عشر دقائق سيرًا على الأقدام في الضاحية
“هنا، في هذا المقهى بالذات، جلست مرّةً منذ أربع سنوات، ووضعت خاتمة لحكاية كان لا بدّ أن تنتهي”، تطوف في رأسي الفكرة بينما أعبر من أمام كومة ركام على أوتوستراد “هادي نصرالله” في ضاحية بيروت الجنوبيّة. وهنا، في هذا المبنى الساقط على الأرض، جرّبت أشياء كثيرة للمرّة الأولى في سكن مشترك كانت صديقتي تسكن إحدى غرفه، ومن هذا الركام الآخر على بُعد خمس دقائق كنت أشتري “المناقيش” لي ولأصدقائي منذ عامين، وهناك، في ركام ما في هذه البقعة الضيّقة، مات أناس عاديّون، كانوا يظنّون أنفسهم آمنين في منازلهم، بعيدين جدًا من احتماليّة الموت.
عشر دقائق سيرًا على الأقدام في الضاحية، كفيلة باستحضار كثير من الذكريات التي غاب أصحابها، والآن، غابت الأماكن التي كانت شاهدة عليها. مبانٍ ومطاعم ومقاهٍ دمّرتها إسرائيل في ستّة وستّين يومًا، وحوّلتها إلى مجرّد حطام. عبءٌ على الشوارع، وعلى ذاكرة أبناء الضاحية ممّن يحاولون اليوم استكمال حياتهم بعد إعلان وقف إطلاق النار. عشر دقائق في النهار، تختلف عن مثيلتها في المساء، حيث تختفي زحمة الناس وضجيجهم، وتغلق غالبيّة المحال أبوابها، وتحلّ العتمة على هذا الفراغ الذي يتنامى ويصبح أكبر كلّما نظرت إليه.
في “الڤان” أيضًا، ألاحظ الركّاب الآخرين الداخلين أو الخارجين من الضاحية يحدّقون في الركام، ولا أعلم إن كانوا يستحضرون أِيّ ذكرى، أم أنّهم فقط يحدّقون بحطامٍ لا يعنيهم، لكنّهم يحدّقون، ربّما لأنّ المشهد الذي وثّقته العدسات بمقاطع متفرّقة، وتفرّج عليه العالم من بعيد يومًا بيوم خلال الحرب، أكبر من أن يستطيع “ابن الضاحية” تجاهله، وأقسى من ألّا يتحسّر عليه، ألّا يتمنّى ولو بخاطرة تلوح في ذهنه فقط، لو أنّ هذا كلّه لم يحدث.
لو أنّ الشوارع التي كنّا نحبّها، أو نمقتها لأسباب عديدة، ظلّت على ما كانت عليه، وما خسرنا كلّ ما خسرناه، من أرواح وبيوت وأحلام وذكريات، ولعلّ هذا المشهد يألفه ويدرك معناه أبناء القرى والمدن التي طالها قصفٌ عنيف بدّل معالمها إلى حدّ كبير، يكاد المرء لولا الصور الموثّقة وذاكرته ألّا يصدّق أنّ المكان الذي يمشي فيه الآن، هو عينه الذي كان يعرفه طوال حياته.
القبور والشواهد
في صبيحة اليوم الأخير الذي أمضيته في مسقط رأسي “الهرمل” مطلع الشهر، زرت للمرّة الأولى بعد أكثر من عامٍ ونصف عام مدفن الضيعة، أو “المجنّة” كما يسمّونه هناك، وهو الاسم الذي من خلاله نقنع أنفسنا أنّ جميع الموتى في هذا المدفن غادروا إلى “الجنّة”، إلى المكان الأفضل من هذا العالم، وهناك، حيث تتلاصق قبور عائلة أمّي وعائلة أبي بصدفةٍ بحتة، وقفت أحدّق بالقبر الجديد الذي حفرته الحرب في كلّ جانبٍ منهما، وبالتراب المكلّل بالورد والصور والدموع، وبالقبور القديمة التي تحمل شاهدًا باسم كاملٍ وتاريخ وفاةٍ أقدم من عمر الحرب، وعلى مسافة بضع أمتار كان ثمّة رجلٌ يحفر قبرًا جديدًا، يفتح فراغًا لموتٍ آخر في الحرب، ستقف عائلة بأكملها وستحدّق فيه بعد ساعات قليلة.
أربعة آلاف وأكثر قليلًا هي الحصيلة المعلنة لشهداء الحرب الإسرائيليّة على لبنان منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، غالبيّتهم سقطوا في الحرب الموسّعة بين الـ23 من أيلول (سبتمبر) الماضي والـ27 من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، موعد وقف إطلاق النار، صار لكلّ واحدٍ منهم اليوم قبرٌ وربّما شاهد، على روحٍ غادرت في هذه الحرب، وجسدِ ملأ فراغًا في تراب هذه الأرض، وسجّلت حالات دفن جماعيّ لعائلات خسرت عددًا من أفرادها، منهم من صمدوا في قراهم ومدنهم في الجنوب والبقاع، ومنهم من قضى في المجازر التي ارتكبتها إسرائيل باستهداف أماكن نزوح في مناطق كانت تُعدّ خلال الحرب آمنة.
وقفت أحدّق بالقبر الجديد الذي حفرته الحرب في كلّ جانبٍ منهما، وبالتراب المكلّل بالورد والصور والدموع ،وعلى مسافة بضع أمتار كان ثمّة رجلٌ يحفر قبرًا جديدًا، يفتح فراغًا لموتٍ آخر في الحرب، ستقف عائلة بأكملها وستحدّق فيه بعد ساعات قليلة.
تنتشر صورٌ لهذه القبور بشكل يوميّ منذ انتهاء الحرب، ترابيّة وبشواهد، فرديّة وجماعيّة، صغيرة وكبيرة، يرثي الناس أحبّتهم ممّن قضوا في هذه الحرب، يتحدّثون عنهم أكثر، يبكونهم بمرارة، يدركون حقيقة الفقد، بعد أن عادوا إلى بيوتهم، بعد أن زالت عن رؤوسهم غمامة الخوف والقلق الذي عاشوه خلال الحرب، وصار بإمكانهم أن يتحسّسوا حجم الفراغ الذي تركه الميّت في حياتهم اليوميّة، وكمّ الذكريات والأحلام التي دُفنت معه.
أمل جماعيّ بغد أفضل
يحدث هذا في وقتٍ بدأت فيه القوّات الإسرائيليّة بالانسحاب من بعض القرى الحدوديّة، ودخول أهاليها الذين أرغموا على النزوح منها منذ أكثر من عامٍ، والحديث عن وقف نار مرتقب في قطاع غزّة الذي يعيش تحت وطأة الإبادة الجماعيّة منذ السابع من تشرين الأوّل، ومع طابعٍ عام يوحي بأنّ المنطقة مقبلة على استقرار كافٍ كي يمنح جميع المتضرّرين من هذه الحرب وقتًا للملمة جراحهم، ورثاء شهدائهم، وإعادة بناء مدنهم وقراهم التي دمّرتها إسرائيل، ببيوتها الصغيرة وأبنيتها الشاهقة، بأسواقها العتيقة والشعبيّة، وبمراكزها الضخمة، وبشوارعها المألوفة لأبنائها. يحدث هذا في وقتٍ بدأت البلاد ترتدي ثياب الأعياد تدريجًا، وانشغال الناس بصناعة البهجة والفرح وتجديد رغبتهم في الحياة، وبشرى قدوم عامٍ جديد، لا أحد يعرف ما الذي تخبّأه أيّامه، لكن الأمل كبيرٌ بأنّ ما عشناه في هذا العام لن يتكرّر.