عاشوراء وفلسفة اللون الأسود
ما أن يقترب الموعد السنويّ لذكرى عاشوراء، حتّى يزحف اللون الأسود على المدن والقرى ذات الحضور الشيعيّ في لبنان، من الناقورة إلى الطفيل في عمق السلسلة الشرقيّة، إلى لاسا في جبيل، وبنهران في الكورة، وزغرتا المتاولة… إنّه الأسود الكاسي للجدران، المتدلّي كرايات من الشرفات، وهو لون الثياب و”عصْبَات” الرؤوس (قطعة قماش سوداء تلفّ على الرأس بين الجبين والشعر). الأسود بمزيجه الروحي والسياسي يعطي الأمكنة هُويّته، ويتسيّد الوقت بصريًّا لأيّام عشرة وما بعدها، حيث تُستَكمَل المراسم والطقوس حتّى أربعينيّة الإمام الحسين، شهيد كربلاء، الذي خرج “للإصلاح في أمّة جدّه”.
التمدّد السريع
منذ واقعة الطفّ، والحزن شريك الحدث، يتماشى والدموع واللطم وتلاوة السيرة التي بدأت كقصائد قبل أن تصبح نثرًا، وتتبلور السرديّة بإضافات ومحذوفات يشكّلها العقل الجمعي، وكذلك المؤسّسة الدينيّة التي تشتغل على النصوص، إضافة إلى العناصر المواكِبَة مثل ارتداء اللون الأسود، الذي بقي لقرون عديدة مقتصرًا على النساء، بينما الرجال في ألوان ثيابهم المعتادة، قبل أن يحصل تفعيل واضح وفي وقت سريع، بدأت إرهاصاته أواخر ثمانينيّات القرن الماضي، لتصطبغ قمصان الرجال باللون الأسود، وأيضًا ثياب الأطفال والرضّع، وتوسّعت الرقعة السوداء من جدران الحسينيّات حتّى بعض الجدران والحواف وجذوع الاشجار واللافتات.
تغيير ماهيّة الأسود
هكذا خرج الأسود من خاصّيّته الأولى كلون يختزن سيميائيّة الحزن، ويتحوّل إلى وسيلة إجهار للعقل الشيعيّ الجمعيّ، بما يستبطنه من إعلان قوّة، كردّة فعل على تاريخ إسلاميّ بأكمله، لم يكن للشيعة فيه حضور يذكر، سوى في حالات قليلة كحقبة الحكم الصفوي.
لذلك في هذا الأسود شيء من إرث الحزن، وأشياء من إعلان الذات الجمعيّة، لنتنبّه إلى أنّ الحال انتقلت من ذلك البعد السيكولوجيّ الذي افترض أن الشيعة يبكون ويلطمون من عقدة خذلانهم لحفيد الرسول، حينما خرج في ثورته تلك، فلَم ينصره سوى بضع عشرات من الرجال، فكان الموت المحتَّم، لتبدأ تمظهرات الفجيعة الغاضبة، بثورة المختار الثقفيّ (سنة 66 هجريّة)، وما تلاها من حالات اعتراضيّة، منها مجالس العزاء، كنقاط التقاء أسود الحزن بأحمر الغضب.
تتدخّل السياسة من زمن لآخر ومكان لآخر، فيغلب الأسود هنا والأحمر هناك، فيظهر اليوم اللون الثالث، المتخفّف من إرث الحزن الأسود وانفعالية الغضب الأحمر نحو لون مستمدّ من اللونين، فيكونا لبّه، بينما قشرته مائلة إلى الأزرق البارد، بإدارة واعية للذات الجمعيّة، بتماهٍ أفقيّ من إيران والعراق ولبنان، (بتمظهر سياسيّ عسكريّ دينيّ)، كما في بلدان آخرى يتواجد فيها الشيعة (بتمظهر معنويّ مناصر، وداعم اقتصاديّ وإعلاميّ). هكذا خرج الشيعة من عقود الاضطراب السيكولوجيّ (خارج الحكم وعقدة التكفير عن ذنب الخذلان)، فأصبحوا اليوم شركاء المشهد الإسلاميّ العام بحضور وازن بالمعنى النسبيّ. أو ببساطة: حجزوا لأنفسهم كرسيًّا حول الطاولة.
خرج الأسود من خاصّيّته الأولى كلون يختزن سيميائيّة الحزن، ويتحوّل إلى وسيلة إجهار للعقل الشيعيّ الجمعيّ، بما يستبطنه من إعلان قوّة، كردّة فعل على تاريخ إسلاميّ بأكمله، لم يكن للشيعة فيه حضور يذكر
المكان في فقّاعة
نعود إلى الميدان، حيث الحسينيّة والشارع وامتزاجهما بعضهما ببعض، حتّى بالمعنى الفعليّ، حيث يتمّ إغلاق بعض الطرقات والأزقّة، وتتحوّل مراكز تلاوة المجالس والعظات الدينيّة والمواقف السياسيّة، ثمّ مشاركة الجميع باللطميّات التي يختتم بها المجلس يوميًّا.
عشرة أيّام يتماهى فيها الجموع مكانيًّا ولونيًّا وصوتيًّا، حيث تتكفّل آلاف الميكروفونات (ميكروفون: مذياع) المنتشرة على مدى المدن والقرى الشيعيّة، بخلق فقّاعة كاملة أو حقل موحّد جامع للكلّ، حتّى جماعات المذاهب الأخرى أو القناعات المختلفة. أنت هنا، أيّ أنّك جزء من مسام الصورة الكاملة التي تتشكَّل في هذه الأيّام المتعاقبة من شهر محرّم.
وجه تجاريّ
للأسود وجه تجاريّ لا بدّ منه، فالقمصان والرايات تحتاج إلى معامل خياطة ومطابع ومتاجر ألبسة وأقمشة، تنتظر هذا “الموسم” لتحقّق أرباحًا صافية من اللون الأسود على وجه التحديد، حتّى أنّ الماركات العالميّة الأصليّة والمقلَّدة باتت تُقدَّم بالأسود: بولو، نايكي، أديداس، لاكوست، بوما وغيرها، جميعها تخضع لقواعد السوق وسطوته، فيكون أسودها في خدمة المجالس الحسينيّة.
فيزياء الأسود
لطالما تغنّى العرب بالعيون السوداء وتغزّلوا بها، كذلك بالشعر الأسود، والجواد الأسود، ونسجوا القصائد في حلكة الليل. مع ذلك هو لون الحداد بالنسبة إليهم، كما غالبيّة شعوب العالم. فالأسود ليس ذروة الألوان القاتمة فحسب، بل له خاصيّة فيزيائيّة تمنحه هذا المركز المهيب بين الألوان، حتّى أنّه لا يُعتَبَر لونًا بمعنى من المعاني، “فتعريف اللون في علم الفيزياء هو ما ينتج عن امتصاص الأشعّة أو الموجات الضوئيّة، وانعكاس جزءٍ منها فقط، والجزء المنعكس يكون هو المسؤول عن رؤية لونٍ ما، فعندما نرى قميصًا لونه أحمر فهذا يعني أنّ الجسم قد امتصّ جميع الموجات الضوئيّة، وعكس الموجات ذات الطول الموجيّ الخاصّ باللون الأحمر، واعتبار اللون الأسود لونًا حقيقيًّا يعتمد على طريقة تعريفه حيث إنّه لا يعتبر في الفيزياء ضمن الألوان المادّيّة الحقيقيّة؛ لأنّ الألوان الفعليّة فقط هي التي تشكّل ألوان الطيف”.
يقول الباحث وسام طلال (“موضوع” 18- 02-2021): “أمّا اعتبار الأسود لونًا مضادًّا للأبيض فيعود ذلك إلى أنّ العين البشريّة ترى الأجسام بيضاء؛ بسبب عدم امتصاص أيٍّ من الموجات وإنّما عكسها جميعها، في حين أنّ رؤية العين البشريّة للّون الأسود يعود إلى أنّ طبيعة الأجسام السوداء تمتصّ جميع الموجات والأشعة ولا تعكس أيًّا منها”.
القوّة الكامنة
“إنّ اللون هو التعبير عن إرادة القوّة في المادّة. من خلال اللون تعبّر المادّة عن رغبتها في أن توجد، أن تكون”، تقول الكاتبة والرّسّامة إيتل عدنان، كنظريّة أخيرة لها قبيل وفاتها عن ستة وتسعين عامًا. “أريدك أن تسجّل ما سأقول” يروي الدكتور فوّاز طرابلسي صيغة الطلب أثناء زيارته لها في باريس، وكأنّها تريد تسجيل وصيّتها أمام مثقّف سيحفظ ويروي بأمانة ما تقوله. أجل، اللون هو التمظهر البرّانيّ لتلك القوّة الكامنة في المادّة، كأن عدنان في كلماتها تلك، تختصر (من دون أن تدري) علاقة الطائفة الشيعيّة باللون الأسود أو قوّتهم الكامنة في ذلك اللون.