طلاب الأطراف في الجامعة اللّبنانيّة.. معاناة السكن والنقل وأكلاف العيش
“أسكن مع عائلتي في منطقة عبرا شرقيّ صيدا، لكنّني أتنقّل يوميًّا بين مكان سكني والجامعة اللبنانيّة في الحدث (بيروت)، لمتابعة دراستي في اختصاص السينما والتلفزيون. أصرف حوالي 113 دولارًا شهريًّا بدل نقل. وأبحث عن عمل حاليًّا لأنّ مدخول عائلتي لا يكفي”.
ما قالته نبيهة خضرا المتحدّرة من مدينة حيفا في فلسطين لـ”مناطق نت” ليس إلّا عيّنة عن المعاناة التي يكابدها طلّاب الجامعة اللبنانيّة من ذوي الدخل المحدود في خلال دراساتهم، ومنها كلفة الانتقال، والسكن الجامعي، وأكلاف الدراسة. لكن السبب الرئيس في معاناة هؤلاء، يكمن في تركّز اختصاصات الجامعة اللبنانية في المبنى الجامعيّ الرئيسيّ في الحدث، وخلوّ الأطراف والمناطق البعيدة منها، باستثناء اختصاصات محدودة.
في الجنوب كما في البقاع، يضطرّ معظم الطّلاب الرّاغبين في استكمال دراساتهم الجامعيّة بعد التّخرّج من الثّانويّة، إلى النزوح نحو جامعات بيروت، وجلّهم يقصد الجامعة اللّبنانيّة بفروعها كافّة، إذ إنّ الجامعات الخاصّة متوافرة في بعض مناطق الجنوب اللبناني وفي البقاع كذلك، لكنّها ليست بمتناول الغالبيّة العظمى من الطلاب ذوي الإمكانات المادّيّة المحدودة.
تتوزّع في الجنوب بعض كلّيّات الجامعة اللبنانيّة بين النّبطيّة وصيدا وهي: كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، كليّة التكنولوجيا، كليّة الحقوق والعلوم السياسيّة، كليّة الصّحّة العامّة وكليّة العلوم الاقتصاديّة وإدارة الأعمال.
خمس كلّيّات من بين تسع عشرة كليّة من كلّيّات الجامعة اللّبنانيّة موجودة في الجنوب الذي يضمّ 178 مدينة وقرية ويسكنها نحو 800 ألف نسمة، بينما تتمركز سائر الكلّيّات في بيروت، وتحديدًا في مناطق الحدث والفنار ودير القمر والأونيسكو. وإذا ما أجرينا إحصاءً شكليًّا لعدد الطلّاب في كلّيّات الجامعة اللبنانيّة في بيروت يتّضح أنّ غالبيتهم من الجنوب، من النازحين للدراسة في بيروت، أو ممّن يتنقّلون يوميًّا بين بلداتهم الجنوبيّة وبين الجامعة في بيروت.
طاولت الأزمة الاقتصاديّة الّتي اقتحمت بيوت اللبنانيّين في العام 2019 كلّ فرد من كلّ عائلة لبنانيّة على الأقلّ، إذ كان على الطلاّب في المراحل كافّة وكذلك على الأهل المسؤولين عن تأمين مصاريف ونفقات المدارس والجامعات لأبنائهم، أن يقعوا في دوّامة وهمّ الوضع الاقتصادي وانعكاسه على مصالحهم واهتماماتهم.
خمس كلّيّات من بين تسع عشرة كليّة من كلّيّات الجامعة اللّبنانيّة موجودة في الجنوب الذي يضمّ 178 مدينة وقرية ويسكنها نحو 800 ألف نسمة، بينما تتمركز سائر الكلّيّات في بيروت، وتحديدًا في مناطق الحدث والفنار ودير القمر والأونيسكو.
وفي حين تشمل أبسط حقوق الإنسان الحقّ في االتعلّم، بات الطّلاب اللّبنانيّون عمومًا والجنوبيّون والبقاعيّون خصوصًا أمام خيارين اثنين: إمّا المصارعة للاستمرار في مواجهة الأزمة الاقتصاديّة الخانقة، وإمّا التخلّي عن المدرسة أو الجامعة وعن حقّهم بالتعلّم. وعليه، فإنّ وضع طلّاب الجامعة اللبنانيّة النازحين من القرى نحو بيروت لاستكمال دراساتهم، هو على حاله منذ سنوات طويلة، تنقضي أزمة لتحلّ مكانها أزمة أخرى، ويبقى الطلّاب في مهبّ العاصفة والمعاناة المستمرّة.
على طريق الجنوب- بيروت
ينقسم طلّاب الجنوب ممّن يدرسون في الجامعة اللبنانيّة في بيروت بين مَن يقضي يوميًّا نحو أربع ساعات أو أكثر (ذهابًا وإيّابًا) إلى الجامعة في بيروت، وبين من ينتقل للسكن في “السّكن الجامعيّ”، في حال توافره، أو في سكن خاصّ يُطلق عليه تسمية “فوايّيه” Foyerقريب من الجامعة أو الكلّيّة، ومنهم مَن يُضطرّ للعمل في ظلّ الأوضاع والظّروف المعيشيّة الراهنة، تزامنًا مع الدّوام الطويل في الجامعة.
منذ بدء الأزمة ارتفعَت كلفة النّقل بين المناطق بشكل جنونيّ، إذ تتراوح أجرة الراكب في الباصات العموميّة بين 100 و250 ألف ليرة لبنانيّة، بحسب كلّ منطقة، بُعدها أو قُربها، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الطلّاب القاطنين في محافظة النّبطيّة، فتتراوح أجرة النّقل من وإلى بيروت ما بين 350 و400 ألف ليرة لبنانيّة يوميًّا.
اضطرّت الطالبة في كلّيّة الفنون الجميلة والعمارة سجى دياب للانتقال من بلدتها المروانيّة في الجنوب إلى بيروت، والعيش مؤقّتًا في سكن للطالبات قرب الجامعة اللبنانيّة في الحدث. تشير سجى لـ”مناطق نت” إلى أنّها في بداية انتقالها إلى بيروت “لم تكن تتوقّع أنّها ستحتاج إلى نحو ثلاثين دولارًا في الأسبوع مصروفًا تنفقه على المياه والغاز والخضار، “على الرّغم من أنّني أقصد بيت العائلة في المروانيّة في نهاية كلّ أسبوع، وأُحضر معي الطعام الّذي تطبخه والدتي، ليكفيني خمسة أيّام”. وهي المدة التي تقضيها في الجامعة.
تتابع: “إضافة إلى مصروفي الأسبوعي الذي يتراوح بين ثلاثين وأربعين دولارًا، أحتاج معها إلى 600 ألف ليرة لبنانيّة أجرة الطريق إلى الضيعة في كلّ عطلة. وأنا لا أعمل، لأنّ لا وقت لديّ بين الجامعة والدراسة، بل أحاول الاكتفاء بما يقدّمه إليّ والديّ”.
في المقابل، لا يزور حسين قانصو، وهو طالب في كلّيّة الفنون الجميلة والعمارة (الحدث)، منزل العائلة في بلدته الشهابيّة سوى مرّة واحدة كلّ أسبوعين، إذ اضطرّ للانتقال إلى سكن للشّباب قرب الجامعة. يعيش حسين في غرفة مقابل ثمانين دولارًا في الشهر، من دون إنترنت أو اشتراك كهرباء أو غاز للطبخ، مع أنّه يُحضر معه من بيت الضيعة في الجنوب ما يلزمه من طعام وغيره.
يقول حسين: “لم أضطرّ للعمل بعد، لأنّني اشتغلت في فترة الصّيف ووفّرت المبلغ الّذي قد يكفيني لمصاريف الجامعة في الشّتاء، فأنا أحاول الاتّكال على نفسي وتحقيق استقلاليّتي”.
مكابدة التعب والمصروف والبطالة
يُنهي الطلاب اللبنانيّون المرحلة الثّانوية، وخصوصًا طلاب الجنوب والبقاع، ويصطدمون بضرورة الاستقلال والاعتماد على الذّات، وهو أمر ليس بهذه الصعوبة، لكن في بيروت، وفي ظلّ الأزمة الرّاهنة، يواجه طالب الجامعة اللبنانيّة “النضج” والاستقلاليّة، والعوَز والتّعب والبطالة في آن معًا، ناهيك عن أزمات الجامعة اللبنانيّة نفسها، والّتي إذا أردنا توصيفها فيمكن القول: “إنّها مبانٍ فارهة وفارغة”.
ولو أزلنا جدرانها وصفوفها فلن يتغيّر شيء على الطالب، إذ إنّه في معظم الكلّيّات يدرس الطّلاب ساعات طويلة في العتمة، ويتكبّدون برد الشتاء وصقيعه بدون مستلزمات التّدفئة الأساسيّة، فضلًا عن أنّ بعض الكلّيّات تفتقد صفوفها ومراحيضها إلى أدنى مستويات النّظافة، وبعضها غير مجهّزة. لذلك يتردّد ومن دون مبالغة، أنّ طالب الجامعة اللّبنانيّة يعيش مشقّات العمر في ثلاث سنوات من عمره، هي السّنوات الّتي يُفترَض أن يركّز في خلالها على الدراسة، ولا شيء غيرها.
ترك حيدر خليل، من قرية جبال البطم في قضاء صور، عائلته منذ ثلاث سنوات ليستقرّ في بيروت، في منزل للأقارب، كي يتمكّن من متابعة دراسته في الجامعة اللبنانيّة (الأونيسكو)، في كلّيّة الصحافة وعلوم الإعلام. يزور حيدر بيت العائلة مرّة واحدة في الأسبوع، ويدفع نحو 20 دولارًا قيمة التنقّل بين الضّيعة وبيروت، وما يقارب 10 دولارات يوميًّا بين نفقات العام الدراسيّ والتنقّل بين منزل أقربائه والجامعة.
في المقابل اختارت إسراء حيدر وهي من بلدة قاقعيّة الجسر (النبطية)، البقاء في منزل عائلتها الّتي تسكن في النّبطيّة، حيث تتنقّل مِن يوم الثّلاثاء إلى الجمعة بين النبطيّة والجامعة اللبنانيّة في الأونيسكو، وتصرف نحو مليون ليرة لبنانيّة في كلّ يوم دراسيّ، بين نقل وطعام.
تنهض إسراء في الساعة الخامسة صباحًا، تحضّر نفسها لتستقلّ الباص من النبطيّة فتصل عند الثامنة إلى الجامعة. بعد أن تنتهي من دوامها الجامعيّ، تصل في الساعة السابعة والنصف مساءً إلى مقرّ عملها في مطعم “سوشي” في كفررمان (النبطية)، وينتهي دوام عملها قرابة الواحدة بعد منتصف اللّيل.
يتنقّل عامر مكّي ابن بلدة رومين الجنوبيّة يوميًّا في الباص ليتابع دراسته في الجامعة اللبنانية فرع الحدث. عامر الذي قرّر البقاء مع عائلته في الضيعة، يُنفق 600 ألف ليرة لبنانيّة يوميّاً ذهاباً وإيّاباً، من بلدته إلى الجامعة، ويمضي ساعات طويلة على الطريق، نظرًا لعدم توفر مسكن في الجامعة أو قربها.
على طريق بعلبك-بيروت
في بعلبك- الهرمل تكاد تكون الجامعة اللبنانيّة غائبة عن المنطقة، ففي العام 2005 افتتحت بلديّة بعلبك فرع المعهد العالي للعلوم التطبيقيّة والاقتصاديّة، ويضمّ اختصاصات إدارة الأعمال والهندسة والمعلوماتيّة والمدنيّة. ومن ثمّ في العام 2009 أضيفت إليه كلّيّة العلوم التابعة للفرع الرابع في الجامعة اللبنانيّة في زحلة، غير أنّها ومنذ تأسيسها حتّى اليوم، لا يدرس فيها طلّابها إلّا سنة واحدة فقط من الاختصاصات الخمسة، علوم طبيعيّة، فيزياء، كيمياء، رياضيّات وعلوم الكمبيوتر، ومَن أراد متابعة دراسته الجامعيّة فعليه التوجّه إمّا إلى زحلة أو إلى بيروت.
تعيش روان في بيروت منذ نحو ثلاث سنوات، بعدما تركت منزل العائلة في بعلبك لمتابعة اختصاصها في الصحافة، في الجامعة اللبنانيّة (الأونيسكو)، وتتنقّل في العطلة بين بعلبك وبيروت. تصرف روان ما يقارب 250 دولارًا في الشهر، وهو مبلغ تنفقه فقط لتأمين احتياجاتها الأساسيّة، بينما تبحث حاليًّا عن عمل لتستطيع متابعة الدراسة.
أمّا آ. ع. والّتي آثرت عدم ذكر اسمها، فانتقلت من بعلبك إلى بيروت في العام 2019، بعدما كانت تتنقّل بين بعلبك وصيدا في السّنوات السابقة، كي تنهي مرحلة الإجازة في اختصاص “علم النّفس” المتوافر في كلّيّة الآداب في صيدا. بعدها اضطرّت للانتقال إلى بيروت كي تكمل دراستها في مرحلة الماجيستر، فاصطدمت بالأزمة الاقتصاديّة. تؤكّد آ.ع. أنّها “اضطرّت إلى ترك الجامعة لأنّها لم تستطع التوفيق بين عملها وبين دوامها الجامعيّ، الذي يتطلّب حضورها ومتابعتها حوالي ثماني ساعات في اليوم”.
وتضيف: “أتيت إلى بيروت، واصطدمت بشقاء الحياة هنا. تنقّلت من عمل إلى آخر، وصارت لديّ خبرة كافية في بعض المجالات الّتي لم تكن بالحسبان. مرّت خمس سنوات، ولم أستطع حتّى الآن، متابعة دراسة الماجستير، فأنا أنفق نحو 400 دولار بالشهر، بين أجرة السّكن والطعام والشراب والاحتياجات الباقية. والآن أحاول أن أقتطع جزءًا من مصروفي من أجل الجامعة”.
في بعلبك- الهرمل تكاد تكون الجامعة اللبنانيّة غائبة عن المنطقة، ففي العام 2005 افتتحت بلديّة بعلبك فرع المعهد العالي للعلوم التطبيقيّة والاقتصاديّة، ومن ثمّ في العام 2009 أضيفت إليه كلّيّة العلوم التابعة للفرع الرابع في زحلة، غير أنّها ومنذ تأسيسها حتّى اليوم، لا يدرس فيها طلّابها إلّا سنة واحدة فقط.
في المحصّلة، إذا كانت مشاكل طلّاب الأطراف تتفاقم بين كلفة الانتقال ومشقّته، وبين الأكلاف المعيشيّة والاقتصاديّة الأخرى، وتثقل كاهلهم وتفوق قدرتهم عليها، فإنّ المشكلة الكبرى تتبدّى بالخلل الفادح بين المركز (العاصمة) وبين الأطراف (القرى والبلدات البعيدة)، وما يمثّله هذا الخلل من تفاوت في التقديمات، وأوّلها العلم والسكن والطبابة وغيرها، وهي شبه مفقودة في مناطق الأطراف.
وهذا يقودنا كذلك إلى انعدام مسؤوليّة السلطة تجاه مواطنيها، التي نعرفها ونحفظها عن ظهر قلب، وينطبق عليها ذلك المقطع من أغنية فيروز “الرعيان بوادي والقطعان بوادي”. لكنّنا لسنا قطيعًا وهم ليسوا رعاة، فحقّنا في العلم والحياة الكريمة مقدّس، وواجبهم أن يؤمّنوا ذلك. لكن ثمّة سؤال هو الأخطر، عن عدد طلاب المحافظات البعيدة الّذين اضطروا إلى ترك جامعاتهم أمام عجزهم عن الانتقال إلى بيروت، بسبب الضائقة الماديّة، ومن هو المسؤول عن مصير هؤلاء ومستقبلهم؟