“علمني ـ يا – جبل – عامل – كيف – أرثيك” رثاء عباس الحسيني لم يتوقف

الرثاء الذي أطلقه الكاتب عباس الحسينيّ على شكل وسم (هاشتاغ) عبر صفحته “فايسبوك” منذ بداية الحرب، لم يكن مجرّد ضرورة شعريّة لعبّاس الذي طلب من أرضه أن تعلّمه كيف يرثيها. جبل عامل الذي اعتاد الرثاء حتّى صار الحزن ملفتًا وأنيقًا ومتجذّرًا في هويّة العامليّين، ولكنّ الرثاء في تنبّؤ الحسينيّ هو حزنٌ واقعيٌّ على الخسارة الكبرى التي لحقت بالعامليّين وقراهم في الحرب الإسرائيليّة الأخيرة على لبنان، والتي كانت بدورها تكرارًا للماضي، وتجسيدًا للثمن الذي تدفعه هذه الأرض في كلّ مرّةٍ ترفع صوتها بوجه الاحتلال، وتمدّ يدها نصرةً للمستضعفين، مستعرضًا بهذه العبارة وَهْم الانتصارات التي يتمنّاها المرء لبلاده، لكنّه لا يرضى بتزوير الواقع ليفرضها عليه، ولجبل عامل – أو “الجنوب” بمسماه الحديث – القدرة دومًا على العودة من بعيد، وإعداد العدّة للثأر، ولا خجل من قول الحقيقة كما هي، ولا داعي لإخفاء أيّ فصلٍ من فصول الحكاية.

“علّمني يا جبل عامل كيف أرثيك”، كيف أحفظ تاريخك وحاضرك ومستقبلك من أيدي العابثين به، وكيف أرسم صورتك الحقيقيّة بكامل ملامحها، والصورة هنا عند الحسينيّ تأخذ أشكالًا عدّة، من كلماتٍ خطّ بها كتبه التي انطلقت دائمًا من جبل عامل، وصولًا إلى تكثيف الكلمة لتصبح صوتًا، فيروي حكاية الأرض التي تعمّدت بدماء “التوّابين”، المقاومين دومًا حتّى الرمق الأخير، المنهكين بالنضال، أولئك الذين يستحقّون العيش بسلام آمنين، أولئك الذين اختار عبّاس الوقوف إلى صفّهم دائمًا، على رغم الخسارة، وعلى رغم أنّهم لم يصدّقوا في البداية أنّ خوفه لم يكن خوفًا من المجهول، ولا نفسه سوّلت له الهزيمة، فراح يبكي مستبقًا الأمور، بل هو حدس الشاعر الذي قرأ التاريخ جيّدًا، وأدرك أنّ الحاضر لا يُنذر بالخير، وأنّ الشرّ القريب والبعيد، لن يترك هذه الأرض من دون أن يصبّ عليها وحشيّته الحديديّة المستوردة ونيرانه المستعرة.

الخطر الداهم

مع إعلان “جبهة الإسناد” في اليوم الذي تلى طوفان الأقصى، استشعر عبّاس الخطر الذي سيلحق بجبل عامل وأهله، وحاول تنبيه الجميع منه، إلّا أنّه لم يلقَ آذانًا صاغية، وعيونًا تقرأ المشهد كما يقرؤه. في حديثه لـ “مناطق نت” يقول عبّاس الحسينيّ: “كباحثٍ استطعت تكوين هذه الرؤية، التي كانت واضحة من زوايا عدّة، على رغم أنّ الجميع كانوا يظنّونها حربًا قصيرة، إلّا أنّ العدوّ أكّد مرارًا أنّها ليست كذلك، وقد قرأت أنّ جبل عامل سيتعرّض لضربة كبيرة، ستكون على حساب مقاومته، وأنّ تفوّقهم التكنولوجيّ والاستخباراتيّ الذي ظهر تأثيره في أيّام الحرب الأولى، سيلعب دورًا أكبر في تحقيق هذه الضربة، لذا فالدخول في هذه المعركة هو خيار خاطئ، وحرب الإسناد أدّت إلى كارثة، وإلى تدمير القرى الأماميّة وتهجير أهلها، خلافًا لكلّ ما حاول قادة المقاومة إشاعته”.

مع إعلان “جبهة الإسناد” في اليوم الذي تلى طوفان الأقصى، استشعر عبّاس الخطر الذي سيلحق بجبل عامل وأهله، وحاول تنبيه الجميع منه، إلّا أنّه لم يلقَ آذانًا صاغية

شعار المأساة

أراد الحسينيّ أن يختزل المأساة التي توقّعها بعبارة واحدة، فاختار شعار “علمني – يا – جبل – عامل – كيف – أرثيك” ونشرها على صفحته على “فايسبوك”، بعدما تعب من شرح أنّ ما يقوم به العدوّ ليس إلّا محاولة لترويض جبل عامل، من بوّابة مقاومته، وبعد أن ارتفع عدد الشهداء جنوبًا، وأُفرغت القرى الحدوديّة من سكّانها، لقي الوسم “هاشتاغ” رواجًا بين المتابعين، على رغم الاتّهامات الجاهزة التي وجّهها له البعض، وعلى رغم التشكيك المستمرّ بجدّية ما حاول قوله.

“لديّ عديد من المؤلّفات عن جبل عامل، وقد كرّست وقتي وجهدي من أجل الحديث عمّا يحدث وسيحدث بجبل عامل إذا ما استمرّت الحرب وتوسّعت، لكن كثيرين قالوا عنّي أنّني انهزاميّ ومتشائم، وتحدّوني بألّا شيء ممّا ذكرته سيحدث”، يتابع الحسينيّ. ويضيف “تعاملت مع الحملة الشعواء التي شُنّت ضدّي برباطة جأش، وناقشت من ناقشني من أبناء المقاومة، لأنّني معروف كابن لهذه البيئة، لدي كثير من التساؤلات والملاحظات التي يشاركني بها آخرون من داخل البيئة، وكلّ ما نريده أن تستمع القيادات إلى هذه الملاحظات وتأخذها بعين الاعتبار، من باب الحرص على هذه البيئة ومقاومتها”.

مع توسّع رقعة الحرب وتوالي الضربات القاسية التي تلقّاها جبل عامل ومقاومته، أصبحت رؤية عبّاس أمرًا واقعًا، لم يجرؤ أحدٌ على نفي ما يقول أو تكذبيه، ولا مفرّ من الاعتراف به، ولم يعد ثمّة مكانٌ للأحلام الورديّة والأمنيات العاطفيّة التي لا تستند إلى الحقيقة بشيء، وذهبت كلّ الشكوك أدراج الرياح، فاسحةً المجال أمام اليقين الذي بات واضحًا.

 

“كان عليّي أن أعزل قلبي لأقرأ الأحداث كما هي، وألّا أسمح للوهم أن يدخل عقلي ويعبث به، وكثرٌ ممّن عارضوني وهاجموني في السابق وقفوا إلى جانبي، وتلاشت الحملات التي شُنّت ضدّي، وازداد حجم التفاعل معي من مؤيّدي ومعارضي المقاومة على حدّ سواء”. ويتابع الحسينيّ: “لكن ظلّ البعض يطالبني بالتخلّي عن هذا الحديث لرفع المعنويات، وأنا لا أؤمن بهذا الكلام، الواقع يقول إنّ اسرائيل ومن خلفها العالم الغربيّ وشركاته الناهبة لن يسمحوا ببقاء هذه المقاومة، وسيدمّرون جبل عامل، وقد خاضوا علينا حرب ذكيّة، استثنوا منها منشآت الدولة المدنيّة، وروّجوا بأنّهم يستهدفون حزب الله وحده، لذلك لم تخرج مسيرات عالميّة داعمة لنا، ولم يتناول الإعلام الغربيّ مأساتنا”.

يرى الحسينيّ ما حدث بأنّه “مقتلة” أخطأت قيادة المقاومة في تقدير حدوثها، “ولم تعترف لاحقًا بأخطائها، ولكّنني منذ بداية الحرب حتّى نهايتها لم أتراجع عن تأييد شبّان المقاومة الذين أطلقت عليهم لقب “التوّابين”، وأبطلت مفهوم “الانهزاميّة” الذي وصمونا به فقط لأنّنا قلنا إنّنا نرفض هذه الحرب لتكلفتها الكبرى”.

حرب تمّوز

لم تكن حرب تمّوز (يوليو) العام 2006 التي عايشها عبّاس الحسينيّ كسائر الجنوبيّين إلّا “نزهة” أمام حرب الإسناد التي شهدناها، فحجم الخسائر البشريّة والدمار كان أكبر وأقسى ولا يوجد مقارنة حقيقيّة بين الحربين.

عباس الحسيني

“لم أكن لأطلق الشعار نفسه على حرب تمّوز، لم يكن هناك هذا الفرق الهائل التكنولوجيّ والذكاء الاصطناعيّ، وقد كتبت مادّة بعنوان “التكنولوجيا تهزم مجتمع المقاومة والمقاومة”، وهذا هو ما تسبّب في حجم الخسائر الكبيرة في حرب الإسناد، وكنّا نرى هزيمتنا منذ بدايتها، فلماذا استمرّينا بها؟”، يتساءل الحسينيّ.

التوثيق

كتب الحسينيّ عن جبل عامل كثيرًا، وخطّ تاريخه في كتب ومدوّنات عديدة، وصولًا إلى حلقات على “اليوتيوب” يطلّ من خلالها الحسينيّ صوتًا وصورة لتسجيل هذا التاريخ وتوثيقه، مندفعًا بشعوره بالمسؤوليّة تجاه المنطقة وأهلها، وقد رأى في هذه الحرب تكرارًا لتاريخ هذه الأرض التي بدأت مقاومتها الأولى بوجه الاستعمار منذ الألفيّة الماضية، وصولًا إلى مقاومته الاحتلال اليوم.

في هذا الصدد يقول الحسينيّ: “عندما اندلعت الحرب، استحضرت تاريخ جبل عامل، تحديدًا ما حدث في العام 1920 عندما دخلت فرنسا إلى بلادنا، ورفعنا بوجهها راية الوحدة العربيّة، ولكنّ العرب تخلّوا عنّا، وتُركنا لمصيرنا، وفي وقتٍ كان يتمّ سحقنا في جبل عامل، كانت المكوّنات الأخرى المارونيّة والسنّيّة توقّع على إعلان لبنان الكبير وتتقاسم المناصب، لتعود فرنسا وتقدّم للشيعة يد العون”.

يتابع: “وهذا ما حدث اليوم، أميركا كانت تقف خلف اسرائيل في حرب تدميرنا، وقد تُركنا لنتحمّل وحدنا وزر مناصرة القضيّة الفلسطينيّة، بينما كان الآخرون يطبّعون وينسّقون، لتعود أميركا وتطبطب علينا بعد سحقنا”.

من الفيديوهات المصورة التي ينشرها عباس الحسيني عن تاريخ جبل عامل

عن التحوّل نحو نشر ڤيديوات مصوّرة يحكي فيها عن تاريخ “جبل عامل” يقول الحسينيّ: “كنت أعتمد الكتابة سابقًا، لكنّ الناس لا يقرأون، وكنت قبل الحرب قد اشتريت معدات لازمة للمشاركة في حوارات ثقافيّة، ولمّا وجدت أنّ الناس مهتمّون بمعرفة تاريخ جبل عامل، قمت وصديق لي بإعادة سرد هذا التاريخ في مقاطع مصوّرة مقتضبة بما يتناسب وعصر الـ “سوشيال ميديا” الذي نعيش فيه، مع ذكر المصادر والكتب التي تمّ ذكرها.

بين “جبل عامل” و”الجنوب”

“سُمّي “الجنوب” عندما صار لبنان الكبير، لكنّه بالأصل ومنذ آلاف السنين، كان اسمه “جبل عامل”، وقد غنّى أحمد قعبور لجبل عامل باسمه الأصليّ، تيمّنًا بأقدم قبيلة سكنت لبنان، قبل أن يغيّر الانتداب من شكل المنطقة وأسماءها”.

يتابع الحسينيّ: “كان بإمكاننا ان نحتفظ بالاسم لو أنّنا رضخنا للانتداب ونسّقنا معه، لكنّنا لم نفعل، وقد كان أجدادنا “اسماعيليّين” قبل أن نتحوّل إلى الإثني عشريّة، وهذا التاريخ الذي يرفض البعض أن نقوم بالحديث عنه، يريدون اجتزاء الماضي وتحويره، ولا يمكن قراءة مستقبل المنطقة من دون قراءة تاريخها”.

الحسيني: سُمّي “الجنوب” عندما صار لبنان الكبير، لكنّه بالأصل ومنذ آلاف السنين، كان اسمه “جبل عامل”، وقد غنّى أحمد قعبور لجبل عامل باسمه الأصليّ، تيمّنًا بأقدم قبيلة سكنت لبنان

الثمن

يدفع العامليّون ثمن تقاربهم الجغرافيّ مع فلسطين المحتلّة، والكيان الإسرائيليّ الغاصب، فلطالما كانت نصرة المستضعفين سمتهم الأولى، والثورة طريقهم الوحيد الذي لا يحيدون عنه مع تبدّل الأزمان والأعداء.

“ستّون عامًا ونحن ندفع الثمن، التحق آباؤنا بمنظّمة التحرير الفلسطينيّة والأحزاب اليساريّة، ثمّ الحركة الوطنيّة، المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة “أمل”، ثمّ المقاومة الإٍسلاميّة “حزب الله”. هذا الجبل ثائر دومًا، ولهذا سيدفع الثمن دائمًا، ما دامت اسرائيل موجودة، سنقاوم بوجهها” يقول الحسينيّ.

مستقبل جبل عامل

أمام حجم الكارثة التي حلّت بجبل عامل وأهله، يستلزم الأمر سنوات طويلة لإعادة إعمار ما خسرناه، ولملمة الجراح.

“هناك ما لا يقلّ عن عشر سنوات من الاستقرار والهدوء الذي ستعيشه المنطقة، وهو شبيه بما حدث في عشرينيّات القرن الماضي، لكنّ الثأر قادم، بعد عشرين أو ثلاثين عامًا لا يهمّ، لكنّه قادم، وهو ثأر كبير من أجل آلاف الشهداء والجرحى، ولأجل سيّد هذه المقاومة”.

يختم الحسينيّ: “أمّا اليوم فانتصارنا هو التقيّة، والعمل على ترميم الثغرات، ووضع رؤية مستقبليّة تجاري التطوّر التكنولوجيّ والذكاء الاصطناعّي الذي يمتلكه العدوّ، ثمّ – إن ينصركم الله فلا غالب لكم-“.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى