على مهلكَ يا جنوب.. تريّثي أيّتها المرحلة
أعرف أنّك تضوج من النعي، وأنّني لو كنتُ في ذلك البيت العائم على صخرة فوق صيدا لكنت ستنعاني الآن، وما كان ليحزنني بشيء. ولكنّني خرجت قبل سنوات من ذلك البيت، ومسحت على جدران الغرفة قبل الرحيل وأودعت فيها رسالةً للقادمين، لمن سينام في سريري بعدي، ولمن سينفث سيجارة بالسرّ ويطفئها على حافّة الشبّاك المهترئ، ولمن سيهوي شهيدًا من الطابق الخامس بدلًا مني.
ولكنّني لا أنعى شهيدًا هنا، ولا أنعى البيوت، ولا جارتنا الغريبة، ولا أنعى الغرفة، ولا مدرّس الفيزياء، ولا شقيق مدرّسة اللغة العربيّة، ولا صديقتي الأرملة التي لم تتخطّ العشرين من عمرها، ولا أنعى مليكة التي تعرف نفسها، ولا شجرتيّ الزيتون الواقفتين وحدهما على ظهر أرض جدّتي في حومين.
إنّني أنعى المرحلة، لأبناء جيلي، لكلّ بيت في الجنوب، ولكلّ قطرة دمٍ في الجنوب، ولكلّ قريةٍ مسح عليها صوتٌ “حسنٌ” في جبل عامل، ولأهلي الذين كانوا، والجيل الذي مضى، ولمن سيأتي، أقول: “تنقّلت في بيوت كثيرة وعشت بين جدران ظنّنتها أبديّة، ومع كلّ رحيل تركت خلفي حَمَامًا للمستأجرين بعدنا، ولم أعد أعرف اليوم إن كانت رسائلي تلك لعنة أم هي مجرّد مصادفة حتميّة.
لكن البيوت لم تعد بيوتنا، عادت إلى كينونتها وصارت ملك الأرض وحدها، وأرجوحتي الحمراء التي وقف الصاروخ فوقها محدّقًا بها وهي تهزّ جسدي الصغير، انتشلتني جدّتي منها وتركتها ترتجف ثلاثة وثلاثين يومًا. ظلّ يهزها تمّوز في ساحة المنزل، بينما اختبأت في الغرفة بين يديّ جدّتي، بقعة داكنة. ألا ترتجف البيوت؟
البيوت لم تعد بيوتنا، عادت إلى كينونتها وصارت ملك الأرض وحدها، وأرجوحتي الحمراء التي وقف الصاروخ فوقها محدّقًا بها وهي تهزّ جسدي الصغير، انتشلتني جدّتي منها وتركتها ترتجف ثلاثة وثلاثين يومً
لا شيء يمشي على مهلٍ، وما عدت أحصي البيوت التي سكنتها، ولكنّني أعرف البيوت التي شقّتها الصواريخ واخترقت فيها ذكرياتنا من بُعد. يقولون إنّ فتاة اسمها جوليا و72 شهيدًا قضوا نتيجة غارة سقطت فوق مبنى في عين الدلب. بعثت أمي رسالةً تقول: “ذلك بيتنا القديم، أتذكرين؟”. أذكر يا أمّي، أوهل عزيزة بخير؟ أجابت: جارتنا “النكتجيّة” بخير، كانت قد ذهبت صدفةً لزيارة أمّها، ولكنّها لم تعد إلى البيت. قلت: أوهل يسكن عاقلٌ فوق أجساد أهله؟
ثمّ بعثت لي برسالة فيها اسمي مرفقٌ بعلامة استفهام وقالت إنّ جارتنا التي لم نعرف اسمها طوال سنوات استُشهدت في الغارة. أمّي تقول إنّها جارتنا التي كانت على خلافٍ مع عزيزة، ولا تتذكّر اسمها وأنا كذلك. أمّا ذاكرتي فقالت إنّها جارتنا الغريبة التي لم أعرف صوتها أو شكلها، لم أعرف إلّا عزفها على البيانو، ولا أذكر منها إلّا جزءًا من وجهها وهو يطلّ علينا من باب بيتها. كنت أظنّها تسترق النظر، ولكنّها كانت تمسح بوجهها في ذاكرتي. أمّا ابنتها جوليا فقد دعتني أمّي مرة للتعرّف عليها لترميم دائرة أصدقائي، ولكنّني لم أفعل، وربّما كان ذلك أفضل.
أمّا الآن وبعد أن عرفت اسمها وهي شهيدة، فسأحاول ألّا أذكره بتاتًا، أريدها أن تبقى غريبة تطلّ بجثمانها عليّ من باب بيتها المحطّم، وتطلّ عليكم بما ذكرته لكم فقط.
أحاول أن أفكّر بآخر لحظات كلّ من قضوا، وأشعر بالأسى. ماذا كانوا يفعلون؟ ماذا كانت تفعل جارتنا الغريبة؟ هل كانت تعزف البيانو وعندما ضغطت على نوتة “دو” الغليظة، هبط المبنى فوق رأسها، أم كانت تقلّم أظافرها ولم تنتهِ بعد، أم كانت كعادتها تكنّس عتبة البيت وتنتظر أحدًا من جيرانها كي يخرج وتتبادل معه الأحاديث وتدمل وحدتها؟ ماذا كان يفعل كلّ الضحايا؟ هل كانوا يفكّرون بضحايا آخرين؟
يقولون أنّهم سيعمّرون بيوتنا مرّة أخرى، سيرمّمون في الأماكن إحساسًا جديدًا، وستولد للموتى بدائل وللأيتام أيتامٌ، وسيزرعون لنا بدل شجرتيّ الزيتون أشجار لؤلؤٍ، وبدل الشهيد ألف شهيد، وفي الطريق المقطوع سيمدّون لنا صراطًا، وسيحكون لأولادنا عنهم وعنّا: هنا كان فرن أكرم، وهنا صالون زينب، هنا الليطاني. يقولون أنّهم سيعمروا ذكرياتنا مرّة أخرى والحطام وجثث أسلافنا والإيمان.
في الجنوب تُقصف بيوتنا ولا تسقط، أشاهدها وهي تهوي وألحظ ركوعها للأرض قبل أن تصير حطامًا. ربّما لو هدمت بيوتنا الأعاصير لما اختزنّا كلّ هذا الحزن. لو كان الصاروخ ينطلق من الأرض، عن يمينك، عن شمالك، من بين يديك، من خلفك المحصّن، لما كان الخوف مثل الذي يحدثه صاروخ يأتي إليك من السماء.
هذا الصاروخ هدم كلّ البيوت في حيّ جدّي، ولكنّه لم يهدم بيته، بقي وحيدًا في المدى. في آخر زيارة لي إلى الضيعة، أيّ قبل الحرب بشهرين، حسدتها كثيرًا وقلت لأمّي إنّ ضيعتنا صارت أشبه بالمدن. ولكنّها يا أمّي لم تعد كذلك، هُدمت كلّ الأماكن “البرجوازيّة” فيها، ولا أعرف إن كان يحزنني ذلك، لأنّ تلك الأبنية والأماكن حجبت عنا الرؤية.
ولكن ها أنّنا عدنا إلى ما قبل الـ 2006، حين كنت أقف على شرفة بيت جدّي وأرى الضيعة كلّها، مساحات على مدّ عينيك والنظر. عدت أرى صالون خالتي زينب وأكرم الذي لا يخبز المناقيش بقدر ما ينظر إلى نسائنا ويتغزّل بهنّ، وأرى متجر المؤونة، ومحلّ الكومبيوتر، وصبايا النبطية اللواتي يتغندرنَ أمام شجرة التين متوجّهات نحو الدّكان في كعب الطريق.
يقولون أنّهم سيعمّرون بيوتنا مرّة أخرى، سيرمّمون في الأماكن إحساسًا جديدًا، وستولد للموتى بدائل وللأيتام أيتامٌ، وسيزرعون لنا بدل شجرتيّ الزيتون أشجار لؤلؤٍ، وبدل الشهيد ألف شهيد
أحزن لأولئك البسطاء الذين يُستشهدون، أولئك الذين لم يروا من العالم كلّه غير “الضيعة”، لم يعرفوا سوى تلك الأشجار وتلك البيوت وتلك الأحياء وتلك الوجوه. يذهبون صباحًا إلى دكّان اللّحام، يصنعون الطعام لأطفالهم، يجنون المال قوت يومهم، وينامون باكرًا نومًا هانئًا على وسادةٍ أجمد من حجر، ويستيقظون في الفجر سعداء وشاكرين.
أولئك الذين يشبهون القرى، يتشبّهون بها وتتشبّه بهم. إذا سألتني كيف تبدو مشغرة أجيبك بأنّها تبدو كوجه خالة أمّي. إذا سألتني كيف تبدو النبطية أجيبك إنّها كوجه جدّي. وجوهنا، نحن أولاد القرى مطبوعة فوق تلك الأراضي المشتبكة، حتّى نحن الذين رأينا كلّ شيء، ما فتئنا لم نرَ من العالم كلّه غير الضيعة.
على مهلكِ يا بيوتنا، على مهلٍ أيّها الصاروخ، على مهلكِ يا زيتونة، على مهلكِ أيّتها الجهات، على مهلكِ يا ذاكرة، على مهلكِ يا جدّتي، على مهلكِ أيّتها المرحلة، على مهلكَ يا أبي، تلوّح لنا من بعيد ويسرق الباص السريع تلويحك وينطلق بنا إلى الجنوب. على مهلكِ أيتها الرايات الصفراء، على مهلكِ يا ليالي القدر، على مهلكَ يا حقل جدي، قد يموت العجائز حسرةً، على مهلكَ يا حُسين حتّى نعود ونبني لك خيمًا من البكاء، لا بل جبال، لا بل جنوب يتفوّق على المرحلة.