طلال سلمان.. إبن الشاويش الذي عاد إلى شمس شمسطار وثلجها
كان من حسن طالعه أن يولَد في بيت ابراهيم أسعد سلمان، الشرطي الذي خدمَ في العديد من المحافظات اللبنانية، مصطحباً معه أفراد عائلته، فكان طلال بقاعياً في سنة، وجنوبياً في سنة، وطرابلسياً في سنوات. هي الفرصة الذهبية للطفل طلال، المولود في شمسطار، في العام 1938، ليتعرف على هذا البلد الصغير، كمراقب، يتلصّص على بعض العادات هنا، والصلوات هناك، ولا ينسى ترصّد اللكنات، وتعابير الأجسام، كأنه صحافي غير رسميّ، يسجّل كل ما تقع عليه حواسه، حتى يأتي ذلك اليوم الذي سيدخل فيه عالم الصحافة كمدقق لغوي في صحيفة “النضال”، ليخطّ بعدها سطوره الأولى في “الشرق” دون بدل مادّي.
استكمل طلال سلمان (صاحب الزاوية اليومية في جريدته السفير على الطريق) مسيرته في صحف عدّة، قبل أن يستقرّ في “الحوادث”، حين كانت في أوج تأثيرها، مع كتيبة “المقاتلين” بقيادة سليم اللوزي، ومشاكسة شفيق الحوت. بعدها عمل مع رياض طه، ومن ثم ذهب إلى الكويت في العام 1962، ليؤسس مجلة “دنيا العروبة”، ليعود بعد أقل من سنة إلى بيروت ليتولّى تحرير مجلة “الصياد”، ثم إلى “الأحد”، وبعدها “الأنوار”، وهي الفترة التي سمحت له بالتقاطع مع الملوك والأمراء، والرؤساء العرب.
اتسعت دائرة علاقات طلال سلمان منتصف الستينيات، نحو أسماء وازنة في المشهد النضالي، والثوري في العالم، على خلفية هزيمة 1967، حيث لمع نجم الفدائي، وخفت نجم جمال عبد الناصر. مرحلة مفصلية عاينها سلمان عن قرب، فانتبه للمتغيرات السياسية، والاقتصادية، في الكثير من البلدان التي تبلور مشروعها، واتضح نظامها.
شمسطار في الوجدان
لم يجلس طلال سلمان على مقاعد الجامعة، مكتفياً بصفّ الثانوي الأخير، هو المثقّف الذي عرف كيف يتحكّم بقلمه، مطيّعاً حبره في خدمة المؤسسة الصحافية في حين، وفي خدمة قناعاته في أحيان. كانت المسؤولية ثقيلة على كتفيّ ذلك الشاب النحيل، وذلك على خلفية الأوضاع الاقتصادية داخل العائلة، فأجبرته الظروف على خوض التحديات، لينام في مراحل عند أقاربه في الشياح، أو يلتحق بمسكن عند ناحية ثانية من ضواحي بيروت، ثم “يتورّط” دون قصد في قضية الجزائر وثورتها، فيتم سجنه ومحاكمته على مدى أسابيع في بيروت.
على الرغم من كل هذا، عرف طلال كيف يسرق الوقت، ليشاهد الأفلام في سينمات العاصمة، ويشتري الكتب والصحف بشغف المثقف، ونهم الجائع، فقطع المراحل في زمن قياسي.
كل هذا، وشمسطار لم تغادر وجدانه، فكان يتذكرها بأصفرها الصيفي “الصحراوي”، حيث تلمع صخور الجرد، ثم يعود ويتخيّلها بثلجها الشتويّ، حين يطرق الأبيض بابها لمرّات في الأشهر القارصة. لم ينسَ ذلك الفتى كروم بلدته القابعة على السفح الشرقي لجبل صنّين، المطلّة على سهل البقاع، البعيدة عن بيروت مسافة 75 كلم. شمسطار البلدة التي كانت عاصمة لبلدات عديدة في الزمنين البعيد والقريب.
لم تغادر شمسطار وجدانه، فكان يتذكرها بأصفرها الصيفي “الصحراوي”، حيث تلمع صخور الجرد، ثم يعود ويتخيّلها بثلجها الشتويّ، حين يطرق الأبيض بابها لمرّات في الأشهر القارصة
في طفولته، تسلّق طلال أشجار الكرز، والمشمش، والدراق، كما راشق أكواز الصنوبر العالية، ولعب في حواري البلدة الضيقة، وساهم مثل أترابه في جمع الحطب الذي يحتاجه كل بيت حين تنخفض الحرارة في البلدة التي ترتفع أكثر من 1200 متراً عن سطح البحر.
ممّا اختزنه طلال من هاتيك الأيام، الدبكة البعلبكية، بكل ما تحمله من قوّة، ومرونة، فكان يسترجع ذكراها مع كل عرس يحضره، فلا يبخل من المشاركة في ذلك الطقس الشعبي المرتكز على تشبيك الأصابع، وتوحيد ضربات الخطى. أمّا في الغناء، فقد انحاز طلال سلمان إلى أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وكل صوت يرافقه التخت الشرقي، كمعيار على انتهاج الطرب سبيلاً.
السفير
لطالما خطّط سلمان لخوض معترك الصحافة ضمن مشروع خاص، ليكون سيّد حبره، أو في أقرب نقطة من تطلعاته العروبية، فكان أن جمع مبلغاً من المال، أكمله بمبلغ آخر من العقيد الليبي معمر القذافي، وهو ما رواه سلمان في أكثر من مناسبة.
حملت السفير شعارين أساسيين: “صوت الذين لا صوت لهم”، و”صوت لبنان في العالم العربي وصوت العالم العربي في لبنان”. وكانت هناك اقتباسات يومية للزعيم المصري جمال عبد الناصر في الصفحة الاخيرة من الجريدة.
اعتمدت السفير الحمامة البرتقالية شعاراً لها، وهي من تصميم الفنان المصري الكبير حلمي التوني، بينما رسم الصفحات رسام الكاريكاتور المصري محيي الدين اللباد، وكانت هناك بين الصفحات أقلاماُ كثيرة لكتّاب فلسطينيين، وسوريين، ومصريين، إضافة إلى اللبنانيين. كانت السفير عروبية، موشاة بأقلام ماركسية، وقلة من القوميين السوريين، وليس خافياً على أحد أنها مثل جميع الصحف اللبنانية، كانت تصيغ بعض أخبارها على إيقاع الجهات الداعمة، ولو أننا نسجل لسلمان تغاضيه عن مقالات يومية كانت تتعارض وتوجهاته، وهو ما يشهد به مسؤول القسم الثقافي في الجريدة، الأديب عباس بيضون، إذ يقول بأن سلمان لم يفاتحه يوماً في مسألة تغريده المشاكس، والمعاكس لخطّ الجريدة، وداعميها.
كانت السفير عروبية، موشاة بأقلام ماركسية، وقلة من القوميين السوريين، وليس خافياً على أحد أنها مثل جميع الصحف اللبنانية، كانت تصيغ بعض أخبارها على إيقاع الجهات الداعمة
كانت “السفير” حزباً بذاتها، فنالت ما نالته من عبوّات الحرب، حيث تم تفجير مطابعها، ثم كانت محاولة اغتيال طلال سلمان 1984. في أروقة الجريدة كان طلال صاحب طريقة، ببابه المفتوح، والفرص التي يمنحها للمواهب الشابة، والعناوين التي ترنّ، ما أن تتصدر المساحة العلوية من الصفحة الأولى.
إغلاق الباب
لكن طلال، وفي لحظة مفصلية، قرّر اغلاق الصفحات على حبرها. هكذا بكامل وعيه، لم يتورط في لعبة التوريث، فكان هو رئيس تحريرها الأول، ورئيس تحريرها الأخير. لقد فعلها بعد 43 سنة من زمن التأسيس. ولم يتوقف عن الحضور إلى مكتبه كل يوم كما هي عادته. هذه المرة الوقت أكثر طولاً لمناكفة الاصدقاء، وتجاذب الآراء. مدّد أوقات ضحكاته، هو المعروف بنكتته السريعة، وبديهته التي تقدح دون خذلان. لكن المرض، كان يتسلل أيضاً إلى جسد ذلك الرجل، الذي عاد نحيلاً في آخر أيامه، بعضه في المكان، عند الطرف الجنوبي من شارع الحمرا، والبعض الآخر راح يتحضر ببطء لرحلة العودة الأبدية إلى شمسطار، حيث ستلفحه الشمس كثيراً، ويقرصه البرد أكثر.