عبد الحفيظ قاسم تشكيليّ انطباعي حاكت أعماله جماليّات البقاع

تعود المرّة الأخيرة التي التقيت فيها الصديق عبد الحفيظ قاسم إلى عقد ونصف العقد من الزمن، قبل نحو عام من رحيله إلى العالم الآخر. حدث ذلك مصادفة في محلّه التجاريّ الواقع عند مدخل مدينة بعلبك، في مكان غير بعيد عن المستديرة التي انتصب فيها، ذات يوم، تمثال للرئيس جمال عبد الناصر، وتمّ نسفه لاحقًا على أيدي “مجهولين”، وقبالة بيت تراثيّ جميل لا يسكنه أحد منذ سنوات طويلة.

كان عبد الحفيظ قاسم يجلس مسترخيًا في مؤسّسته التجاريّة، ذات الفرعين التي لا يديرها بنفسه، إذ تولّى ابنه أحمد، محبّ ولطيف المعشر، إدارة فرع منها، وأوكل إلى أبي رضا، صاحب الابتسامة المميّزة، إدارة الفرع الآخر. المؤسّسة مخصّصة لبيع جميع أنواع الدهان (الطلاء) ومستلزماته، والأدوات المنزليّة الكهربائيّة وسواها، ذات الصفات الوظيفيّة والزخرفيّة في آن.

تتناسب أنواع البضاعة من دهان ملوّن، ومصابيح قديمة الطراز أو حديثة حسنة التكوين والتصميم، مع سعي أبي أحمد إلى توخّي الجمال في جميع مظاهره، ولو أنّ الأمر يتعلّق هنا بلوازم منزليّة، وقد انتقلت هذه النزعة إلى نجله أحمد من بعده. لكن أبا أحمد، في حقيقة الأمر، كان يهوى الرسم منذ مدّة طويلة، وقد بلغ في امتلاك أسراره أشواطًا بعيدة خلال حياته.

فنّان علّم نفسه بنفسه

لم يدرس عبد الحفيظ قاسم الرسم في معهد أكّاديميّ. علّم نفسه بنفسه، وهو ما يُطلق عليه بالأجنبيّة تسميّة Autodidact. هذه الحال ليست نادرة ولا قليلة في عالم التشكيل، إذ ثمّة أمثلة كثيرة على ذلك، ولا ضرورة لتعدادها. ومن المعروف أنّ الأشخاص الذين يسلكون هذه الدرب يبذلون جهودًا تتجاوز جهود أولئك الذين يدرسون في المعاهد الفنّيّة، وخصوصًا حين تتوافر لديهم الرغبة والشغف والسعي إلى تطوير التقنيّات الذاتيّة. هذه الشروط كانت حاضرة لدى عبد الحفيظ قاسم، ويستدلّ على ذلك من خلال الاطّلاع على النتيجة العمليّة لهذا الجهد، وإلى التطوّر الملحوظ في أعماله، الحاصل مع مرور الزمن.

الفنان التشكيلي عبد الحفيظ قاسم

إلى ذلك، اقتنى أبو أحمد عديدًا من الكتب الفنّيّة، في زمن لم يكن الإنترنت من يوميّات الخليقة، والذي يمكن من خلاله، في الوقت الحاضر، الاطّلاع على أعمال فنّانين من مختلف الجنسيّات والتيّارات الفنّيّة، وخصوصًا ما يتعلق منها بالفنّ الحديث والمعاصر. كنّا نعلم، عبر علاقتنا المديدة مع الفنّان، أنّ الانطباعيّة، كتيّار أو إتّجاه فنّيّ، كان محطّ اهتمامه على الدوام. هذا الأمر يمكن للعارفين تلمّسه من خلال معاينة نتاجه، الذي قام بصناعته على مرّ السنوات. ارتبط الاهتمام بالتيّار الفنّيّ المذكور بما يُعتبر رديفًا له، وربّما أحد أبرز شروطه: الطبيعة. كانت علاقة عبد الحفيظ قاسم بالطبيعة مسألةً بديهيّة. أفادنا نجله أحمد، في هذا المجال، أنّه كان يحبّ طريق نحلة، وبلدة دورس، إضافة إلى بلدتي بوداي وفلاوي.

العلاقة بالطبيعة البقاعيّة

العارف بالأماكن المذكورة يدرك خصوصيّة كلّ منها. طريق نحلة لا تحوطها أشجار، ولا يُرى اللون الأخضر إلّاَ لمامًا. طبيعة شبه صحراويّة، ذات ألوان ترابيّة، تكتسب جماليّة خاصّة. ولطالما أولع الفنّانون، أو بعضهم على الأقلّ، بالصحاري وكثبان رمالها وسمائها اللامحدودة، أو بما يشبهها من أرض تفتقر إلى الخضرة بنسب متفاوتة.

بلدة دورس، يقع مسكنه بالقرب منها، لم يعد الهدوء يملأ أرجاءها كما في سابق عهدها، بفعل ازدياد عديد السكّان وتراكم المساكن التي تأويهم، لكنّ عبد الحفيظ عاصر تلك الفترة التي كانت البلدة خلالها تنعم بهدوء ودعة اختفت معالمهما في الوقت الحاضر. بوداي وفلاوي قريتان، أو بلدتان، تقعان عند سفح السلسلة الغربيّة لجهة الشرق، وتمثلّان نموذجًا للبلدات البقاعيّة المشرفة على السهل الفسيح، مع ما يمثله ذلك من إيحاءات وأفكار لمن يشاء اقتناص صور تصلح موادّ لقماشاته التشكيليّة.

من أعمال عبد الحفيظ قاسم

أقدم أبو أحمد على رسم المشهد الطبيعيّ في كلّ حين، ولدى أيّ فرصة متاحة. تنوّعت مشاهده بحسب الأمكنة والفصول، وجاء انعكاس الطبيعة البقاعيّة في أعماله متناسبًا، إلى حدّ ما، مع الواقع الموضوعيّ، من دون أن يسعى يومًا إلى محاكاته في شكل أقرب إلى النسخ. أضاف دائمًا شيئًا من ذاته إلى ما كان يفعله، وقد تُلحظ في بعض أعماله نزعة فطريّة. بعض لوحاته كانت لونيّة بامتياز، في حين اعتمد النمط الغرافيكيّ أحيانًا أخرى، وخصوصًا حين يكون المشهد ذا طابع مدينيّ.

حلم الرسم في الهواء الطلق

أمّا ذاك المشهد، الذي رأيناه لديه، المرسوم من زاوية مرتفعة معروفة في المدينة، وتبدو فيه بيوت وأشجار، وبقايا “أوتيل عربيد” المتهاوي، على خلفيّة الهياكل الرومانيّة، فيذكّرنا بعمل للفنان المجريّ المعروف تيفادار كوسزكا تشونتفاري الذي زار بعلبك، بداية القرن الماضي. رسم الفنّان المجري حينذاك اسكتشًا من منطقة مرتفعة من المدينة (هضبة ضهر الشير)، حيث يقوم معبد رومانيّ على اسم الإله ميركور، واستنادًا إلى هذا الاسكتش، عمد إلى رسم لوحة عملاقة، العام 1906، بعنوان “كنيسة الشمس في بعلبك”، وهي موجودة حاليًّا في متحف العاصمة الهنغاريّة بودابست.

سألت عبد الحفيظ، في إحدى المرّات، إن كان يتمنّى لو استطاع ممارسة ذاك التقليد الذي أطلقته الانطباعيّة، وهو الرسم في الهواء الطلق أمام المنظر الطبيعيّ مباشرة، وهو التقليد المسمًى Plein air. هذه التسمية الفرنسيّة راجت في معظم لغات العالم على النحو الوارد، وقد عمد فنّانون كثيرون إلى ممارسة هذا الفعل، الذي يقوم على العلاقة المباشرة بين المشهد والفنّان. أجابني في حينه أنّه يتمنّى ذلك، لكنّ القيام بالفعل المذكور في بلادنا دونه عقبات، وعلى رأسها عدم استيعاب جماهيرنا نشاطًا من هذا النوع، إذ ليس من المستغرب أن يتحوّل الرسام، في حالات كهذه، إلى “فرجة”، كما ليس من المستبعد أن يتعرّض للسخرية.

أقدم أبو أحمد على رسم المشهد الطبيعيّ في كلّ حين، ولدى أيّ فرصة متاحة. تنوّعت مشاهده بحسب الأمكنة والفصول، وجاء انعكاس الطبيعة البقاعيّة في أعماله متناسبًا، إلى حدّ ما، مع الواقع الموضوعيّ

في الماضي القريب، كان مجرّد معرفة أنّ فلانًا يرسم من شأنه أن تُلصق به لوثة، ويتمّ تصنيفه ضمن فئة الناس غير الطبيعيّين، وخصوصًا في حال كانت رسومه لا تتوافق مع الذوق العام السائد، الذي يفضل “الكيتش” المبتذل على الرسم الإبداعيّ غير المقيّد بنواميس تقليديّة.

العلاقة مع رفيق شرف

العبارة الأخيرة الواردة أعلاه، حول تهمة “الجنون”، أو ما يمتّ إليه بصلة، لاحقت الفنّان الراحل رفيق شرف، في خمسينيّات القرن الماضي، خلال فترة شبابه التي قضاها في بعلبك، إبّان ظهور ولعه بالرسم (سوف نفرد مقالًا خاصًّا بالفنّان رفيق شرف في فترة لاحقة). وإذ قادنا الاستطراد إلى ذكره، فلأنّ علاقة خاصّة جمعت رفيق شرف وعبد الحفيظ قاسم، وربّما كانت هذه العلاقة، في الواقع، أكثر رسوخًا بين رفيق والكاتب الراحل هاشم قاسم، شقيق عبد الحفيظ، الذي رافق الفنّان رفيق شرف خلال معظم مراحل حياته ونتاجه.

أمّا حين كان رفيق يولي وجهه تجاه بعلبك، وهو المقيم في بيروت، فلم يتوانَ عن زيارة عبد الحفيظ. وقد أسرّ لي هاشم قاسم، في إحدى الجلسات، أنّ رفيقًا كان يحبّ الجلوس قرب عبد الحفيظ، إبّان عمله على لوحة من اللوحات، كي يشاهد كيفيّة مزجه للألوان، بحسب نمط فطريّ، بدلًا من اعتماده على القواعد المكتوبة، لما في ذلك من إحساس وبديهة، وهما شيئان لطالما تميّز بهما عبد الحفيظ قاسم، وانعكس أثرهما في لوحاته.

هذه الأعمال داوم عبد الحفيظ قاسم على صناعتها حتّى أيّامه الأخيرة، طالما كان في استطاعته الإمساك بالفرشاة ومزج الألوان. لقد كان شغفًا لم ينتهِ، وقد بقيت آثاره على هيئة صور، بعضها على الـ”مازونيت”، وبعضها الآخر على القماش، وهي تزيّن الآن منزله، وتبعث الذكريات في نفوس من عرفه.

محطّات

قام عبد الحفيظ قاسم بتدريس مادّة الرسم والتصوير في “ثانوّية الحكمة” ببعلبك سنوات عديدة. وقد تحوّل بعض تلامذته إلى رسّامين محترفين في مراحل لاحقة.

عُرضت أعماله في “مؤسّسة الحريري” في برّ الياس، أواخر ثمانينيات القرن الماضي. كما أقام معرضًا في “ثانويّة الحكمة”، ومعرضًا آخر مشتركًا مع الدكتور طلعت الرفاعيّ في منزل الكاتب أحمد الغزّ.

لم يكن الهدف من العروض التي نظّمها تجاريًّا، إذ كان يرسم من أجل الرسم، ولم يهتمّ يومًا ببيع أعماله، إذ كان الفنّ بالنسبة إليه حاجة ذاتيّة تعبيريّة تهدف إلى إمتاع المشاهد أكثر من أيّ شيء آخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى