عتمة أوتوستراد رياق الهرمل شاهدة على حوادث الموت

ليلٌ ثقيل يخيّم على الطريق الممتدّة من رياق إلى الهرمل. عتمة تبتلع السيّارات المسرعة، وكأنّها قافلة أشباح تشقّ الفراغ. تنتصب على جانبي الطريق أعمدة إنارة غافية، بلا وظيفة ولا نور، كأنّها بلغت سنّ التقاعد، بعضها مُنحنٍ، وبعضها الآخر منهزم، والقاسم المشترك بينها أنّها جميعها مطفأة منذ سنوات.
في إحدى ليالي الشتاء، كان حسين هزيمة (34 عامًا) عائدًا بسيّارته من عمله في البقاع الأوسط نحو منزله في الهرمل. المطر يتساقط بغزارة، ومسّاحات الزجاج الأماميّ تعمل بسرعة قصوى ولم تعد تستطيع مسح سيل الأمطار. فجأة، ظهر أمامه ظلّ داكن لم يستطع تمييزه: كان رجلًا يقطع الطريق. حاول حسين أن يضغط على المكابح، لكنّ الإطارات انزلقت على الإسفلت المبلّل. ارتطمت سيّارته بالحاجز الحديديّ، ثمّ انقلبت. استيقظ بعدها في المستشفى، مصابًا بكسور في ساقه ورضوض في صدره. يقول لـ “مناطق نت”: “لو كانت تلك العواميد مضاءة تنير الطريق، لكنت رأيته من بعيد، وسلمنا ممّا أصابنا”.
قصّة هزيمة ليست استثناء. “أبو علي”، سائق ڤان ينقل الركّاب يوميًّا بين بعلبك وبيروت. يؤكّد أنّ الطريق تحوّلت إلى “فخّ مظلم”. يتابع لـ “مناطق نت”: “كلّ ليلة تُعدّ بالنسبة إلينا بمثابة مغامرة. لا إنارة، لا إشارات مرور، ولا صيانة. تسلك الناس الطرقات ولا تراها. صدّقني، نحن نحمد الله كلّ مرّة نصل فيها إلى منازلنا سالمين”.

70 كيلومترًا من العتمة
على طول أكثر من 70 كيلومترًا، يتحوّل الطريق الدولي من رياق مرورًا ببعلبك وصولًا إلى الهرمل إلى مشهد يوميّ من الرعب. آلاف السيّارات والشاحنات والفانات تسلكه، وهو الشريان الوحيد الذي يربط البقاع الأوسط بالشماليّ، ومع ذلك يبقى غارقًا في العتمة. أعمدة الإنارة موجودة كديكور صامت، لكنّها لم تشتعل مصابيحها يومًا منذ أكثر من عقد، بحسب شهادات الأهالي والسائقين.
نحاول تفكيك ألغاز هذا “الأوتوستراد المظلم”: لماذا لم تُضأ الأعمدة يومًا؟ من المسؤول عن عشرات الحوادث التي تقع طوال العام وكلّ عام؟ وما هي كلفة الإهمال على الأرواح والاقتصاد المحلّيّ؟
أرقام بلغة الدمّ
ليست قصّتا هزيمة وأبو علي سوى وجهين حيّين لأرقام باردة تتكرّر في كل عام. ففي العام 2023 وحده، وثّقت قوى الأمن الداخلي أكثر من 3500 حادث سير على الطرق اللبنانيّة، خلّفت ما يزيد على 500 قتيل وأكثر من 4500 جريح. هذه الأرقام لا تعكس مجرّد وقائع إحصائيّة، بل تختصر مئات العائلات المفجوعة، وأحلامًا انكسرت على أسفلت مظلم.
في البقاع تحديدًا، يبدو المشهد أكثر قساوة. تشير التقارير الأمنية ّ إلى أنّ المنطقة تحتلّ واحدة من أعلى النسب في معدّل الحوادث، بسبب طبيعة طرقاتها الدوليّة غير المجهّزة. سجّل تقرير صادر عن الهيئة اللبنانيّة للسلامة المروريّة ما لا يقلّ عن 150 حادثًا خلال ثلاث سنوات على الأوتوستراد الممتدّ من رياق حتّى الهرمل، معظمها وقع في ساعات الليل. أيّ إنّ الظلام ليس تفصيلًا ثانويًّا، بل عامل مباشر يضاعف احتمالات الاصطدام والموت.
سجّل تقرير صادر عن الهيئة اللبنانيّة للسلامة المروريّة ما لا يقلّ عن 150 حادثًا خلال ثلاث سنوات على الأوتوستراد الممتدّ من رياق حتّى الهرمل، معظمها وقع في ساعات الليل.
ووصفت دراسة أجرتها “الجامعة الأميركيّة في بيروت” (AUB) العام 2022 حوادث السير بأنّها ثالث سبب للوفاة المبكر في لبنان، مؤكّدة أنّ الطرقات غير المضاءة تزيد مخاطر الحوادث بنسبة 40 في المئة مقارنة بتلك المجهّزة بالإنارة. ما تعنيه هذه النسبة أنّ العتمة ليست مجرّد مشهد بصريّ كئيب، بل آلة صامتة تُضاعف فرص الموت كلّ ليلة.
خلف كلّ رقم من هذه الإحصاءات قصّة لم تُكتب بعد: شاب جامعيذ لم يصل إلى محاضرته الأخيرة، أب لم يعد من دوامه، أو طفل ينتظر والده على باب البيت ولا يراه يعود. الأرقام الرسميّة تُكتب بحبر بارد على الورق، لكنّها تُقرأ بالدم والدموع على أرصفة البقاع.
بين سرقة الكابلات وغياب الدولة
حين تسأل أبناء البقاع عن السبب وراء عتمة الطريق، تأتيك الإجابات متفرّقة: “الكهرباء مقطوعة”، “البلديّة لا تجري صيانة”، “الوزارة مفلسة”، “الكابلات سُرقت”. لكنّ الحقيقة أنّ جميع هذه الأسباب صحيحة في آن واحد، وتكشف خلطة قاتلة من الإهمال والفساد واللاجدوى.
في سنوات سابقة، جُهّز الأوتوستراد بعشرات الأعمدة الموزّعة على امتداده، ورُبط بشبكة كهربائيّة حديثة نسبيًّا. لكن بعد مدّة قصيرة، بدأت أخبار السرقة تتوالى: كابلات مقطوعة، محوّلات منهوبة… ولم تكلّف أيّ جهة نفسها عناء الصيانة. مع دخول البلاد الانهيار الماليّ العام 2019، توقّفت مشاريع الصيانة بشكل شبه كامل، وصار تشغيل الإنارة حلمًا بعيد المنال. ثمّ جاءت الحرب الأخيرة لتطلق آخر رصاصة قاتلة على أمل السكّان في معالجة هذه القضيّة، كونها أصبحت من الثانويّات وليس الأولويّات لصالح إعادة التعمير وحصر السلاح.

يقول المهندس ربيع نون، وهو خبير في البنى التحتيّة والإنارة العامّة: “نحن لا نتكلّم عن مشروعٍ ضخم، هذا طريق دوليّ طوله 70 كيلومترًا. إنّ العمل على تشغيل الإنارة لا يتطلّب معجزة، كلّ ما يتطلّبه هو خطّة صيانة دائمة. لكن في لبنان، هناك دوماً حلقة مفقودة بين من يموّل ومن يراقب. تركت الدولة الأعمدة كديكور، والبلديّة تقول إنّها لا تملك صلاحيّة التدخل، ثمّ في نهاية الأمر، المواطن هو من يدفع حياته ثمنًا للإهمال”.
ويتابع نون لـ “مناطق نت”: “الحلول التقنيّة موجودة. يمكن للأوتوستراد الاعتماد تدريجًا على أعمدة الطاقة الشمسيّة، تمامًا كما اعتمدت بعض الدول الفقيرة أو حتّى بعض المناطق اللبنانيّة، على حلّ كهذا. لكن الحلّ يحتاج بالدرجة الأولى إلى قرار سياسيّ وتمويل شفّاف. إذا انتظرنا موازنة الدولة، فسيبقى الطريق غارقًا في العتمة لسنوات”.
إنّ غياب التنسيق بين الوزارات والبلديّات، وتذرّع كلّ جهة بعدم امتلاك الصلاحيّة أو الميزانيّة، جعل الطريق الدوليّة شاهدة على سياسة “رمي المسؤوليّات”، والنتيجة: أعمدة مطفأة منذ أكثر من عقد، وحوادث تتكرّر في كلّ أسبوع، بلا محاسبة ولا أفق حلّ.
الظلام يُطفئ التجارة والسياحة
يظهر مشهد أكثر فداحة عند أسوار قلعة بعلبك الأثريّة، حيث يخيّم الظلام على موقع تاريخيّ يُفترض أن يكون قِبلة السيّاح. بعد غروب الشمس، يغادر الزوّار سريعًا وكأنّهم يهربون من مدينة محاصرة بالعتمة، فيما يتحوّل كورنيش القلعة، الذي كان يُفترض أن يزدهر بالمقاهي والمطاعم والحركة السياحيّة، إلى مساحة خالية إلّا من العتمة والفراغ.
يقول محمود ح. وهو مرشد سياحي في بعلبك لـ “مناطق نت”: “يدخل السيّاح نهارًا، يقومون بجولة قصيرة، ويختفون مع غياب الشمس. الكورنيش مظلم بالكامل، لا مقعد ولا مطعم يستطيع أن يفتح أبوابه للزوّار في ظروف العتمة. في دول أُخرى، تتحوّل الإنارة إلى عرض بصريّ يُظهر عظمة الآثار ليلًا؛ لكن هنا، تصبح القلعة محجوبة، وكأنّها غير موجودة”.
هذا الغياب لا يقتصر على السياحة فقط. فالتجارة المحلّيّة أيضًا تدفع الثمن. في الهرمل مثلًا، يشير أبو علي، تاجر خضار، إلى أنّ نقل البضائع صار مرتبطًا بوقت النهار. يتابع لـ “مناطق نت”: “ليس بإمكان الشاحنات الكبيرة أن تتجوّل ليلًا بلا إنارة. نضطرّ إلى تأجيل عمليّات النقل إلى الصباح، وكلّ ساعة تأخير تكلفنا خسارة، وبخاصّة مع الغلاء وارتفاع سعر المحروقات”.
يقول مرشد سياحي في بعلبك: “يدخل السيّاح نهارًا، يقومون بجولة قصيرة، ويختفون مع غياب الشمس. الكورنيش مظلم بالكامل، لا مقعد ولا مطعم يستطيع أن يفتح أبوابه للزوّار في ظروف العتمة”.
مأساة مضاعفة
أمّا على مستوى الخدمات الطارئة، فالمأساة مضاعفة. سائق سيّارة إسعاف تابعة للصليب الأحمر في بعلبك يقول لـ “مناطق نت”: “كلذ دقيقة تحدث فرقًا مع حياة المصاب. الليل بلا إنارة يعرقل عملنا. أحيانًا، لا نعرف تحديدًا مكان وقوع الحادث إلّا بعد أن نصل ونبحث بالكشّافات. للأسف، بعض الحالات توفّيت قبل أن نجدها”.
حتّى إنّ الطلاب والموظفين الذين يضطرون للتنقل يوميًّا بين القرى والمدينة صاروا يعيشون تحت ضغط إضافيّ. كثيرون يختصرون نشاطاتهم المسائيّة أو يلغون مواعيدهم الطبّيّة والاجتماعيّة لأنّ “الطريق لا تُسلك بعد المغيب”.
إذاً، لا يقتصر أثر العتمة على سلامة العابرين وحسب، بل يتسلّل إلى اقتصاد المنطقة وصورتها السياحيّة وحياتها الاجتماعيّة، ليحوّل بعلبك والهرمل إلى مدينتين تلفّهما العتمة مع غروب الشمس.
أعمدة منهارة وأحلام نور
وسط هذا المشهد القاتم، تبدو المشكلة وكأنّها عصيّة على الحلّ، لكنّ الواقع أنّ الخيارات متاحة وبكلفة ليست مستحيلة. يقول المهندس ربيع نون: “نحن لا نتحدّث عن مشروع فضائيّ. يمكن للأوتوستراد الممتدّ من رياق إلى الهرمل أن يُضاء وفق خطّة واضحة. الحلّ الأول يكمن في إعادة صيانة الشبكة الأساسيّة وتشغيل الأعمدة القائمة. هذا الأمر يتطلّب رقابة جادّة لوقف سرقة الكابلات، وتمويلًا بسيطًا مقارنة بحجم الكارثة البشريّة”.
ما يقترحه نون لا يقتصر على الصيانة التقليديّة، بل إلى طرق أكثر استدامة. يقول: “تشير التجربة العالميّة إلى أنّ الطاقة الشمسيّة أصبحت بديلًا أنسب. يمكن تركيب وحدات إنارة تعمل بالطاقة الشمسيّة، مزوّدة ببطّاريّات حديثة، ولا تحتاج إلى شبكات معقّدة. بعلبك والهرمل تتمتّعان بنسبة إشعاع شمسيّ مرتفعة، ما يجعل المشروع قابلًا للتنفيذ بكفاءة. إذا وُجد قرار سياسيّ جادّ، يمكن تنفيذه تدريجًا خلال سنة أو سنتين”.
ويؤكّد نون أنّ الحلّ ليس تقنيًا فقط، “فلا بدّ من وجود جهة مسؤولة مباشرة عن تشغيل وصيانة الطريق. وزارة الأشغال العامّة، أو هيئة خاصّة للسلامة المروريّة، أو حتّى شراكة بين البلديّات. الأهمّ ألّا نبقى في دوّامة تبادل المسؤوليّات. المواطن لا يهمّه من يشغّل الأعمدة، بل يهمه أن يصل إلى منزله سالمًا”.
إنّ إنارة الأوتوستراد بين رياق وبعلبك وصولًا إلى الهرمل ليست رفاهيّة، بل حقّ أساسيّ في السلامة العامّة، ومفتاح لإنعاش التجارة والسياحة والحياة الاجتماعيّة في البقاع. وبين الإهمال الذي يترك الطريق غارقًا في عتمته، والحلول المتاحة التي يطرحها الخبراء، يبقى السؤال معلّقًا: من يملك الإرادة ليقلب المفتاح ويعيد النور إلى هذا الشريان الحيويّ؟