طرابلس في لساني: “إسّا” تعني المزيد و”المغربيّة” بالخبز

في يومي الأوّل بعد انتقالي إلى العمل في بيروت، وبينما كان الزملاء يلتهمون “الصفيحة” (لحم بعجين) بانتظام، يليق بـ “إتيكيت” العاصمة وإيقاعها، أردت ببساطة شريحة ليمون، فقلتُ بصوت سمعه كلّ من في المكتب “حدا يناولني المروكبي؟”. تجمّد الزمن لثوانٍ، نظرات متبادلة، حواجب مرفوعة، وصوت زميل يسأل بدهشة “شو يعني مروكبي؟”.

في تلك اللحظة، ووسط الارتباك الخفيف والطريف في آن، اكتشفت أنّ مفردة عاديّة جدًّا في طرابلس تتحوّل إلى لغز لغويّ في بيروت. فـمفردة “المروكبي” التي نستخدمها باستمرار في الشمال، والتي تعني “الحامض” في المناطق الأخرى، لم تجد لها مكانًا على مائدة العاصمة فأثارت الانتباه، وهذا بحدّ ذاته يطرح سؤالًا عن التنوّع في لهجات مناطقنا وخصوصيّاتها، على رغم المسافة التي لا تُعدّ بعيدة بين المنطقة والأخرى، وهذا يضفي طابعًا جماليًّا على تراث المناطق، يشكّل في الوقت نفسه، جواز عبور محبّب نحو المناطق الأخرى.

“المروكبي” واحدة من كلمات كثيرة وعادية تستخدم بشكل دائم، تنتمي إلى قاموس طرابلسي غني بالمفردات المميّزة والغريبة والجميلة في الوقت نفسه، يتوارثها أبناء طرابلس من جيلٍ إلى جيل، ومن خلال تلك المفردات تعيد المدينة إنتاج ذاكرتها كل يوم، فتحمل ما تبقّى من تراث وتاريخ كان دومًا غني بالتجارة واللغات والثقافات.

عن بدل عم

واقعة “المركوبي” لم تكن يتيمة، فمنذ انتقالي إلى بيروت، صرت أسمع ضحكات لطيفة كلما انزلقت من فمي استخدامات عفويّة لمفردات أخرى مثل “عن” بدل “عم”. أقول: “عن يصير قصف” أو “عن تطلع نتيجة”، فيتحوّل الـ “عن” إلى نكتة جماعيّة وسجال لغويّ لا ينتهي إلّا بتدخّل أحدهم معلنًا “هدنة لغويّة”.

حتّى سائق “السرفيس” التقط الاختلاف؛ حين قلت له: “ع طروبلس”، ردّ مبتسمًا: “ع طروبليس؟” وكأنّه يسمعها لأوّل مرّة.

حتّى سائق “السرفيس” التقط الاختلاف؛ حين قلت له: “ع طروبلس”، ردّ مبتسمًا: “ع طروبليس؟” وكأنّه يسمعها لأوّل مرّة.

تلك التفاصيل الصغيرة ليست مجرّد اختلافات “لهجيّة”، بل هي إشارات تُذكّر بأنّ اللسان يحمل المدينة على ظهره أينما ذهب، وأنّ الجغرافيا كثيرًا ما تسكن مخارج الحروف.

طرابلس مدينة تتكلّم بلغتها

دفعتني هذه الوقائع إلى الغوص قليلًا في لهجتنا. فعرفت أنّ الطرابلسيّ لا يتحدّث وحسب، بل يروي تاريخًا طويلًا من الاختلاط الثقافيّ. العربيّة في طرابلس ممزوجة بتراث تركيّ وسوريّ عريق، نتيجة قرون من التفاعل مع العثمانيّين والتجّار القادمين عبر الميناء، ثمّ بحكم التقارب الجغرافيّ مع سوريا.

الباحثة والصحافيّة سارة الخير تقول إنّ “جزءًا كبيرًا من مفردات اللهجة الطرابلسيّة يعود إلى التركيّة، بحكم الدور الإداريّ الذي لعبته المدينة زمن الدولة العثمانيّة”. تتابع لـ “مناطق نت”: “ليس الأمر عبارة عن مفردات فقط بل يعود لبنية لغويّة كاملة. فـ “إسّا” عندنا لا تعني “الآن”، بل “المزيد”. “إسّا بصبلّك قهوة؟” أيّ هل تريد مزيدًا؟ وللمفارقة، كلمة “صبّلك” نفسها علامة طرابلسيّة صافية”.

ولأنّ البساطة جزء من فلسفة طرابلس، تُختصر كلّ المشروبات بكلمة واحدة هي “عصير”. لذا بّيبسي يعني عصير، وميرندا أيضًا عصير. برتقال طبيعيّ كذلك عصير. وعليه عندما تقول أريد عصيرًا، سيتكفّل الحظّ باختيار الزجاجة التي تناسب طلبك.

مدينة طرابلس
للمائدة لغتها أيضًا

الاختلاف لا يقتصر على اللهجات والمفردات وما ينطق به اللسان فقط، فالأكل وأطباق الطعام تُفصح أيضًا عن هويّة المدن، ويعزّز من هامش الاختلاف، وهذا ما حصل معي حين وجدت أصدقاء بيروتيّين يتناولون “المغربيّة” بلا خبز، شعرت بأنّني أحضر النسخة المدبلجة من طبق أعرفه جيّدًا.

في طرابلس، المغربية بالخبز وبالطحينة وبحبّة بركة من الروح.

هو اختلاف بسيط، لكنّه يذكّر بأنّ المدن تحتفظ بطقوسها، حتّى على مستوى لقمة الطعام.

من الملاحظة إلى الفكرة

كلّ تلك المفارقات أعادتني إلى سؤال وجّهته إليّ زميلة صحافيّة في بيروت، حين طلبت منّي تصوير مقابلة معي حول مفردات طرابلسيّة لا تُفهم في العاصمة بيروت. بدا الطلب عاديًّا، لكنّه فتح بابًا واسعًا على ذاكرة المدينة وتراثها الموغل في العمق.

يمكن لبيروت أن تغيّر طريقتي في الكلام، وتدرّبني على قول “عم” بدل “عن”، وتجعل سماع كلمة “المروكبي” يثير دهشة جماعيّة، لكنّها لن تستطيع أبدًا إقناعي بأنّ “المغربيّة تُؤكل بلا خبز”.

اللهجة ليست مجرّد وسيلة للتخاطب، بقدر ما هي توثيق لتاريخ شفويّ يؤرّخ لتفاصيل المدينة ويعرّف بها. من هنا لا تأتي الكتابة دفاعًا عن لهجة، ولو كان ذلك مشروعًا بقدر ما هو احتفاء بشخصيّة طرابلس وخصوصيّتها الجميلة، كجزء من فسيفساء اللهجات اللبنانيّة التي تسكن مناطق عديدة وتتجذّر فيها، فوق مساحة صغيرة اسمها لبنان.

بيروت تغيّر النبرة لا الأصل

مع الوقت تسرق منّا المدن لهجاتنا وتمنحنا مفرداتها، وهذا ما حصل معي في بيروت حيث بدأت تتسلّل مفردات بيروتيّة إلى لساني، فجعلتني أردّد في طرابلس وبشكل عفوي “خَيّي” بدل “أخي”، لتنهال عليّ التعليقات الساخرة.

أعيش أحيانًا بين مدينتين، في بيروت أراقب كلماتي كي لا أبدو غريبًا، وفي طرابلس أحرس لهجتي كي لا أفقد بصمتي الصوتيّة. فالانتماء في النهاية ليس بطاقة هويّة، بل كلمة تنزلق بلا تفكير من اللسان.

طرابلس مدينة تتحدّث لهجتها، كلّ مفردة فيها تحمل ظلّ ميناء قديم أو سوق أو حجر عمره قرون، والطرابلسيّ، حين يغادرها، لا يحمل حقيبة سفر فقط، بل يحمل معه قاموسًا صغيرًا من الحنين.

ختامها طروبلسيّ

صباح أحد الأيّام، وأنا أتهيّأ لرحلتي اليوميّة إلى بيروت، غلبني الوقت ولم أستطع تناول طعام الإفطار، فسارعت إلى فتح خزانة المطبخ وتناولت منها ما يسدّ رمقي في الطريق، فحشرت في حقيبتي كعكتين ومعهما “قطرميز ططلة”، أو كمّا يسميّه العالم خارج كوكب طرابلس، مرطبان المربّى. في حينه أدركت الحقيقة الكبرى، يمكن لبيروت أن تغيّر طريقتي في الكلام، وتدرّبني على قول “عم” بدل “عن”، وتجعل سماع كلمة “المروكبي” يثير دهشة جماعيّة، لكنّها لن تستطيع أبدًا إقناعي بأنّ “المغربيّة تُؤكل بلا خبز”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى