طلال بدنايل وعصام الخيام.. شاعران حرّرا المحكيّة من عزلتها
حين نتكلّم عن الشعر المحكي اللبناني، هناك إسمان لا يمكنك تجاوزهما: طلال حيدر، وعصام العبدالله. الأول من بدنايل، البقاع، والثاني من الخيام، الجنوب، وكلاهما حمّل قصائده الخصوصية الجهويّة التي ينتمي إليها، فنلاحظ وضوح اللهجة الجنوبية، والبقاعية اثناء إلقائهما لتلك القصائد، بكثير من الثقة بالذات، واستناد واضح على التراث، حتى الديني منه، لتجد علي، والحسين، وفاطمة، وكربلاء، و”الندب”، وصولاً إلى الاحتفاء بالأصالة، بصوَر ناضحة بالخيل، والبنّ، والهال، وعبي القصب، عند طلال، والبحر والمراكب والقرميد والتفاح عند عصام.
لم يكن شعرهما “لبنانياً” بالمعنى الانعزالي للمصطلح، فحتّى باحتفائهما بالوطن، كسرا الحدود برهافة، وبساطة، لنقرأ في قصيدة “جبل عامل” لعصام العبد الله، أسماء أماكن، مثل حوران، الجولان، الشام… كما سوف نجد حماه، ومصر في قصيدة “قومي طلعي عالبال” لطلال حيدر.
بناء الكيان اللبناني
مع إرهاصات تشكُّل لبنان، كوطن، بهذه المساحة، والنظام الداخلي، جال البطريرك الياس الحويك على عواصم عدّة، أبرزها باريس، لتسويق طرحه حول ضرورة التوسع نحو جبل عامل، وطرابلس، وبشري، وبعلبك، والهرمل، وعدم الاكتفاء بجبل لبنان. بينما كان يستحصل على الموافقات هناك، كانت التظاهرات تعمّ الأرجاء في تلك الأطراف، وحتى بيروت، رافضةً الانضمام، أو التقوقع في هذا الكيان الضيق المسمى لبنان. جرت تسويات عديدة، ووعود كثيرة، ليستقر الرأي على هذه المساحة المقدرة بـ 10452 كلم مربع.
كان لا بد من الشروع في ورشة لصهر الأطراف بالمركز، ليبدأ التنظير التاريخي، والتفعيل الاقتصادي، والتشريع القانوني، مع أسماء مثل ميشال شيحا، ويوسف السودا، ثم شارل مالك، وسعيد عقل، وكان للفن الدور الأكبر لتسويق الفكرة اللبنانية، مع موسيقى ومسرح وأفلام الأخوين رحباني، وصوت فيروز وأداءها التمثيلي، كما صوت وديع الصافي، وحتى صباح.
أيضاً كان هناك دور كبير للإذاعة التي كانت المنبر الأول للترويج الدعائي للبنان، ثم كان تلفزيون لبنان الذي فتح ذراعيه للهجة اللبنانية، عبر البرامج، وعرض الأغنيات. حتى انهم في وقت ما، استغنوا عن المذيعة الأنجح ليلى رستم، لكونها مصرية.
الصوت الجبلي لا البيروتي
بين العتابا، والميجانا، والدلعونا، والزجل، كانت اللهجة اللبنانية خير إبرة لرتق المناطق بعضها ببعض، ولو اختلفت لهجة المركز عن الأرياف، والمفارقة هنا، أن اللهجة اللبنانية، لم تكن تلك المستخدمة على ألسنة أهالي بيروت، بعائلاتها الشهيرة مثل آل العيتاني، وشهاب، وسنّو، ومنيمنة، والحوت، ويمّوت، والجمل، وطبّارة… بل كانت اللهجة جبلية، وتحديداً المستخدمة في البلدات المسيحية، لا الدرزية.
مع الوقت، تبلورت لهجة لبنانية بيضاء، غير مناطقية، ولو ان أواخر الكلمات قد رُفِعَت لأسباب تسويقية، حيث كان من الضروري فهم اللهجة اللبنانية في الاغاني والمسرحيات، حين تُسمع وتُعرَض في باقي البلدان العربية.
لم يكن شعرهما “لبنانياً” بالمعنى الانعزالي للمصطلح، فحتّى باحتفائهما بالوطن، كسرا الحدود برهافة، وبساطة، لنقرأ في قصيدة “جبل عامل” لعصام العبد الله، أسماء أماكن، مثل حوران، الجولان، الشام… كما سوف نجد حماه، ومصر في قصيدة “قومي طلعي عالبال” لطلال حيدر.
سيرة الشعر المحكي
على أهمية الزجل، إلّا انه قد يتبع القافية، والتحدّي، والمديح في الأعراس، والرثاء أمام الجنازات، لتغيب اللمعة الابداعية الخلاقة الصافية، ومعها يغيب الشعر بمعناه العظيم، والنقي، والنبيل. مع إبن زحلة ميشال طراد كانت النقلة، حيث بدأ الزجل يأخذ الشكل الشعري، وهو ما تبلور أكثر مع الزحليّ الثاني سعيد عقل، ومعهما كان الرحابنة يطلقون عنان المخيلة لاجمل الصور بالمحكية اللبنانية، إنما بلهجتها المسيحية، إذا ما أردنا التدقيق بالجوهر.
كان للبيروتي المبدع عمر الزعنّي مونولوجاته المغناة بالمحكية البيروتية، لكنه لم يدخل، أو يدخلوه في عملية تركيب “بازل” الفكرة اللبنانية، بنموذجها المستحدث، كما لا يمكننا وصف مونولوجات “موليير الشرق” بأنها مشروع أدبي، شعري، قادر على أن يكون رافعة لمشروع لساني خاص، وكبير.
بين العتابا، والميجانا، والدلعونا، والزجل، كانت اللهجة اللبنانية خير إبرة لرتق المناطق بعضها ببعض، ولو اختلفت لهجة المركز عن الأرياف
هكذا نعود إلى الجنوبي (البيروتي) عصام العبدالله، والبقاعي (البيروتي) طلال حيدر، لنحكي براحة، وجديّة، عن حالة راسخة، تتخطى الانزياح، لتكون بذاتها شكلاً آخذاً ومعطياً. مستفيداً من التجارب السابقة، ومفيداً تلك اللاحقة. إذ تبلور الصوت، والخط، والخلفية الثقافية، لنقول: إنها قصيدة عصام. إنها قصيدة طلال.
طلال “المجنون”
وُلد طلال حيدر في بعلبك، بتاريخ الثاني والعشرين من آب 1937. كان خامس إخوته الستة. عمّه هو الشاعر جودت حيدر الذي تميّز بأنّه الشاعر اللبناني الوحيد الذي كتب الشعر باللغة الإنجليزية في زمنه.
تلقى طلال تعليمه في مدرسة المطران، وكان والده إسكافياً، إضافةً لكونه من أصحاب الأراضي الكبرى في بعلبك، إلّا أنّه باعها ليودي بعائلته إلى حياة الفقر، وتضطر تلك العائلة إلى الانتقال لمدينة طرابلس عام 1948 ليعمل إخوته برفقة عمه جودت هناك.
درس طلال حيدر الفلسفة في الجامعة اللبنانية، وتابع تعليمه في السوربون الفرنسية، ليعود بعدها ويمتهن التدريس في لبنان..
عاش حياته متنقلًا، فقضى عشر سنواتٍ في إيطاليا وخمسة عشر في بعلبك ومدةٌ في بيروت والخليج.
استلم مهماتٍ عديدة في الصحافة، فقد عمل في صحيفة “النهار العربي والدولي”، كما أدار مجلة “الظفرة” في أبو ظبي و”المنبر” في باريس وغيرها من الصحف كـ “الموقف العربي”.
انتقل إلى التمثيل المسرحي، وشارك في فيلم “الصبر”، كما كتب العديد من السيناريوهات كسقوط الأندلس، ويظهر تعلقه بالمسرح الراقص لفرقة كركلا من خلال مشاركته معهم بالعديد من المسرحيات الغنائية كمسرحية “فرسان القمر”.
من دواوينه: “بيّاع الزمان” و”آن الأوان”.
غنّت فيروز من قصائده، وكذلك وديع الصافي، ومارسيل خليفة، وأميمة الخليل.
قال عنه غسان تويني: “اثنان أتيا من بعلبك، أحدهما مجنون ويريد أن يتمثّل بالعاقل، وهو رفيق شرف، والآخر عاقل ويريد أن يتمثل بالمجنون وهو طلال حيدر”.
عصام “الإله”
من الصعب أن يتجاوز أي خياميّ للخيام، حتى لو ولد في أنطلياس في العام 1941 كما حصل مع عصام، الذي عاش الثقافة المدينية، وانغمس في التعليم، والعقائد القومية، واليسارية، والمظاهرات المطلبية، والهتافات المحملة بالرفض، والغضب. ليهدأ الصوت شيئاً فشيئاً، ويتمدد الشعر، ويستقر على الشكل اللبناني المحكي، الذي فسّره عصام قائلاً: “كتابتي باللغة المحكية أتت من شعوري بأن أحداً ما يريد سحب لبنان من تحت قدمي، كانت انتقامًا من موقفي العروبي والأممي الذي كان يعني تجاهل الانتماء الوطني”.
اصدر العبدالله ثلاثة دواوين، أوّلها “قهوة مرّة” في العام 1982، وثانيها “سطر النمل” في العام 1994، والثالث والأخير كان “مقام الصوت” في العام 2009. بعض قصائد عصام مغناة بأصوات مثل مارسيل خليفة، وأحمد قعبور، والصوت لعبة الخيامي الأثيرة، إذ أرفق جميع دواوينه بتسجيلات لمضامينها، بمرافقة موسيقى وعزف زياد الرحباني.
مارس العبدالله التعليم لسنوات، وكتب في الصفحات الثقافية، وقد أعدّ الكثير من البرامج الاذاعية، وقدّم بعضها، كما أعد برامج تلفزيونية.
منذ الثمانينيات، أخذت قصيدة عصام شكلها، وعمقها، وبنت خصوصيتها، حتى قال عنه سعيد عقل “إله الشعر”.
وتدان لخيمة ممزّقة
بعد مرور أكثر من 100 عام على تأسيس دولة لبنان الكبير، بكفّة ميزانه الراجحة مارونياً، ثمّة أمور كثيرة تغيّرت، بعضها شكّلته أحداث 1958، والبعض الآخر طحنته الحرب الأهلية سنة 1975، ثم كان الاجتياح الاسرائيلي، 1982، واتفاق الطائف 1989، وتحرير الجنوب في العام 2000، واغتيال رفيق الحريري 2005.
في الموازاة، شهد الوطن الوليد زحمة ايديولوجيات، بعضها قومي لبناني، وبعضها قومي سوري، وقومي عربي، وأممي. ثم كانت الاحزاب الدينية التي تستبطن نكراناً لفكرة الأوطان من أساسها. بالنسبة لمحطات التلفزيون، فقد صاروا عشر محطات، وأكثر منها من الاذاعات، وغابة من المواقع الإلكترونية، وإعلام بجميع الألوان، وأناشيد ممجّدة بهذا الزعيم وذاك.
أمام كل هذا، نسأل: هل ثمّة مكان ومكانة للشعر؟ لنجيب بـ نعم. فالشعر لغة، وفكرة، وروح افتراضية لجسد الأمّة، وفي مرحلة ما، كانت المحكية اللبنانية، جزء من فلسفة انعزالية، فتحرّرت من عصبيتها الضيقة، مع شاعرين من الأطراف، هما طلال وعصام، ليكونا وتدين لهذه الخيمة المتراقصة مع ريح الداخل، وعصف الخارج.