طرابلس أحيت لسنوات طويلة “أسبوع المطالعة” بشكل مميزّ وفي وقت لم تعلنه الوزارات المتعاقبة، فنُظّمت مسابقات المطالعة والنقد الأدبيّ السنويّة بين مدارس الشمال

ثمّة حلقة مفقودة إذًا، على مستوى الإبلاغ والتواصل، حالت دون مشاركة طرابلس في فعاليّات “أسبوع المطالعة” تحت جناح وزارة الثقافة. هذا الخلل يصفه ناصر جروس، القيّم على “دار جروس برسّ ناشرون” في طرابلس وصاحب خبرة طويلة في تنشيط المطالعة، بأنّه “نتيجة مزمنة لغياب التنسيق بين الجهات المعنيّة”.

شحّ في الموارد الماليّة

يتابع جروس لـ “مناطق نت”: “كلّنا يعلم أنّ القطاع الثقافيّ يعاني شحًّا في الموارد الماليّة، وكذلك هي وزارة الثقافة، ولكنّ هذه مقوّمات منفصلة عن الدور الأساسيّ للوزارات والبلديّات في التنسيق وإدارة هذه الفعاليّات وسواها. فمن جهة، يتعيّن على وزارة الثقافة تحديد شخصيّة محوريّة لضبط إيقاع هذه الفعاليّات وفق آليّة واضحة، كذلك ينبغي على بلديّة طرابلس أن تلعب دورًا في ربط المؤسّسات الثقافيّة المحلّيّة بوزارة الثقافة، والتنسيق في ما بينها ضمن برنامج موحّد، الأمر الذي لم يحصل هذه السنة”.

ويذكّر الناشر أنّ طرابلس أحيت لسنوات طويلة “أسبوع المطالعة” بشكل مميزّ وفي وقت لم تعلنه الوزارات المتعاقبة، فنُظّمت مسابقات المطالعة والنقد الأدبيّ السنويّة بين مدارس الشمال، وأنّ لبنان هو أوّل بلد عربيّ كرّس “الأسبوع الوطنيّ للمطالعة” بعد سنة من إعلان منظّمة “اليونيسكو” إحياء “اليوم العالميّ للكتاب وحقوق المؤلّف” في 23 نيسان، ما يستوجب الحفاظ على هذه المحطّة الثقافيّة الهامّة بشكل يضمن الاستمراريّة والتأثير لطرابلس وجميع المناطق.

خدمات غائبة: أسباب ونتائج

إنّ تحليل هذا الواقع العامّ من الانكفاء لمكتبات طرابلس العامّة، يستحضر بالدرجة الأولى مكتبة “قصر نوفل”، لكونها أهمّ مكتبات طرابلس ومرتبطة مباشرة بموارد البلديّة ودورها، كما شهدت في العام 2023 ترميما للبناء التراثيّ وإعادة تصنيف الكتب ضمن مشروع مموّل من “برنامج الأمم المتّحدة الإنمائيّ”.

خلال أحد الأنشطة داخل المكتبة العامة في “قصر نوفل”

يشير الدكتور باسم بخاش، عضو بلديّة طرابلس ورئيس اللجنة الثقافيّة فيها، إلى أنّ “المكتبة تواجه مشاكل إداريّة وماليّة تحول دون إقبال القرّاء”. ويقول لـ “مناطق نت”: “أوّلًا، يدير المكتبة موظّفون في البلديّة، ينتهي دوامهم عند الثانية بعد الظهر، أيّ عند انتهاء دوام الجامعات والموظّفين، وهو الوقت المناسب لاستقطاب القرّاء، ولكن سيجدون أبواب المكتبة مغلقة في أوقات فراغهم، وكذلك أيّام الجمعة والسبت والأحد. ثانيًا، إنّ انهيار ميزانيّة البلديّة يمنع استقطاب موظّفين مخصّصين للمكتبة أو زيادة الرواتب لتغطية ساعاتهم الإضافيّة. وهذا التدهور الماليّ انعكس في غياب أساسيّات المتطلّبات التشغيليّة، فتغيب الكهرباء الدائمة والتدفئة والتبريد والاتّصال بشبكة الانترنت”.

من جهته، يجد عبد الخالق الزعبي (33 سنة) في حديث لـ “مناطق نت”، وهو نائب رئيس نادي Bookaholics (معناها مدمنو الكتب) للقراءة، “أنّ مكتبة قصر نوفل تحمل كنوزًا مغمورة عن التاريخ الصوفيّ لمدينته طرابلس، وهي لا تستثمر كما ينبغي، على رغم ما قد تشكّله من عنصر فاعل في تشكيل هويّته الثقافيّة، ووعي المدينة بصفتها مركزًا تاريخيًّا للصوفيّة في المنطقة العربيّة”.

يتابع: “وقعت بالصدفة على مرجع نادر للإمام الغزاليّ في مكتبة قصر نوفل، وقد اعترتني مشاعر متضاربة ما بين الصيد الثمين، والجهل العام بوجود مثل هذه المراجع في مكتبتنا، ومنذ ذلك الوقت حرصت على أن أخبر أصدقائي الباحثين والقرّاء بوجود هذه المراجع عندنا. لكنّ الكتب هنا أنواعها محدودة، كذلك أنها تتجاور بشكل فوضويّ، دون الحديث عن تردّي الخدمات عمومًا في المكتبة”.

طيّارة: تجربتي مع المكتبات العامّة في طرابلس جعلتني أشعر أنّها حيّز طارد للقرّاء، وغير صديق للشباب تحديدًا. في إحدى المرّات بحثت عن كتاب على ضوء هاتفي المحمول، ويستقبلك العمّال بجفاء ودون تكليف عناء في المساعدة

حيّز طارد للقرّاء

أمّا رقيّة طيّارة (21 سنة)، وهي قارئة نهمة، فتخلص في حديثها لـ “مناطق نت” إلى أنّ “تجربتي مع المكتبات العامّة في طرابلس جعلتني أشعر أنّها حيّز طارد للقرّاء، وغير صديق للشباب تحديدًا. في إحدى المرّات بحثت عن كتاب على ضوء هاتفي المحمول، ويستقبلك العمّال بجفاء ودون تكليف عناء في المساعدة على إيجاد المرجع. كذلك فإنّنا لا نستفيد من نظام للإعارة. وحين اقترحت على القائمين على إحدى المكتبات وجود كافيتيريا صغيرة لاحتساء القهوة والشاي، اعتبروني سطحيّة وبعيدة من الاهتمام الثقافيّ”.

في السياق، تجسّد هذه المكتبات لطيّارة انفصالات ثقافيّة عوضًا عن مساحات للدمج. تقول: “لمستُ أنّ الوصول إلى المكتبات العامّة وخدماتها في طرابلس مقتصر على أشخاص ذوي سمعة ثقافيّة، يمتلكون التجربة والحيثيّة و”النفوذ الثقافيّ” وغالبيتهم من كبار السنّ. لا تعبّر هذه المكتبات، مع الأسف، عن نمط جاذب واحتوائيّ للشباب، وأجدها بعيدة كلّ البعد من أجواء الإلفة والاستئناس بالأقران ونقاشاتهم التي ننشدها في أجواء القراءة، ولذلك فما عدتُ أزورها. وأعتقد أنّ تجربتي تحاكي تجارب كثيرين ممّن هجروا هذه المكتبات”.

في المحصّلة، عندما تغيب المكتبة عن الناس، شيء في المدينة يغيب عن نفسه. طرابلس لا ينقصها المكتبات ولا الكُتب، بل ينقصها أن تُعامَل مكتباتها كأماكن حيّة، تنبض بالناس دون تمييز، وتتحوّل إلى جزء من نسيجهم اليوميّ، لا أن تبقى معزولة كأثَرٍ جميل لا يُمسّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى