عشر سنوات من الوعود ومكتبة بعلبك تنتظر البلدية

في مدننا التي تتكدّس فيها الذاكرة بين حجارة الأسواق القديمة وضجيج الحياة اليوميّة، تبقى المكتبات العامّة منسيّة في الزوايا، كأنّها هامش في رواية كبرى. هناك، في قلب بعلبك، كانت مكتبة تشبه السرّ الصغير المحفوظ خلف بوّابة قديمة وأثرٍ صامد.

وسط السوق التجاريّة، قرب سينما “الشمس”، وُجدت مكتبة بعلبك العامّة، المكان الذي حمل في جدرانه فسحة آمنة للقراءة والخيال. للشابّة ندى أمهز تجربتها الخاصّة مع هذه المكتبة. كانت تتردّد إلى مركزٍ قريب منها ينظّم نشاطات للأطفال، وتزورها أسبوعيًّا لقراءة القصص البوليسيّة، بمعدّل قصّتين يوميًّا، مقابل اشتراك رمزيّ قدره ألفا ليرة لبنانيّة في ذاك الوقت.

“مع مرور السنوات، تحوّل المكان إلى ذكرى عزيزة، بعد صدور قرار بإقفال المكتبة بحجّة توسيع المساحة المخصّصة للقراءة. وحتّى اليوم، لا نزال ننتظر هذا المطرح الحلو، تلك المساحة الآمنة التي لا نعلم إن كانت كتبها لا تزال محفوظة بداخلها، أمّ أنّها تعرضت للتلف” تقول أمهز لـ “مناطق نت”. وتختم: “ما زلت أنتظر من ينهض بهذه المكتبة من جديد، لأكون أوّل الوافدين إليها”.

وضع حجر اللأساس لمكتبة بعلبك العامة في العام 2014
بلديّات عبرت والمكتبة مهملة

في قلب بعلبك، وعلى مرّ سنوات طويلة، بقيت المكتبة العامّة ملفًّا عالقًا بين الوعود والخذلان، وبين التعاقب البلديّ والمحاصصة التي أنهكت المدينة. فقد توالى على هذا المشروع أكثر من مجلس بلديّ، وكلّ منها ترك بصمةً من التأجيل والتبرير والإهمال، حتّى غدت المكتبة مثالًا حيًّا على نتائج تبديل رئاسة البلديّة كلّ ثلاث سنوات- خلافًا للمدّة القانونيّة البالغة ستّ سنوات- فقط لإرضاء العائلات وتكريس الزبائنيّة.

وسط هذا الإهمال، تبقى الذاكرة الفرديّة المكان الوحيد الحيّ. لربيع القيّم، قصّة مع هذا المكان، إذ كان يمرّ يوميًّا بالقرب من المكتبة، وتعرّف إلى موظف يعمل فيها، فبدأ يزورها ويدفع الاشتراك الرمزيّ للقراءة. لم تكن غنيّة بالكتب، لكنّها كانت- كما يقول- في موقع “لذيذ، متاح للجميع، في محيطٍ حيويّ وكثيف سكّانيًّا، على عكس المكتبة الحاليّة المعمّرة والبعيدة جدًّا، والتي لا تناسب إلّا أصحاب الخلوات والأبحاث العلميّة”.

تقع المكتبة العامّة الحاليّة على تلال رأس العين، بعيدًا من الطريق التي يمرّ فيه أكثر من 90 في المئة من سكّان المدينة. وقد أُنشئت فعليًّا “على العظم” كما يُقال، في العام 2014، ليُعلّق العمل فيها منذ العام 2015 وحتّى اليوم.

تقع المكتبة العامّة الحاليّة على تلال رأس العين، بعيدًا من الطريق التي يمرّ فيه أكثر من 90 في المئة من سكّان المدينة. وقد أُنشئت فعليًّا “على العظم”

المسرح المؤجّل

في هذا السياق، يقول الدكتور حسين حسن، مسؤول في “الجمعيّة اللبنانيّة للتعايش والإنماء” في بعلبك لـ “مناطق نت”: “لإنشاء مسرح في بعلبك فائدة كبيرة لأهل المدينة، بخاصّة مع غياب مثل هذا الصرح منذ عشرات السنوات. انطلاقًا من ذلك، وأثناء إنشاء البلديّة الهيكل الخارجيّ لمركز ثقافيّ اجتماعيّ يضمّ مكتبة ومسرحًا ومعرضًا في العام 2015، تقدّمنا بمشروع لتأسيس مسرح مموّل من جهة مانحة أجنبيّة” ويلادف حسن: “جاءت الموافقة من الجهة الداعمة، لكنّ البلديّة ماطلت وأهملت المشروع، بحجّة عدم إمكانيّة استكمال المسرح دون المعرض والمكتبة، ما أدّى إلى فشل التجربة”.

لم تقتصر ملاحظات الدكتور حسن على عرقلة مشروع المسرح، بل طالت أيضًا الفكرة العامّة للمركز الثقافيّ. وبرأيه “الاكتفاء بمكتبة ورقيّة لم يعد مجديًا في عصر تتسارع فيه التقنيّات، وكان الأجدى اعتماد نموذج هجين يجمع بين الورقيّ والرقميّ لتوفير الكلف ومواكبة حاجات القرّاء”. ورأى كذلك أنّ “اختيار موقع المركز جاء في غير مكانه، إذ يقع في منطقة نائية عن قلب المدينة، ما يجعله بعيدًا من جمهور الثقافة، خصوصًا المهتمّين بالمسرح والنشاطات التفاعليّة”.

غياب التمويل

ويتابع حسن: “أحد أبرز أسباب فشل المشروع هو غياب التنسيق الحقيقيّ مع الجمعيّة كشريك أساسيّ فيه، إضافةً إلى وجود جهة حزبيّة لا يناسبها أيّ نشاط ثقافيّ في المنطقة”. ويختم حسن: “إنّ استكمال المشروع كان من الممكن أن يؤمّن مداخيل مهمّة لصندوق البلديّة”.

مكتبة بعلبك العامة بعد وقف العمل على بنائها

من ناحيته يقول رئيس بلديّة بعلبك الحاليّ، مصطفى الشلّ: “في السبعينيّات، تمّ تخصيص عقار بلديّ لإنشاء مكتبة عامّة، لكنّ بلديّة بعلبك حُلّت في حينه، وحَلّت مكانها القائمقاميّة ثمّ المحافظ”. ويتابع لـ “مناطق نت”: “أُعيد إحياء الفكرة مجدّدًا في عهد الرئيس السابق هاشم عثمان، إذ تمّ تقديم دراسات إلى جهات مانحة، إذ لم تكن هناك قدرة ماليّة لصندوق البلديّة على تمويل المشروع. وكان الوزير الأسبق حمد حسن آنذاك عضوًا في البلديّة، وعندما تولّى الرئاسة، نفّذ ما استطاع من المشروع ضمن الإمكانيّات المتاحة”.

ويضيف الشلّ “الدول المانحة لا تقدّم التمويل دفعة واحدة، بل على مراحل”، مشيرًا إلى أنّ “مشروع المكتبة تعثّر بعد انتهاء ولاية حمد حسن، إذ جاء رئيس بلديّة جديد بمشروع مختلف، ما أدّى إلى إهمال المشروع السابق”.

ويرى الشلّ أنّ “نقص التمويل لا يقتصر على مشروع المكتبة وحسب، بل يطال معظم المشاريع بسبب تحوّل أولويّات الجهات المانحة نحو أزمة النزوح السوريّ، إلى جانب التحدّيات التي فرضتها جائحة كورونا”. ويعتبر أنّ “موقع المكتبة جيّد، لكونه قريبًا من مجمّع المدارس وثانويّة الصبيان”، مؤكدًا أنّ “المكتبة بحال جيّدة على رغم غياب الأبواب والنوافذ، وأنّ ملفّها لا يزال محفوظًا في البلديّة، مفتوحًا أمام أيّ جهة ترغب في استكمال بنائها”.

رواية مشروع المكتبة

بدوره روى وزير الصحّة العامة الأسبق حمد حسن، الذي ترأّس بلديّة بعلبك بين عامي 2013 و2016، لـ “مناطق نت” تفاصيل انطلاقة المشروع الثقافيّ الذي لا يزال قيد التجميد، مدافعاً عن موقع المركز، موضحًا أنّه “لم يُختارْ عشوائيًّا أو بدافع الابتعاد عن السوق التجاريّة، بل بوصفه الأنسب لمحبّي الثقافة والعلم”. وتحدث عن أن ّقربه “من مشروع نقل بعلبك القديمة ضمن ما عُرف بـ “السور العربيّ” الذي كان يهدف إلى ربط المواقع الأثريّة في المدينة ضمن مسار واحد”.

ويشير إلى أنّ “لائحة “بعلبك مدينتي” رفعت لاحقًا مشروع استكمال المركز في برنامجها الانتخابيّ”. موضحًا أنّ “المشروع كان جزءًا من رؤية متكاملة لتنشيط الحياة الثقافيّة في المدينة، تضمّ مركزًا يحتضن مكتبة عامّة، وقاعة مدرّجة ومعرضًا دائمًا وقاعة للندوات وصالة للفنون، إلى جانب مساحات خضراء مفتوحة”. وأضاف “أنجزنا البنى التحتيّة والهيكل الخارجيّ بالكامل، لكن مع انتهاء ولايتنا، تولّى حسين اللقّيس رئاسة البلديّة، ولم يتابع مشروع المركز، على رغم انتمائنا السياسيّ المشترك”.

ويؤكّد حمد حسن أنّه بعد انتهاء ولايته في بلديّة بعلبك العام 2016، انتقل إلى اتّحاد بلديّات المنطقة، “لكن المركز الثقافيّ لم يكن من أولويّات رئيس الاتّحاد يومها، نصري عثمان”. وأضاف: “مع تولّينا رئاسة الاتّحاد، قمنا بحجز الأموال اللازمة لاستكمال المشروع، إلّا أنّ الانهيار السريع في سعر صرف الليرة اللبنانيّة سبقنا، ما جعل تلك الأموال كافية فقط لتدعيم البناء وإنجاز بعض الأعمال الخارجيّة. ومع نهاية العام 2019، اعتذر المتعهّد عن المتابعة، بعد أن عملنا لنحو ثلاثة أشهر فقط، قبل أن تتغيّر الأولويّات مع تسلّمنا وزارة الصحّة”.

مصالح خاصة تتجاوز المكتبة

من جهته ينتقد أحد الأعضاء السابقين لمدة 15 عامًا في المجلس البلديّ، يونس الرفاعي، تصريحات رئيس البلديّة الحاليّ مصطفى الشلّ، قائلًا إنّ الأخير “كان عضوًا في لجنة لا علاقة لها بالأشغال ولا يملك معلومات دقيقة عن مشروع المكتبة”. ويتابع لـ “مناطق نت” أنّ “التمويل كان ذاتيًّا، وجرى تأمينه من خلال دفعات متراكمة مستحقّة للبلديّة من أموال الصندوق البلديّ المستقلّ، ومن إيرادات الهاتف الخلويّ، وسُدّدت دفعة واحدة تخصيصًا لإنجاز مشروع المكتبة”.

وفي ما يخصّ مكتبة السوق القديمة، يشير إلى أنّ “الكتب التي كانت فيها لا تزال محفوظة، إلّا أنّ المبنى أغلق لأنّه مهدّد بالانهيار، إذ يعود إلى زمن بعيد وبحاجة إلى ميزانيّة ضخمة لترميمه”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى