طلّاب لبنانيّون نازحون من سوريا بلا مقاعد يواجهون المجهول

مع اندلاع الأحداث في سوريا مطلع كانون الأوّل 2024 وسقوط النظام فيها، شهدت القرى الحدوديّة المتداخلة بين لبنان وسوريا موجة نزوح جديدة، شملت عائلات لبنانيّة كانت تقيم في عديد من القرى منها: زيتا، مطربا، حاويك، السماقيّات، بلوزة، الصفصافة، سقرجا، الفاضليّة، أكوم، المصريّة، البجاجيّة، الجنطليّة، أبو حوري، الحمام، جرماش، الديابيّة، السويديّة، حوش السيّد علي وقبش. هذا النزوح القسريّ حرَم عشرات الطلّاب اللبنانيّين من مواصلة تعليمهم، وسط غياب حلول واضحة حتّى اليوم، مع اقتراب انطلاق العام الدراسيّ الجديد.
الحلّ الوحيد الذي قدّمته وزارة التربية في هذا الصدد هو القرار رقم 21 الصادر عن مجلس الوزراء بناءً على طلب الوزارة، والذي يتعلّق بترشيح الطلّاب اللبنانيّين وغير اللبنانيّين في الصفّ الثالث ثانويّ فقط، بعد التثبّت من تسلسلهم الدراسيّ.
إلّا أنّ وزارة التربية قامت لاحقًا بتمرير ترشيح الطلّاب اللبنانيّين فقط وفق هذا القرار، إذ تمّ رفض ترشيح السوريّين من النازحين الجدد ومنعهم من المشاركة في الامتحانات الرسميّة لعدم حيازتهم المعادلات المطلوبة. وقُبل ترشيح الطلّاب اللبنانيّين مع تعليق نتائجهم حتّى يتمّ استكمال المعادلة اللازمة.
إشكاليات تسجيل الطلّاب النازحين
بحسب التعميم رقم ثمانية الصادر في العام 2001 في عهد وزير التربية آنذاك عبد الرحيم مراد، وقضى بإعفاء التلامذة القادمين من الخارج من إجراء المعادلة حتّى صفّ السادس ضمنًا، شريطة أن تقوم المدرسة بإجراء امتحان تقييميّ يتناسب مع عمر التلميذ وصفّه، بدأت بعض المدارس الرسميّة باستقبال التلامذة اللبنانيّين النازحين.

في حديث إلى “مناطق نت” يشير الأستاذ والمنسّق التربويّ في الهرمل حسين ناصرالدين، إلى أنّ “إحدى المدارس سجّلت حوالي 32 طالبًا ضمن هذه المرحلة، وذلك بعد رفع كتاب يتضمّن الامتحان التقييميّ للتلامذة مع تحديد الصفّ الذي يُسمح لهم التسجيل فيه، إلى المنطقة التربويّة في البقاع”.
وفي ما يخصّ تلامذة الصفّين الثامن والتاسع، الذين لم يشملهم أيّ تعميم رسميّ، فلا يزال مديرو المدارس في حال تخبّط، وسط غياب أيّ قرار واضح بشأنهم. ويشير ناصرالدين إلى أنّ “جزءًا كبيرًا من هؤلاء التلامذة، ممّن هم في الصفّ الثامن الأساسيّ تمّ تسجيلهم في الصفّ السابع، ما يعني خسارتهم عامًا دراسيًّا كاملًا. ومع ذلك، وبمجرّد حصولهم على شهادة الصفّ السابع من المدرسة اللبنانيّة، سيتمكّنون لاحقًا من تبرير أوضاعهم التعليميّة”.
شروط تعجيزيّة
في ظلّ تخبط الطلّاب النازحين، وضعت وزارة التربية شروطًا صارمة للتسجيل، تهدف إلى تنظيم العمليّة التعليميّة وضمان استيفاء المتطلّبات الرسميّة.
في هذا السياق، يشرح الأستاذ علي شفيق مرتضى، عضو مجلس نقابة المدارس الخاصّة في الأطراف ويتابع ملف الطلّاب اللبنانيّين النازحين، في حديث إلى “مناطق نت” أنّ على “الطالب النازح تأمين إفادات مدرسيّة وعلامات للصفوف السابقة بحسب التسلسل الدراسيّ، مصدّقة من وزارة التربية السوريّة، والخارجيّة السوريّة، ومن السفارة اللبنانيّة أو السوريّة، وأخيرًا الخارجيّة اللبنانيّة. بالإضافة إلى ضرورة الحصول على وثيقة حركة دخول وخروج من الأمن العام اللبنانيّ”.
صقر: هناك حوالي 11 ألف طالب نازح لبنانيّ من مختلف المراحل الدراسيّة، من الروضة حتّى الجامعة
إنّ كلّ ما ذكره مرتضى يدخل في خانة الشروط التعجيزيّة، إذ إنّ بعض هذه الإفادات يصعب الحصول عليه من داخل سوريا. ومن جهة أخرى، لا يمتلك هؤلاء الطلّاب وثائق دخول وخروج رسميّة من الأمن العام اللبنانيّ، إذ كانت تحرّكاتهم تتمّ عبر الحدود المفتوحة والمعابر غير الرسميّة بين البلدين. وفي هذا السياق يطالب مرتضى بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء يعفي هؤلاء الطلّاب من شرط الدخول والخروج.
مستندات ممنوعة في لبنان
وفي حين تمكّن بعض النازحين اللبنانيّين من الحصول على أوراق مطلوبة من الداخل السوريّ، إمّا عبر المعارف أو من خلال “تجّار الأزمات” الذين يؤمّنون أيّ مستند مقابل مبالغ ماليّة طائلة ربّما تصل إلى 200 دولار أو أكثر، وهي أرقام تفوق قدرة معظم اللبنانيّين النازحين. في المقابل، يستحيل على آخرين، ولا سيّما الطلّاب الجامعيّين والمتخرّجين من الأطبّاء والمتخصّصين والمهندسين، الحصول على هذه الوثائق، إذ تحذّر السلطات السوريّة من خروج أيّ مستند من هذا النوع إلى الداخل اللبنانيّ. وهكذا، يجد الطلّاب الجامعيّون أنفسهم أمام صعوبات كبيرة في تأمين المستندات والمعادلات المطلوبة.
وفي هذا السياق، يوضح مرتضى أنّ وزيرة التربية رفضت عديدًا من طلبات الترشيح “بحجّة عدم استيفاء الشروط، أو غياب التسلسل الدراسيّ السليم، أو عدم تصديق المعادلة، وغيرها من الأسباب المشابهة”.
11 ألف طالب نازح
وبحسب المحامي حسن صقر، مسؤول الملفّ التربويّ في القرى الحدوديّة، أنّ هناك حوالي 11 ألف طالب نازح لبنانيّ من مختلف المراحل الدراسيّة، من الروضة حتّى الجامعة. ويتابع صقر: “إذا استثنينا الطلّاب الذين تمّت تسوية أوضاعهم من الروضة حتّى الصفّ السادس ضمنًا، والذين يشكّلون نحو ثلثي العدد، يبقى ثلث عدد هؤلاء الطلّاب، هم بحاجة إلى تسوية أوضاعهم، بينهم نحو 200 طالب جامعيّ من القرى الحدوديّة”.
ويلفت صقر إلى أنّه يتابع هذا الملفّ مع عضو لجنة التربية النيابيّة، الدكتور إيهاب حمادة، إلّا أنّه حتّى اليوم لم يتمّ التوصّل إلى حلّ، ولا يوجد تجاوب واضح من قبل وزارة التربية.
شهادات حيّة
من بلدة زيتا الحدوديّة، تروي السيّدة سمر مدلج معاناتها ومعاناة أبنائها الأربعة. ثلاثة منهم- في الروضة، الصف الثالث، والصفّ الخامس الأساسيّ- تمّت تسوية أوضاعهم وتسجيلهم بسهولة في متوسّطة الهرمل الرسميّة الأولى. لكنّ ابنها الرابع، الطالب في الصفّ الأوّل الثانويّ، ما زال ينتظر صدور قرار من وزارة التربية يشمله ويتيح له التسجيل، ليضع حدًّا لحال الانتظار التي تعيشها الأسرة.
مدلج نفسها متخرّجة إعلام وصحافة من إحدى الجامعات السوريّة، وعندما حاولت في لبنان معادلة شهادة البكالوريا ثمّ شهادتها الجامعيّة، طُلب منها سند إقامة يستحيل تأمينه في ظلّ الظروف الراهنة، إضافة إلى ضرورة تقديم وثيقة حركة الدخول والخروج من الأمن العام اللبنانيّ.
سمر مدلج: أواجه صعوبة كبيرة في الحصول على المستندات والمعادلات وإفادات المدارس
تقول مدلج لـ “مناطق نت”: “أواجه صعوبة كبيرة في الحصول على المستندات والمعادلات وإفادات المدارس، فمدرسة زيتا مثلًا أُحرقت وضاعت معها عديد من الأوراق، بينما تبقى إمكانيّة الحصول على الإفادات من دمشق أسهل نسبيًّا مقارنة ببقيّة المناطق، ولا سيّما حمص وريفها”.
تهديدات على مشارف التخرج
حكاية سمر مدلج ليست سوى واحدة من مئات القصص المشابهة. يروي أحد أبناء القرى الحدوديّة معاناة ابنه، الطالب في كلّيّة الطبّ. يقول: “كان ابني على وشك التخرّج ولم يتبقَّ أمامه سوى خطوة واحدة: مناقشة رسالته، وهي إجراء لا يستغرق أكثر من ربع ساعة، ليحصل بعدها على شهادته. لكن، عند تحديد موعد المناقشة، تلقّى تهديدات من داخل الأراضي السوريّة تحذّره من العودة إلى هناك”.
هذا الطالب، الذي بات طبيبًا بلا شهادة، حاول مرارًا إقناع إدارة جامعته في سوريا للسماح له بمناقشة الرسالة عن بُعد، إلّا أنّ طلبه قوبل بالرفض، مع الإصرار على حضوره شخصيًّا.
بين وزارة اليوم والأمس
في هذا السياق، يشدّد مرتضى على ضرورة تحرّك وزارة التربية والتعليم في لبنان بشكل فاعل لمتابعة هذا الملفّ، “بل ويجب أن تستنفر جهودها من أجل هؤلاء الطلّاب، خصوصًا الأطبّاء الذين يحتاجهم الوطن”.
ويتابع: “التنسيق بين الحكومتين اللبنانيّة والسوريّة، سواء عبر وزارة التربية أو السفارات، ضروريّ لإيجاد حلول عمليّة. كذلك على مجلس الوزراء إصدار قرار يسمح لهؤلاء الطلّاب باستكمال دراستهم في الجامعة اللبنانيّة، كما حدث في بداية الأحداث السوريّة العام 2011”.
ويستعيد مرتضى مراحل سابقة كانت تواكب خلالها وزارة التربية أزمات الطلّاب اللبنانيّين في محطّات عدّة، وتُصدر المراسيم والقرارات والتعاميم اللازمة لمعالجتها.
من هذه الأزمات والأحداث يذكر مرتضى: أزمة الطلّاب العائدين من أبيدجان بعد الانقلاب العسكريّ، وأزمة الطلّاب في أوكرانيا إثر الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة، مرورًا بأزمة الطلّاب في سوريا في العام 2011 مع اندلاع الأحداث الأمنيّة، حيث صدرت عشرات المراسيم والقرارات والمذكّرات، وصولًا إلى أزمة الطلّاب اللبنانيّين المرحّلين من دول الخليج لأسباب مختلفة.
أمّا اليوم، فيقول مرتضى: “أقصى ما قامت به الوزارة هو إصدار القرار رقم 21 المتعلّق بطلّاب الصفّ الثالث ثانويّ”.