عقدة السعي إلى المكانة قلق خبيث ووحل غطرسة

على الرغم من الصرامة التي يعالج فيها الكاتب الإنكليزي آلان دو بوتون القلق الناتج عن السعي إلى المكانة في كتابه “قلق السعي إلى المكانة” (Status Anxiety)، فإن الابتسامات لا تتوانى عن أن ترتسم فوق شفاه قارىء الكتاب بسبب تلك الإشارات الساخرة التي يبديها المؤلف لدى تطرقه لذلك القلق لدى الساعين إلى المكانة، بصرف النظر عن نوع هذه المكانة سواء أكانت اجتماعية أو سياسية أو دينية أو، بشكل خاص، ثقافية تقوم على التشبيك المضني من أجل نيل الجوائز وكل هذه الأمور ال…ال…ال… (كعيت!!).

“قد يكون من المغري أن نضحك ساخرين من أولئك المبتلين بتعطّش حارق لاقتناء رموز تدل على المكانة”، يقول دو بوتون، وهو يقصد بالرموز – كما أظن – تلك الجوائز المتأتية بشكل خاص، عن ذلك القلق من أجل نيل المكانة. فقلق السعي إلى المكانة هو قلق خبيث كما جاء في الكتاب، قلق هائل تراه يسوق المرء إلى دروب تعدد الأمزجة، بما يتناسب مع كل المكرسين مثلاً، إنه قلق يودي بصاحبه إلى التذرر في الشخصية، والاختراق الدبق للأجواء والتشبيك اللزج مع الآخرين، وهو ما يحوّل من تمكّن منه هذا النوع من القلق إلى كتلة دبقة لزجة، لا تكفّ عن البقبقة في كل آن وحين…فقلق السعي إلى المكانة قد يكون بمثابة الوحل في بعض الحالات.

لا يقتصر الكتاب على معالجة القلق الفردي إلى المكانة، ذلك أن ثمة  قلق جماعي من أجل الفوز بالمكانة قد يأخذ أبعاداً جهنمية، فيرمي بهذه الجماعة البشرية أو تلك، في ضروب من الوحشة والاغتراب عن كل العالم والانغلاق، إلا عن تصورات عن الذات، ترى الجماعات القلقة تلك، أنها تصورات لا يداخلها الشك من قريب أو من بعيد، فإذا بالهزائم عندئذ – وبسياق القلق الجماعي من أجل نيل المكانة – تتحول إلى انتصارات، وإذا بالفجيعة عنوان الفخر والعزة، وإذا بـ “السحاسيح” التي تنهال من كل حدب صوب، مؤشر أكثر من أكيد على التفوّق، وصولاً لاختزال كل دروب الرفعة والمكانة (الأرضية منها والسماوية) إلى صخرة مضاءة بوجه من هنا وآخر من هناك!!!!

الذعر المقيم

يتكلم دو بوتون في كتابه الجميل، عن ذلك الذعر المقيم داخل أحشاء قلق السعي إلى المكانة، وهو ذعر غالباً ما يسوق الذهن إلى عدم تلبية شروط الحاضر، ووقوع الساعين إلى المكانة في لجة العماء. ليس التغطرس الذي غالباً ما يصاحب قلق السعي إلى المكانة حسب كتاب دو بوتون إلا واجهة لذلك الذعر الجواني، ليس التغطرس في هذا السياق، إلا ملعب داخلي شديد الإتساع، يقع داخل رؤوس هؤلاء السعاة.

فإذا بالهزائم عندئذ – وبسياق القلق الجماعي من أجل نيل المكانة – تتحول إلى انتصارات، وإذا بالفجيعة عنوان الفخر والعزة

لا يبخس مؤلف الكتاب السعي النبيل إلى المكانة حقه، إنما جوهر الكتاب يناقش ذلك القلق الذي يدفع بهذا السعي إلى نمط من الكاريكاتورية الفجة أو المهينة أو، بأحسن الأحوال، المملة التي قد تختصر كل الشعارات التاريخية لهذه الجماعة أو تلك، بشعار واحد يصار إلى رفعه عند كل استحقاق، كشعار “بلّوه واشربو ميتو” على سبيل المثال… حيث الرفعة والمكانة مع هكذا شعار تبلغ أقصى كمالها!!!

يُلمح دو بوتون في عديد مقاطع كتابه، إلى أن السعي (غير النبيل) إلى المكانة، المتلازم مع القلق والروبصة والصعصعة وأحلام اليقظة الرعناء، يحمل بطلان هذه المكانة في أحشاء السعي للوصول إليها بالذات، وهي واقعة – وإن لم يتوسع بها مؤلف الكتاب – فإن عقابيلها غالباً ما تتجسّد في عدم الاكتفاء بنيل تلك المكانة المشتهاة، بل الوقوع في مغبة قلق السعي إلى مكانة أرفع، ثم أرفع، وهكذا دواليك إلى أن يتحوّل إنسان هذا القلق المهين، إلى آلة تكون الحياة حيالها مجرد رزمة من الزوربات والتشبيكات والتربصات، وصولاً للقفز والقرفصة والدبدبة والجري السريع، وصولاً إلى قطع الأنفاس (الله لا يقيمن).

بين المتملق ولاعب السيرك

بسياق معالجته للقلق المضني الذي يصاحب ذلك السعي إلى المكانة والرفعة، يفرد دو بوتون بعض مساحة إلى التملّق، إلى تلك الصفة التي يتحوّل بموجبها الكلام، عن أن يكون سبيل تداول بين الناس، ليصير بمثابة نمط مخزي من الوجود في العالم.

فآفة ذلك القلق المهلك (قلق الوصول، وهي عبارة متداولة جدًا في هذه السياقات)، آفة ذلك القلق تكمن في بعض وجوهها، في تحويل الإنسان المتملّق، إلى ما يشبه لاعب السيرك فوق حبال المنتديات والأمسيات واللقاءات السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الـ “بطيخ محمّض”، ولعله من باب الموضوعية الإشارة إلى أن ذلك التشبيه بين المتملق ولاعب السيرك هو من عندياتي وقد رأيت أنه يوافق بوفرة جل ما جاء في كتاب “قلق السعي إلى المكانة” لذلك الكاتب الإنكليزي الحركوش.

وإذا كان قلق السعي الفردي إلى المكانة ،يسوق الشخص المتملق إلى الاندراج في أفق التوقعات الجيدة للآخرين ورضاهم، فإن قلق الجماعات في هذا السياق يهندس تماهي هذه الجماعات مع قبلياتها المتخيلة، أو حاضرها الموهوم، أو مستقبلها المُشتهى حيث العالم عندئذ وجهة نظر، كل العالم عندئذ مجرد مادة يجب على الدوم إعادة سكبها بما يخفف من حدة ذلك القلق إلى المكانة…إلى الرفعة وإلى فائض الشوفة والاستعلاء…

إن التملّق كما رأى الإغريق – ويا لروعتهم – هو إهانة لا يمكن السكوت عنها حيال ما يطلقون عليهataraxia  (السكون المتأتي عن الإنهمام بالذات)

إهانة للنفس البشرية

لعله من المغري مع نهاية هذه المادة وفيما يتعلق بآفة التملّق بالذات تجاوز كتاب دو بوتون المولود في العام 1969 والقفز قليلاً إلى الوراء، إلى القرن الثاني للميلاد، إلى لوسيان (أو لقيانوس) السميساطي وإلى كتابه “مسامرات الأموات” بالذات (للكتاب ملحق بعنوان “استفتاء ميت”).

يخبرنا السميساطي (الذي وُلد عند الحدود السورية التركية اليوم) أن الإله الإغريقي هرمس ولدى سوقه الموتى الأشرار إلى الجحيم (هاديس، كما يطلق عليه الإغريق) كان يسمح لهؤلاء الموتى مهما كانت ذنوبهم عظيمة، بتبادل الأحاديث من أجل تزجية الوقت، بسبب طول الرحلة بين الأرض والجحيم، إلا أنه كان حريصاً أشد الحرص على منع فئة معينة من الموتى عن الإتيان طوال الرحلة بنأمة حرف، المتملقون.

فالتملق في العرف اليوناني القديم يشكّل إهانة للنفس البشرية، بل أن التملق بحسب هؤلاء يقع على الطرف الآخر من كل ما تغنّوا من فضائل النفس وسموّها.

إن التملّق كما رأى الإغريق – ويا لروعتهم – هو إهانة لا يمكن السكوت عنها حيال ما يطلقون عليهataraxia  (السكون المتأتي عن الإنهمام بالذات) وهو آفة يجب تلافيها حيال ما يُعرف عندهم بالـ eteutheria (الحرية التي تقوم على محض الولاء للذات)…

إله الصدفة

مع ختام هذه المادة عن قلق السعي إلى المكانة الجماعية منها أو الفردية وعن التملّق الفردي حيث الاستقتال من أجل الفوز برضا الآخرين، والجماعي حيث الانغماس في أوهام تملّق عَظَمَة الذات، وصولاً إلى الوقوع في شرك الشعوذة والأوهام، أقول في ختام هذه المادة، ليس لدينا إلا الأمل أن لا يسوقنا القدر إلى الوقوع في شر هذا القلق اللعين، وفي هذا التملق المهين.

أما أنت يا هرمس، فجلّ ما أتمناه أن أكون عند حسن ظنك، لدى سوقي إلى جهنم الحمراء، التي هي بالتأكيد أفضل من هذا العالم التريلالي، الخالي الوفاض، حيث نَزْع الهالة عن كل شيء، كل شيء بإطلاق، أفضى إلى أن لا يسعى المرء إلا إلى الجلوس مكتفياً بما بين يديه، ومستقبلاً بسكون كل قد ما يأتيه عن طريق الصدفة، بلا ركض ولا ضجيج ولا طحشة… فالصدفة – كما يقول صديق عزيز في أحد الأديرة الفرنسية في القرون الوسطى – الصدفة هي الله حين يأتي متنكراً…ولا بأس بأن يكون هرمس الإغريقي هو إله الصدفة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى