عتابا الغزل في البقاع الشمالي.. حنين إلى الماضي وكسر لـلمحرّمات
لم يكن الشعر الشعبيّ المغنّى المعروف بالعتابا مجرّد سهرات فنّيّة للتسلية والترفيه في ليالي الشتاء الطويلة في منطقة البقاع الشماليّ وقراها. ولم يكن مجرّد إحياء لحفلات الأعراس الشعبيّة الجميلة وحلقات الدبكة المتناسقة، بل هو جزء وجدانيّ من تاريخ تلك المنطقة النائية بكلّ مكوّناتها العشائريّة الطائفيّة السياسيّة والاقتصاديّة.
تختزن العتابا البعلبكيّة تواريخ كثيرة، وأحداثًا مفصلية كبيرة عرفتها المنطقة. والحق يقال إنّ فنّ العتابا كان في حينه، بمثابة وسيلة إعلام المنطقة ودفاتر التوثيق والأرشفة، فقد حملت بيوته الموزونة عادات أهل البلدات والقرى الأصيلة المتجذّرة: إكرام الضيوف، إغاثة الملهوف، الشهامة، حسن الجوار، عفّة النفس، الصدق والرجولة، كلّها قيم إنسانيّة سامية زخرت بها آلاف أبيات العتابا والقصائد الشعبيّة.
رامح مدلج، مهدي زعرور، علي الجباوي، ناشد إسكندر، فؤاد الغضبان، سعيد الأطرش، علي مهدي، علي حليحل وغيرهم من الشعراء، حفظ الزمن البعلبكيّ شعرهم الجميل على نغمات الربابة. غنّوا الحبّ والفراق، الشباب والكهولة، الكرم والبخل، برّ الوالدين والجحود، الشهامة وقلّة المروءة، الحرّيّة والتبعيّة، والكثير الكثير من مواضيع الحياة اليوميّة للناس.
تختزن العتابا البعلبكيّة تواريخ كثيرة، وأحداثًا مفصلية كبيرة عرفتها المنطقة. والحق يقال إنّ فنّ العتابا كان في حينه، بمثابة وسيلة إعلام المنطقة ودفاتر التوثيق والأرشفة
الغزل صنو العتابا
نال العشق وقصص العاشقين قسطًا وافرًا من جهود الشعراء وأوقاتهم، فلا تجد شاعرًا إلّا وسبر أغوار الحروف ليستخرج منها أرقّ الشعر وأعذبه، يغزله ثوبًا لحبيبته بصوته، جاعلّا منها أميرة الجمال والعشق متفوّقة على عبلة وليلى العامريّة وعشتروت جبيل.
الشاعر الراحل ناشد إسكندر (1954-2021) ابن مدينة الهرمل الذي طارد حروف الشعر كفراشات نيسان في حوض العاصي، غازل حبيبته قائلًا لها:
أنتِ وأنا عشّاق من آخر عصر
الهوى والحب عاصرنا عصر
صمنا سوا صارت الدني عصر
بدنا يأذّن تا يحلّ فطورنا
ويتابع مخاطبًا إيّاها:
تعالي شاركيني بالسخا في
حياتي ولا تعيشي بالسخافي
لا تخافي من حبيبك بسّ خافي
إلهك عند ما يجري الحساب
(بالسخا في معناها الكرم والجود)
أمّا المرحوم الشاعر الكبير رامح مدلج (1914- 1986) ملك العتابا البعلبكيّة ابن بلدة حربتا، فأبرع من غنّى العتابا ونسج قوافيها، حتّى قيل: من لم يسمع رامح مدلج لم يسمع عتابا، هو أيضا غازل حبيبته قائلا لها:
يا قلبي قوم لاقي لحبابي
شعرت بريح منهم لاح بابي
زرعت بحقل مخلص لحبابي
حصدت من الوفا سنابل أدب
ثم عاتبها لاحقاً:
على أسرار قلبك طلّعيني
تا إسكب عاورودك طلّ عيني
دفشيني لعند ربّك طلّعيني
ت إشكيلو على ظلم الحباب
(طلّ عيني معناه دمع عيني)
مقاربة محرمات وتابوهات
لم يقف الشعراء بسحر حروفهم عند حدود الغزل والحبّ فحسب، بلّ ولجوا عباب مواضيع اجتماعية شائكة، يتهيّب كثيرون دخولها في بيئة محافظة، فحضّوا على الصلح والمصالحات ونبذ الثأر وإراقة الدماء، حاربوا الفرقة، غنوا للوحدة والعيش والتراحم، في مجتمع متنوّع طائفيًّا، متداخل جغرافيًّا.
الشاعر الكبير المرحوم مهدي زعرور (1934- 2016) ملك الربابة، صاحب اللحن العذب والصوت الحنون، سبق كلّ الجمعيّات الحقوقيّة النسائيّة، الناشطة حاليًّا في موضوع مناهضة العنف ضدّ النساء ومحاربة ما يسمّى زورًا “جريمة الشرف” دافع عن زواج الخطيفة باسم الحبّ، غنّى على نغم ربابته الآثر بصوته الشجيّ قصيدته الشهيرة “خطيفة” قال فيها:
مبارح رحت أمشي من عشيّي
على هون درب بالوحشة غنيّي
التقيت بشبّ راكض خلف ظلّو
افتكرتو من مصحّ الحازميّي
بإيدو خنجر وبلّش يسلّو
صرخت وقاف وحكيلي القضيّي
قلّي اسوَدّ فيّي الكون كلّو
خطيفة تزوجتْ إختي الشقيّي
جبرت بخاطرو وبلّشت قلّو
بسيطة وليش هالزعلة القويّي
حبّت شبّ مجبورة تجلّو
ما عملت جريمة ولا خطيّي
صرخ لا لا شموخي ما بذلّو
ولا برجع لأهلي وروح فيّي
حتّى خنجري المسموم بلّو
بدمّ الدّنّست سمعة نقيّي
قلت إحكي معي هاللغز حلو
أختك مش خطيفة أوليّي
ما كان العامري جنونو وصلّو
لو راحت خطيفة العامريّة
وقبل ما نكمّل البحث بمحلّو
تكريس قيم إنسانيّة
الكرم، برّ الوالدين، حسن السيرة، انتقاء الأصدقاء، احترام الكبير، الإحسان للصغير، خصال نبيلة صوّرها الشعراء بأبهى الصور الشعريّة.
فقال الشاعر رامح مدلج عن فاقد المروءة:
الردي بيبقى ردي طول عمرو
ما عمرو يوم بيت العز عمرو
شو ما حكي زيد وقال عمرو
الردي خوّان فيه الأمل خاب
أمّا الشاعر علي الجباوي ابن بلدة عرسال (1946) فنسخ قول الإمام عليّ عن حديثي النعمة “احذروا صولة الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع” في بيت عتابا قائلًا:
قلّي يا عشير العمر قِلّي
بكيت الدهر ما مليت قِلّي
يا دلّو الشاف الغنى بعد قلّي
مات وللفقر يحسب حساب
(القلّة كوب فخّار قديم يستخدم للشرب)
أمّا عن القول المأثور “الجنّة تحت أقدام الأمهات” فنسخه شاعر آخر بقوله:
إمّك عدرب قلبك عديها
كرمال عينيها الدنيا عديها
بوس جبينها وإحني عديها
تحت دعساتها بوس التراب
الشيخوخة وفقدان الأحبّة
لأنّ الزمان ليس طوع البنان، صروفه كثيرة، ظروفه متبدّلة، الشباب يطويه العمر، الربيع يغدو خريفًا، الرؤوس تشتعل شيبًا، يصبح الحنين لماضي الشباب أو لمن رحل من الأهل والخلّان والأحبّة حديث الشاعر ومحور شعره.
الشاعر مهدي زعرور رثا شبابه قائلًا:
نقلني القدر من حالة لحالي
صرت حزين وعايش لحالي
شاب الشَعر وابيضّت لحا لي
ضناني الدهر برحيل الشباب
لأنّ الزمان ليس طوع البنان، صروفه كثيرة، ظروفه متبدّلة، الشباب يطويه العمر، الربيع يغدو خريفًا، الرؤوس تشتعل شيبًا، يصبح الحنين لماضي الشباب أو لمن رحل من الأهل والخلّان والأحبّة حديث الشاعر ومحور شعره.
الشاعر علي الجباوي قال في رثاء جارة له بمثابة أخته:
سهام البين بالضّلعين خزني
وأخد من شريكة عمر خزني
أنا لو يشفي جروحي مال خزني
لبيع الروح كرمال الحباب
في حديث لـ “مناطق نت” مع الشاعر علي الجباوي يقول: “موهبة الشعر ليس لها تفسير، لا أحد يعرف كيف تعلّم نظم الشعر. أتذكّر أوّل بيت عتابا غنّيته كنت يافعًا ونال إستحسان الحضور لا سيّما أنّ والدي وأعمامي كانوا أيضًا يغنّون العتابا والشروقي والمعنّى”.
عن الشعراء الذين عاصرهم يقول الجباوي: “الشاعر رامح مدلج أمير العتابا والنظم، قوافيه ساحرة، معانيه تدخل القلب، تسمعه فتتمنّى ألّا يتوقّف. الشاعر مهدي زعرور تسمع ألحانه فتظنّها بروحه ومشاعره ليس بقوس ربابته. الشاعر ناشد إسكندر كنهر العاصي تسمعه يغنّي تظنّ قافيته عصيّة على النظم، لتتفاجأ بانسيابها ورقّتها وجمالها”.
ويروى الجباوي لـ “مناطق نت” قصّة مهرجان شعريّ أقيم برعاية العلّامة المرحوم السّيد هاني فحص، يعود ريعه لحسينيّة قيد البناء، حينها أشاد العلّامة فحص بالشعر ومعانيه الروحيّة الإنسانيّة السامية، فغنّيت بعد كلامه:
ما دامك عالمعاني حكم ونَقُود
تعالى نصف جيش الشعر ونقود
واللّي ما بجيبو مال ونقود
بسبيل الخير بيبيع التياب
(نقود معناها ناقد)
وهو ما لاقى إعجاب العلّامة فحص والحاضرين. أمّا عن حال الشعر الشعبيّ اليوم فيأسف الجباوي: “فأنا أعيش اليوم خوفًا كبيرًا على هذا التراث العظيم، ما نراه من طفرة وكثرة (المستشعرين) يجعلنا نتحسّر على الماضي، يوم كان للكلمة قيمة ومعنى ومستمعون، أمّا الدولة فأيام وجودها لم تهتمّ للمبدعين فما عسانا نرجو منها اليوم وقد باتت جثّة هامدة”.
مثلما أرّخت المعلّقات وأصحابها الشعراء لفترة زمنيّة طويلة من تاريخ شبه الجزيرة العربيّة وأهلها، ونقلت إلينا أخبار بطولاتهم وحروبهم وغزواتهم وغراميّاتهم، فإنّ الشعر الشعبيّ في البقاع الشماليّ يؤرّخ لفترة جميلة من حياة أهله، قبل غزو وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعيّ كلّ تفاصيل حياتهم، وقد عملت “حركة الريف الثقافيّة” ورئيسها الراحل الشاعر والقاصّ محمود نون على رفد المكتبة اللبنانيّة الثقافيّة بمؤلّفات ودراسات وأبحاث عن الشعر الشعبيّ في البقاع، لما يشكّله من إرث ثقافيّ إنسانيّ حضاريّ، يجب على الدولة ووزارة الثقافة تحديدًا حفظه وتدوينه وأرشفته.