ظلال الحرب المتربصة بيومياتنا.. متى نستعيد الأمان؟
كم نحتاج من الوقت كي نتعافى من ويلات الحرب ومآسيها وما تركته من ندوب نفسيّة واجتماعيّة عميقة، وقبل ذلك ما خلّفته من ضحايا ودمار. وعلى الرغم من أنّ القسم الأكبر من الناس عادوا إلى منازلهم، إلّا أنّ الخوف يأبى أن يغادر، ما زالت أصوات القصف والغارات التي تردّد صداها طيلة 66 يومًا تطارد الناس حتّى في أحلامهم.
اليوم، وفي ظلّ الخروقات الإسرائيليّة المتواصلة لاتّفاق وقف إطلاق النار، يبقى السؤال هل انتهت الحرب فعلًا؟ أم أنّها مجرّد استراحة بين حروب لا تنتهي؟ ومع السؤال تعود المخاوف لتتجدّد خشية اندلاع الحرب مرة أخرى، ومعها ندخل في دوّامة القلق وفقدان الأمان من جديد.
لم تنسَ ز. الجاروش الطفلة ابنة علي النهريّ وتبلغ من العمر ثماني سنوات صوت القصف، على رغم عودتها إلى المدرسة منذ أيّام قليلة، ما زالت تحمل في ذاكرتها الصغيرة مآسي الحرب. في المساء عندما تسمع أصواتًا عالية، يغالبها الخوف وكأنّ الحرب لم تنتهِ بعد. وعندما يحلّق الطيران الحربيّ في الأجواء، تعود بها ذاكرتها إلى ليالي الخوف الطويلة التي أمضتها مع عائلتها أيّام النزوح. وعلى الرغم من محاولات والديها طمأنتها وإعادة بناء إحساسها بالأمان، بيد أنّ زينب لا تزال تعيش في ظلال الحرب، غير قادرة على الانفصال عن ذكرياتها الثقيلة.
هجرة طلبًا للأمان
بحثًا عن الأمان والاستقرار وبعد أن دمّرت الحرب عديدًا من بيوت بلدة علي النهريّ حيث يقيم، قرّر “أبو علي السيّد” وعائلته الهجرة إلى إفريقيا. الأب، لم يرَ بديلًا سوى الهجرة، بعدما أصبحت العودة إلى أرض الوطن محفوفة بالمخاطر. يقول أبو علي في رسالته إلى أحد أصدقائه في لبنان: “لا يمكنني أن أُعرّض أطفالي للمجهول مرّة أخرى. هنا في إفريقيا، لدينا سقف يؤوينا، ومدرسة قريبة لأطفالي، وفرصةً للبدء من جديد بعيدًا من أصوات الصواريخ”.
قرار أبو علي لم يكن سهلًا، لكنّ الخوف من عودة العنف وفقدان الأمان، جعله يختار الرحيل الدائم، ليصبح وعائلته جزءًا من موجة النزوح التي فرّقت العائلات وغيّرت مصائرها.
على الجانب الآخر، تعيش س. المذبوح، امرأة ثلاثينيّة من إحدى القرى المتضرّرة في البقاع، حالًا من الترقّب الحذر. تقول المذبوح لـ “مناطق نت”: “بدأت أتعافى تدريجًا من صدمات الحرب، لكنّني أشعر أنّ الطريق لا يزال طويلًا، فكلّ خرق للهدنة يعيدني خطوة إلى الوراء، ويُحيي الخوف الذي أحاول تجاوزه”. مع دخول اتّفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ لمدّة ستّين يومًا، تجد المذبوح نفسها في حال انتظار دائم: “كلّ يوم يمرّ من دون قصف يعطيني أملًا، لكنّ الخوف من أن ينتهي هذا الهدوء فجأة، يمنعني من الشعور بالطمأنينة”.
خوف من الحاضر
تجمع هذه القصص بين الخوف من الحاضر والقلق من المستقبل، وتُظهر كيف تستمرّ الحرب في رسم معالم الحياة اليوميّة للبنانيّين، سواء من اختار منهم الرحيل أو البقاء، أو من يكافح لاستعادة شعور الأمان.
تقول لينا صبرا المديرة التنفيذيّة لجمعيّة “سلامة”، “إنّ الحرب تركت أثرًا واضحًا على العلاقات الاجتماعيّة في المناطق المتضرّرة، إذ شهدت بعضها تزايدًا في الترابط والتعاطف بسبب الصدمات الجماعيّة التي عاشها الناس معًا، بينما عانت مجتمعات أخرى من توتّرات وانقسامات اجتماعيّة”. تتابع صبرا لـ “مناطق نت”: “إنّ التجارب الصادمة تؤثّر بشكل كبير في تواصل الأفراد بعضهم مع بعض، إذ يميل بعضهم إلى الانعزال أو يصبحون أكثر حساسيّة وسلوكًا دفاعيًّا”. وتلفت “إلى أنّ إعادة بناء الثقة بين أفراد المجتمع تتطلّب وقتًا وجهودًا جماعيّة، خصوصًا في ظلّ تغيّر أولويّات الناس ممّن يركّزون بعد الحرب على البقاء وإعادة بناء حياتهم”.
تجمع هذه القصص بين الخوف من الحاضر والقلق من المستقبل، وتُظهر كيف تستمرّ الحرب في رسم معالم الحياة اليوميّة للبنانيّين، سواء من اختار منهم الرحيل أو البقاء، أو من يكافح لاستعادة شعور الأمان.
توضح صبرا “أنّ النازحين يواجهون تحدّيات متعدّدة عند العودة إلى مناطقهم، تبدأ من دمار المنازل والبنية التحتيّة، مرورًا بفقدان الوظائف والمصادر الاقتصاديّة، وصولًا إلى التحدّيات النفسيّة والاجتماعيّة”. وتشير إلى “أنّ تدمير المدارس والمستشفيات والأسواق يعرقل محاولات العودة إلى الحياة الطبيعيّة، بينما تزداد المخاوف من استمرار العنف أو خطر الألغام في بعض المناطق”.
رحلة التعافي
عن عمليّة التعافي تشير صبرا إلى “أنّ المجتمعات المحلّيّة يمكن أن تكون محرّكًا أساسًا في عمليّة التعافي، وذلك من خلال التعاون في إعادة بناء المنازل والبنى التحتيّة، وتنظيم ورش تدريب مهنيّ لدعم العاطلين عن العمل، ودعم التعليم للأطفال عبر مبادرات تطوّعيّة”. وتحدّثت صبرا عن “أهمّيّة تنظيم أنشطة ثقافيّة وفنّيّة لتعزيز الروابط الاجتماعيّة، بالإضافة إلى دعم الصحّة النفسيّة من خلال جلسات جماعيّة تقدّم الإرشاد والمساندة للمتضرّرين”.
مخاطر التدهور الاقتصاديّ
عن التدهور الاقتصاديّ الناتج عن الحرب، تشير صبرا إلى “أنّه يزيد من تعقيد الوضع، حيث تؤدّي البطالة والفقر إلى ارتفاع معدّلات التوتّر الاجتماعيّ، وقد تشكّل بيئة خصبة للنزاعات الجديدة”. وأكّدت “أنّ غياب الفرص الاقتصاديّة يدفع عديدًا من الشباب إلى الهجرة، ممّا يؤدّي إلى استنزاف الموارد البشريّة التي تحتاجها المجتمعات المتضرّرة للنهوض من جديد”.
وفي ما يتعلّق بدور الجمعيّات والمنظّمات المحلّيّة، تختم صبرا “إنّ هذه الجهات تقدّم دعمًا حيويًّا للنساء والأطفال، من خلال توفير المساعدات الإنسانيّة العاجلة وبرامج الدعم النفسيّ والاجتماعيّ”.
الشعور بالأمان
وردًّا على سؤال: كيف يمكن أن تؤثّر الحرب في الصحّة النفسيّة للأفراد؟ ترد الاختصاصيّة النفسيّة “في التدخّل الفرديّ والجماعيّ في الصدمات” ماري غرّة لـ “مناطق نت”: “إنّ الشعور بالأمان النفسيّ يُعدّ أساسًا ضروريًّا لتمكين الإنسان من العيش براحة، وتحقيق الإنتاجيّة، وبناء علاقات متوازنة وفعّالة مع مجتمعه”. وتؤكّد أنّ هذا الأمان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأمان الجسديّ، فكلاهما يشكّلان منظومة متكاملة تمنح الإنسان الإحساس بالاستقرار والطمأنينة”. وتتابع “عندما يكون الجسد محميًّا والمحيط آمنًا، يستطيع الفرد تحقيق التوازن في حياته اليوميّة والشعور بالسيطرة على الظروف المحيطة”.
وتلفت غرّة إلى “التأثير العميق الذي يمكن أن تتركه الأصوات العالية على الأفراد ممّن عاشوا تجربة الحرب”. وتوضح أنّ “بعض الأشخاص ربّما يجدون صعوبةً في التمييز بين الأصوات اليوميّة العاديّة وأصوات القصف التي اختبروها خلال النزاع. عندما يسمع الفرد صوتًا قويًّا، قد يستعيد ذكريات الحرب بشكل تلقائيّ، في تلك اللحظة، يعود الشعور بالخوف وكأنّ الخطر ما زال حاضرًا”.
وتتحدّث غرّة عن أنّ هذا “الربط بين الأصوات الحاليّة وذكريات الحرب يمكن أن يعزّز حالًا من التوتّر والقلق المستمرّ. قد يشعر الشخص بأنّه في خطر حتّى في مكان آمن، لأنّ الدماغ يعيد استحضار تلك اللحظات الصادمة من الماضي”. وتعتبر أنّ هذا النوع من الاستجابات “شائع بين من مرّوا بصدمات كبيرة، ويحتاج إلى تدخّل نفسيّ موجّه لتخفيف حدّته”.
غرّة: الربط بين الأصوات الحاليّة وذكريات الحرب يمكن أن يعزّز حالًا من التوتّر والقلق المستمرّ. قد يشعر الشخص بأنّه في خطر حتّى في مكان آمن، لأنّ الدماغ يعيد استحضار تلك اللحظات الصادمة من الماضي
وتوضح غرة “أنّ هذا التفاعل الدفاعيّ، على الرغم من ضرورته أثناء الأزمات، ينتهي تدريجًا مع انتهاء الحرب لدى معظم الأشخاص، إذ يستعيدون شعورهم بالأمان عند العودة إلى منازلهم والشعور بغياب التهديد. لكن بالنسبة إلى البعض، وخصوصًا من لديهم تجارب صادمة سابقة أو تعرّضوا لأحداث عنيفة خلال النزاع، قد يستمرّ الخوف والترقّب لفترات أطول”.
تغيّر الروتين اليوميّ للبنانيّين
أمّا عن التغيّرات التي أحدثتها الحرب في الروتين اليوميّ للبنانيّين. تشير غرّة إلى أنّ “الحياة اليوميّة تغيّرت بشكل كبير، ممّا أدّى إلى شعور عام بعدم التركيز وصعوبة في الإنتاجيّة”. وتقول: “خلال الحرب، فقد كثيرون القدرة على القيام بالأشياء التي كانوا معتادين عليها. ثمّة شعور بالضعضعة حلّ مكان الاستقرار، وقد اختلفت التأثيرات بحسب مدى قرب الأشخاص من الأحداث أو مدى تأثّرهم بها مباشرة”.
وتؤكّد غرّة “أنّ العودة إلى الروتين اليوميّ تُعدّ خطوة أساسيّة في استعادة الشعور بالتوازن النفسيّ”. وتشير إلى أنّ “العودة إلى الأنشطة الإيجابيّة مثل العمل، الرياضة، اللقاءات الاجتماعيّة، أو ممارسة الهوايات التي تمنح الإنسان شعورًا بالراحة والمتعة، تُعتبر أسلحة فعّالة للتخفيف من مشاعر الخوف والقلق والتوتّر”.
الأطفال وصدمات الحرب
أمّا عن كيفيّة مساعدة الأطفال ممّن يتعرّضون للصدمات نتيجة الحروب. ترى غرّة أنّ “الأهل والمحيط يجب أن يوفّروا بيئة آمنة للطفل، حيث يشعر بالقدرة على التعبير عن مشاعره وتجربته من دون خوف من الحكم أو الانتقاد. من المهمّ أن يشعر الطفل بالأمان عند التحدّث عن مشاعره”، مضيفةً أنّه “من الضروريّ أن نعترف بمشاعر الخوف والقلق، بدلًا من التقليل من شأنها أو تجاهلها”.
غرّة تشدّد على أهمّيّة عدم استخدام مصطلحات مثل “لا تخف”. وتوضّح أنّ الشعور بالخوف وعدم الأمان هو شيء طبيعيّ. وتردف “من المهمّ أن نشرح للطفل أنّ مشاعره طبيعيّة، وأنّه ليس وحيدًا في ما يشعر به. ينبغي تشجيع الأطفال على العودة إلى نشاطاتهم اليوميّة، مثل اللعب مع أصدقائهم والذهاب إلى المدرسة، لأنّ هذه الأنشطة تساعدهم في استعادة شعورهم بالأمان والتوازن”.
وتثني غرة على “أهمّيّة إشراك الأطفال في أنشطة تعبيريّة مثل الكتابة أو الرسم، حيث يمكن للأطفال الأكبر سنًّا التعبير عن مشاعرهم من خلال كتابة يوميّاتهم أو رسم ما يمرّون به. المهم هو أن نكون حاضرين ومستمعين لهم”. مشيرة إلى ضرورة مراقبة أيّ تغيّرات سلوكيّة قد تطرأ على الطفل، مثل العزلة أو التغيّرات في الأداء الدراسيّ أو اضطرابات النوم.
وتختم حديثها عن “أنّ الدعم النفسيّ والتوجيه الصحيح للأطفال في هذه الفترة الحاسمة يساعدهم في التعامل مع مشاعرهم والتعافي من آثار الحرب”.