عرسال ومخيماتها الـ 143.. دورة اقتصادية بطعم اللجوء وميسورون جدد
بعيدًا عن الشعبويّة والعنصريّة وحماسيّات المنابر في مقاربة ملف اللّجوء السوريّ و”شيطنته” الكاملة، لجعله سبب مشاكل لبنان، وانهيار مؤسّساته، ووصوله إلى قعر الهاوية، يحلو لكثيرين من ساسة البلد استخدام اللجوء السوريّ شمّاعة لتعليق كلّ عيوبهم وفسادهم وصفقاتهم وهدرهم للمال العام وسرقة ودائع الناس وجنى أعمارهم ومستقبل أولادهم، كأنّ اللبنانيّ عاش وتنعّم قبل العام ٢٠١٢ في ربوع دولتهم الفاضلة.
لا يمكن لعاقل إخفاء تبعات اللجوء السوريّ والمشاكل الناتجة منه، خصوصاً في ما يتعلّق باستهلاك البنى التحتيّة، من كهرباء وماء وإتصالات ومواصلات، إضافة إلى الضغط على السلّة الغذائيّة اللبنانيّة، والّتي تشكّل المواد المستوردة قسماً كبيراً منها. بالمقابل وتحت شعار دعم المجتمع المضيف، دخلت مبالغ ماليّة ضخمة، بالدولار الأميركي، ولكنّها لم تسلك بمجملها السبل السليمة، ولم تكن بعيدة عن أيادي الفساد والمحسوبيّات والسمسرات.
عرسال واللجوء
تعتبر بلدة عرسال البقاعيّة، الأكثر شهرة وتضرّرًا في ملف اللجوء السوريّ، وقد دفعت أثمانًا باهظة بشريًّا ومادّيًّا وتحمّلت تشويه صورة أهلها ووسمهم بالإرهاب والتطرف. ذهبنا نفتّش في بيوت عرسال ومخيّماتها التي وصل عددها إلى 143 وحدة ومخيم، عن حقيقة ضائعة بين واقع قائم ومصالح سياسيّة متباينة.
تحت شعار دعم المجتمع المضيف، دخلت مبالغ ماليّة ضخمة، بالدولار الأميركي، ولكنّها لم تسلك بمجملها السبل السليمة، ولم تكن بعيدة عن أيادي الفساد والمحسوبيّات والسمسرات
يقول رئيس بلدية عرسال السابق باسل الحجيري لـ”مناطق نت”: إنّ “مقاربة اللجوء السوري لم تتمّ بطريقة وطنيّة من الأساس، بل إتّسمت بالعشوائيّة والمصلحة، وكلّ فريق أراد استخدامها بما يحقّق مصلحته وليس مصلحة الوطن. أمّا نحن في عرسال فقد حملنا العبء الأكبر جرّاء اللجوء. وكانت البلديّة قد تقدّمت بطلب خطّي إلى معالي وزيرة الداخلية (في حينه) ريّا الحسن، لإقامة المخيّمات في خارج بلدتنا وقرب الحدود السوريّة، مّا يسهّل ضبطها والتعامل معها إغاثيًّا وإنسانيًّا وأمنيًّا؛ فأتانا الجواب بأنّنا نخطّط لتوطينهم”.
ويشير الحجيري إلى أنّ مصطلح “إيجابيّة اللجوء، خاطئ كمفهوم، فأيّ ايجابيّة تنتج عن تشريد الكبار والصغار والنساء ورميهم في مخيّمات البؤس والحرمان؟”. ويردف: “لكن يمكننا الحديث عن فوائد المجتمع الدوليّ والمنظّمات المتخصّصة بشؤون اللاجئين من خلال مشاريع تمكين المجتمع المضيف. فكان لنا نصيب من مشاريع الصحّة والزراعة والإغاثة والبنى التحتيّة والتربية، لكن الإيجابية الفعليّة هي عودة الناس الى وطنهم وبيوتهم وأراضيهم”.
الميسورون الجدد
نمت على هامش ملف اللجوء، طبقة يمكن تسميتها بالـ “الميسورين الجدد”، غالبيتها من السيّدات وجيل الشباب ومالكي صهاريج المياه وشفط الجور الصحيّة وصائدي مناقصات الجمعيّات ممّن يتقاضون رواتبهم وعقودهم بـ”الفريش دولار”. عدد هؤلاء يزيد على 800 شخص، باتوا يعيشون حياة البذخ “الجخّ” والرفاهيّة، كما يظهرون بسياراتهم ومناسباتهم المصطنعة وصفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. باتت هذه الوظائف والعقود بمثابة “جنة وظيفيّة” يحلم ويتنافس المئات على دخولها والتنعّم بخيراتها ودولاراتها، أمّا من نالوا فرصة نعيمها، فكانت كلّ همومهم عدم مغادرتها نظرًا لتراوح رواتبهم بين 300 -1500 دولار أميركي.
في حديثها إلى “مناطق نت” قالت السيدة التي اكتفت بالتعريف عن نفسها بأحرف اسمها الأولى ث. ص.: “اشتغل زوجي 7 سنوات مع منظّمة دوليّة وكان راتبه 1100 دولار، تعوّدنا عالبحبوحة والرفاهيّة، وهلق ترك وفتح محل ما بيعطيه 200 $ بالشهر شو بدنا نعمل؟”.
حرف وأسواق جديدة
مقابل ارتفاع أعداد اللاجئين، ازداد حجم الطلب على الحاجيّات الإستهلاكيّة اليوميّة، كالمواد الغذائيّة والخضار واللحوم والفاكهة والمواد النفطيّة وألواح الطاقة الكهربائيّة والدرّاجات الناريّة وغيرها، ما أنشأ موارد رزق جديدة للكثيرين من أبناء البلدة.
يُعدّ قطاع تجارة الدرّاجات الناريّة قطاعًا اقتصاديًّا نشطًا في عرسال، لذلك اتّجه نحوه محمد الحجيريّ بائع الدراجات الناريّة وصاحب ورشة صيانة يعمل فيها شبّان عدّة. ودخل ضمن الدورة الاقتصاديّة المتكاملة التي يستفيد منها أصحاب شاحنات النقل من بيروت ومحطّات الوقود وتجار الزيوت وقطع الغيار وعمّال الصيانة.
يقول الحجيري في حديث لـ “مناطق نت”: “قبل الثورة السوريّة كانت الدرّاجات الناريّة قليلة نسبيًّا في عرسال، ولم يكن هناك ورش صيانة فعليّة، لكن بعد لجوء السوريّين وبخاصّة من مناطق القصير والقلمون، ازداد عدد الدرّاجات بنسبة هائلة، لأنّ الريف السوريّ يعتمد عليها كوسيلة نقل أساسيّة، نظرًا لارتفاع أسعار السيّارات هناك”. يتابع: “ففي حين ارتفعت أسعار المحروقات وكلفة صيانة السيّارات وقطع غيارها، يبقى مصروف الدرّاجة الناريّة أقلّ بكثير وسعرها مقبولًا، يبدأ من 250 دولاراً، وصولاً إلى 2000 دولار للدراجة الفاخرة”. وعن أعدادها يقول الحجيري إنه يزيد عن 4500 درّاجة ناريّة للسوريّين والعراسلة”.
إضافةً لقطاع الدراجات النارية، ظهرت بعض الحرف الجديدة في عرسال، ودخلت ضمن الدورة الاقتصادية للبلدة مثل الخياطة وتجديد الأواني المنزليّة (نحاس وألمنيوم)، والمخارط الصناعيّة الثقيلة، إضافة إلى أعمال البناء التي يتقنها العامل السوريّ ومنها: نجارة الباطون والبلاط وتلييس الجدران والطلاء وغيرها.
ظهرت بعض الحرف الجديدة في عرسال، ودخلت ضمن الدورة الاقتصادية للبلدة مثل الخياطة وتجديد الأواني المنزليّة (نحاس وألمنيوم)، والمخارط الصناعيّة الثقيلة، إضافة إلى أعمال البناء التي يتقنها العامل السوريّ
في حديث إلى “مناطق نت” يقول الخياط السوري عبد الغني المنير: “عملت وتعلّمت الخياطة مدة 20 سنة في معامل صناعة ألبسة في دمشق وحلب. وبعد المشاكل السوريّة لجأت إلى عرسال مع عائلتي، وعندما بدا أن العودة ستطول قمت بفتح محلّ خياطة سنة 2013، في حين لم يكن هناك دكاناً لخيّاط عرسالي، والحمد الله تيسرت أموري”.
عن مهنة الخياطة يقول المنير: “الخياطة ليست عمليّة تقصير بنطال وتركيب زرّ لقميص، كما كان سائدًا، بل هي صناعة وصيانة وتصليح الثياب. كما أنني منذ سنوات عدّة بدأت بتصنيع المريول المدرسيّ لمدارس عدة في عرسال، والآن بين يديّ طلبيّة لمدرسة في بلدة العين بالجودة والنوعيّة ذاتها الموجودة حالياً، لكن بكلفة أقل”.
عن طموحاته في مهنته يعرب المنير عن أمنيته بإنشاء معمل لصناعة الألبسة ونقل خبرته إلى أبناء عرسال. وكان قد بادر بالطلب إلى العديد من عائلاتها لإرسال أبنائهم المتسرّبين من المدارس ليعلّمهم هذه المهنة “لكنّهم لم يفعلوا”.
يقول المزيّن والأستاذ حسين زعرور، وهو جار الخياط المنير وأحد زبائنه، إلى “مناطق نت”: “تعرفت إلى عبدو بعد وفوده إلى بلدتنا وصرت أتردّد عليه كونه جاراً وزبون صالوني، وبدأت بالتعرف إلى هذه المهنة الجميلة التي كانت مفقودة في بلدتنا. ومع الوقت صرت أخيّط بعض الملابس عنده، ودائما يدهشني بفنّه والدقّة في المقاسات، وبعض الأحيان أشتري وأصدقائي ملابس من البالة ويعيد عبد الغني تفصيلها على مقاسنا ونلبس ماركة أوروبيّة سوريّة لبنانيّة مشتركة”.
بعض الأحيان أشتري وأصدقائي ملابس من البالة ويعيد عبد الغني تفصيلها على مقاسنا ونلبس ماركة أوروبيّة سوريّة لبنانيّة مشتركة
في المحصّلة، ليس صحيحًا أنّ اللجوء السوريّ أو الفلسطينيّ هو سبب خراب لبنان وانهياره، بل التقاعس طيلة 100 عام عن بناء دولة فعليّة تهتمّ بشؤون كلّ المناطق اللبنانيّة، بدل التمركز في بيروت وجبل لبنان وإهمال باقي المناطق وتركها لمصائرها بلا تنمية فعليّة مستدامة.