علويّة صبح تحكي والعالم يدور
“الناس نيام، فإذا حكوا انتبهوا. والدنيا منام، لا ينتهي، أو نفيق منه إلّا حين نحكيه ونتذكّره.”
مَشت بنا علويّة صبح على مدار إنتاجها السرديّ مسافات طِوال، غاصت في غياهب المحظور، وباحت بالمسكوت عنه. طرقت باب اللاعودة، وبلّغت عن كلّ قيَمنا المدّعاة، عرّتنا علويّة صبح حتّى صرنا نخشى النظر في المرآة، صفعت الذكورة المسترجلة، وحكت عن أوجاع النساء، وليس لأنّها أُنثى انحازت إلى نسويّتها ومالت عن خط السواء بل رصدت الواقع بكلّ إشكاليّاته من دون تحيُّز.
في كتابات علويّة صبح، ترتسم ظلالنا تحت أشعة جرأتها وشجاعتها في الحكي من دون “رتوش”، سرد من شدّة واقعيته يحسبه الظمآن ماءً، فيغوص فيه حتّى الغرق في عالمنا المغيّب، يراوح بين زمان مضى ومخاوف يلوكها الحاضر.
إن حكت علويّة.. شهرزاد
حكت علويّة صبح في أكثر من مقابلة لها عن إعجابها بشخصيّة الحكّاءة شهرزاد، وبان ذلك جليّاً في مريم الحكايا، روايتها الأولى، وما كرّ من سُبحتها بعدها من روايات.
“الناس نيام، فإذا حكوا انتبهوا. والدنيا منام، لا ينتهي، أو نفيق منه إلّا حين نحكيه ونتذكّره.”
هي إبنة بلدة كفردونين الجنوبيّة، وُلدت في الأشرفيّة. تتحدّث في مقابلة لها كيف كانت في طفولتها كثيرة الملاحظة، تهتمّ بتفاصيل المشاهد العابرة، تراقب تحرّكات النساء وصراعاتهنّ، وكانت تقلّد “رندحاتهنّ“ على طريقتها الساخرة، فتثير ضحك الحاضرين حتّى تبكي هي ولا تعرف ما بها.
لم يكن لها انتماء سياسيّ واضح، ولكنّها انخرطت في ميادين النضال، تفتّح وعيها السياسيّ مبكراً، وقد تأثّرت بالأفكار اليساريّة والأجواء التي كانت سائدة زمن الحركة الوطنيّة. لكن، ومع اشتعال الحرب الأهليّة في العام 1975 تكسّرت الأحلام كما تقول علويّة، اتّجهت لتخوض مجال التعليم الثانويّ، كونها خرّيجة كلّيّة التربية وحائزة على شهادة بكالوريوس في الأدب العربيّ والأدب الإنكليزيّ في لبنان، لكنّها ما لبثت أن تركت التعليم غير آسفة لتتفرّغ للكتابة والصحافة.
البدايات والصحافة
كانت بدايتها الأولى مع “نوم الأيام” وهي مجموعة قصص قصيرة نُشرت ما بين العام 1982 والعام 1984 في صحيفة “النهار”، ولاحقا جمعتها في كتاب، كان ذلك في العام 1986.
اشتغلت علويّة في الصحافة، في صحيفة “النداء” وفي “النهار”، وكتبت اسكتشات مسرحيّة لبرنامج “ابن البلد”. حرّرت في القسم الثقافيّ لمجلّة “الحسناء” وأصبحت لاحقاً رئيسة تحريرها. وفي التسعينيّات أسّست مجلّة “سنوپ الحسناء”، وخاضت غمار التحقيقات، يوم كان للمجلّة وزنها. غذّت التحقيقات موهبتها كما –تُصرّح – وصقلت كتاباتها. كُرّمت في العديد من المراكز الثقافيّة العربيّة والأجنبيّة. نالت جوائز تقديريّة. صدرت روايتها الأولى بعد خمسة عشر عاماً من الغياب عن الكتابة السرديّة.
في “مريم الحكايا” تجاوزت علويّة ما نعرفه إلى ما لا نجرؤ على الحديث عنه. تحدّثت عن الوجه المُغيّب للأمومة المظلومة، “تتأخّر عن الإلتحاق بنا لتتأكّد من أنّها مظلومة، وتقتنع بالأمر وترتاح له”.
عن اللاوعي الجمعيّ الذي يختزل الأمّ في دور القداسة، حتّى نراها بلا غريزة وبلا مشاعر: “أمومتها تجاهي جعلتني أحسب أنّها بلا مشاعر مثل باقي البنات، وأنّها أمّي الثانية.” و”حين يصبحنّ أمّهات لا نراهنّ في صورة الأنثى أبداً، لا تحسب أنّ لهنّ أجساد النساء”.
السخرية في مواجهة الواقع
لجأت إلى السخرية كوجه من أوجه المواجهة مع الواقع، وأحياناً كانت سخرية منقوعة بالدّم لشدّة مأساويّة المشهد، كما في قصّة نبيهة التي تحرّشت بل واغتصبت كميل الذي يعاني من ضعف في قدراته العقليّة في “مريم الحكايا”، حيث المكبوت والجوع للآخر عند المرأة التي تتغيّر في لحظات غرائزيّة. تناولت العنف على المرأة بأشكاله المعنويّة والنفسيّة والجسديّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة كافّة. حاورت القمع والصّمت، واستنطقت ما قتلته الحرب في النفوس في خلال عبثيّتها القاسية.
هذه الحرب التي- كما تقول- أجهضت حلم الحداثة، وكشفت عن انفصاميّة الرجل وخلفيّته القبليّة: “وأحياناً يخيّل لي أنّ الحرب لم تحدث. ذات يوم ضجر ناسُ المدينة من السلم. وأحبّوا أن ينسوا فذهبوا إلى النوم. دخلت المدينة لتنام في ليل 14 نيسان 1975 فحلم جميع الناس بالحرب. ربّما المرّة الأولى في التاريخ التي يشترك فيها آلاف الناس بحلم واحد، نوم الأيام”. و”انغلقت المدينة على ذاتها، وانغلق كلّ فرد على ذاته، وكلّ طائفة على ذاتها، وكلّ وجه على ملامحه”.
كاشفة الأسرار
تؤمن علويّة صبح– كما صرّحت في إحدى مقابلاتها- أنّ العلاقة بين المرأة والرجل كاشفة لأسرار كثيرة، للمجتمع، الذهنيّات التي تتحكّم بالعلاقة بين المرأة والرجل، لمفاهيم اجتماعية، الكتابة عن الجسد لا يمكن أن تُختزل بالجنس، فهو حياة بأكملها، العلاقة مع الآخر كاشفة للذّات الإنسانيّة ومضيئة على كل ما في خفايا المجتمع .
أحياناً يخيّل لي أنّ الحرب لم تحدث. ذات يوم ضجر ناسُ المدينة من السلم. وأحبّوا أن ينسوا فذهبوا إلى النوم. دخلت المدينة لتنام في ليل 14 نيسان 1975 فحلم جميع الناس بالحرب. ربّما المرّة الأولى في التاريخ التي يشترك فيها آلاف الناس بحلم واحد، نوم الأيام
في مكمن ما تبدو رواياتها للقارئ المبتدئ مواربة على التلصّصيّة، تفتح في المجال للكشف والاكتشاف المرمّز بعبارة “بلا معنى” كما كانت نبيهة توارب جوعها الجنسي عند كلّ كلمة تتلفّظها أمام رجل. لتلك العلاقات المحمومة والتي في أبعادها تحمل دلالات تشير إلى العديد من الإشكالات النفسيّة والمجتمعيّة، البعيدة عن كونها حبًّا فطريًّا، إنّه الحبّ المجبول بصراعات الثقافات: “بتعرفي بسّ أنا وفوقك هيك بحسّ إنّي مسيطر عليك وإنّك بين إيديّي؟”، وهو الحبيب نفسه الذي يترك حبيبته بسبب شرشه الطائفيّ الذي يحتّم عليه الزواج من ملّته ومن فتاة عذراء.
في أكثر من مشهد تصوّر علويّة هذه الإشكاليّة، إشكاليّة المرأة التي تصدّق انفتاح الرجل، والرجل الذي يدّعي الإنفتاح قولاً، ويمارس القمع والانغلاق على معتقداته فعلاً وسلوكاً، هذا السلوك الذي غذّته الحروب المتعاقبة، وأحدثت شرخاً في العلاقات الإنسانيّة، وكانت الشخصيّات الشعبيّة خير ناقل لها، تقول: “الذاكرة الجَماعيّة الشخصيّات الشعبيّة كاشفة حيّة وفيها قاع المجتمع وحقيقته”.
عكست من خلال الشخصيّات التي اختارتها فطرة الرجل التي طبّعتها البيئة القرويّة، نظرته المنتقصة والتي عكستها الأمثال الشعبيّة، وشبّهت المرأة بالسجّادة التي تحتاج للنفض والضرب، علاقته بالمرأة كأداة لا يعترف بإنسانيّتها. وعن النساء اللواتي اقتنعن بأدوارهنّ كغاويات. حتّى صار الجنس في بعض المواقف بعبع المرأة، وهو نجاسة كما تقول أمّ البطلة مريم: “الرجّال إذا قرّب منّك نجّسك، وإذا بعّد عنّك جرّسك”.
وتحدّثت عن نموذج ما بعد الحرب، ابن المدينة، رصدت المأزق الإنسانيّ الفرديّ والمجتمعيّ بسبب الحرب، والعلاقة بالغرب والهويّة الشرقيّة: “منعني أخي جواد من مغادرة البيت والذهاب إلى الجامعة، على الرّغم من أنّه كان تحدّث في الندوات السياسيّة عن العلمانيّة، وضرورة إلغاء الطائفيّة، وشعارات كبيرة لم يكن يفقه منها شيئاً”.
كسرت علويّة اللغة الذكوريّة السائدة وخرجت من دائرة التماهي مع الرّجل المتسلّط، وهي القائلة: “على المرأة أن تشارك في انتاج المعرفة وليس استهلاكها فقط”.
مجدت الحب والأنوثة في “اسمه الغرام” لأن المرأة لم ترفض تغيرات الزمن في جسدها، في شخصية نهلة، عبرت عن أحاسيس المرأة، في مشهد الرضاعة سألت النساء ما الذي يمكنهن شعوره أثناء الرضاعة. ونقلت المشهد بحرفيته وفنيّته الحسيّة العالية.
في “دنيا” مثّلت المرأة الضعيفة في عالم ذكوري، يصاب زوجها بالشلل ويقود حياتها بحركة عينيه: “صار لمالك أهمية أكبر في حياتي منذ أن أصيب بالشلل.أما أنا فلم أعد بالنسبة إليه أكثر من خادمة لا يستطيع الاستغناء عنها، أشيله وأحطه،.. لا يكف عن مناداتي، يأمرني أن أحك له جلده… تتلاحق طلباته بأسرع مما تتلاحق أنفاسي، يلقيها علي بشراسة وبنبرة من يأمر عبداً مطيعاً.. وخوفي منه ضبعني وشلّ إرادتي.. كأنني أدمن خوفي..”
في المقهى
في إحدى مقابلاتها تصرّح علويّة بأنّها تفضّل الكتابة في المقهى كجزء من عاداتها ككاتبة، تهرب من شخصيّات روايتها التي لا ينتهى الجدل والصراع بينها، ولكي تهرب من ضجيج وحدتها أمام حركة الناس، وهي القائلة: “في المقهى تتلاشى الأصوات وأشعر بالأنس”.
“منعني أخي جواد من مغادرة البيت والذهاب إلى الجامعة، على الرّغم من أنّه كان تحدّث في الندوات السياسيّة عن العلمانيّة، وضرورة إلغاء الطائفيّة، وشعارات كبيرة لم يكن يفقه منها شيئاً”
وفي مقطع من رواية “اسمه الغرام” تنقل هذا المأزم: “حين اقتربت من النقطة الأخيرة للرواية، أحسست بأنّني محاصرة. أذرع نهلا وسعاد وعزيزة ونادين وبطلات الرواية وأبطالهنّ كلّها التفّت حول عنقي. كدت أصاب بالاختناق ولم أعد قادرة على احتمال الجلوس أمام مكتبي. تركت الأوراق وهربت من البيت…”
تحدّثت علويّة عن العلاقة مع الجسد المقموع، عايشت تجربة المرض الذي أقعدها عن الكتابة لسنوات، حيث كانت تصاب بتشنّجات عصبيّة، وبعد انقطاع عادت برواية “أن تعشق الحياة” من خلال شخصيّة بطلتها “بسمة” ومن خلال انفعالاتها، بعثت رسالة أمل عن تجربتها مع جسدها والمرض، وهي تحاول استعادة ذاكرتها، التماهي بين مرضها وما سمّي بثورات الربيع العربيّ.
تحّدثت عن الحبّ، وكان سردها شاعريًّا يتناسب مع طبيعة الشخصيّات التي تمتهن الفنّ. تماثل بين الجسد المخرّب والمدن المخرَّبة، التحوّلات بين الأفكار والمعتقدات. وفي منحى ما تحدّثت علويّة عن مرضها، الذي لم يمنعها من الذهاب إلى المقهى لتكتب آلاف الأوراق وتتلفها بعد ذلك لعدم وجود رابط بين الكلمات والجمل المكتوبة.
في عالم علويّة صبح الروائي حيوات كثيرة، حيث الرواية التي ترصد الواقع، تفكّكه وتحلّله، تعيد أَفهمة المواقف، تقيس المساحة بين الوعي واللاوعي النفسيّ والاجتماعيّ حتى تصل إلى قوّة الإدراك، عالمٌ مظلمٌ تضيئه الحكايا فيرتدّ على نفسه بصيراً: “الظلام يعود كلّ ليلة ليطبق على دنياي، ولا شيء يضيئه غير الحكاية”.