علي حليحل حارس التراث.. الخيل والعتابا والدبكة تعرفني

“مدينة الشمس”، إذا أغمضنا أعيننا بعد سماع اسمها، لا نستطيع سوى تخيّل أعمدتها الستّة الشامخة، والشمس تُلقي باصفرارها الحارق عليها وتعبر بينها. يلوج صوت الفنان علي حليحل فورًا في ذهننا، ليزيد في خيالنا حنينًا إلى المدينة التي احتضنت الفنّ الأصيل وحافظت على التراث، ورحّبت بكبار الفنّانين اللبنانيّين والعرب والعالميّين.

منذ بداياته، اتّخذ علي حليحل التراث الأصيل عنوانًا لفنّه وأسلوب حياته، فأحيا الفولكلور بصوته، وصقل موهبته الغنائيّة والأدبيّة، وأحبّ الخيل والدبكة. كتب الشعر بكلّ أنواعه، ورقصت على أغانيه فرقتا “كركلّا” و”فهد العبدالله”، وغنّى له عمالقة الفنّ اللبنانيّ. وعندما سُئلت فيروز عن الصوت التراثيّ الأحبّ إلى قلبها، أجابت باسمه: “علي حليحل”.

هو واحدٌ من أبرز الأصوات التي حافظت على الغناء الشعبيّ البدويّ والفولكلوريّ في لبنان. أدخل إلى العتابا البعلبكيّة مزيجًا من اللهجات الشرقيّة، مستوحاة من بادية الشام والرقّة ودير الزور، ومن اللهجة “الغرباويّة” لمناطق بشرّي والأرز، ما منح أسلوبه طابعًا خاصًّا.

“مناطق نت” التقت الفنّان علي حليحل، فتحدّث طويلًا عن بعلبك والتراث، والفنّ ما بين الماضي والحاضر، لكن كعادة الأحاديث التي تعود إلى البدايات ومنها بدأ علي حليحل.

ذاكرة البداوة والفلاحة

يرى حليحل أنّ الانتماء إلى التراث لا يُكتسب بالتقليد، بل هو خَلقٌ فطريّ، “ليكون الإنسان تراثيًّا، يجب أن تكون روحه خُلقت من الله، مُحبّة للتراث. الموهبة أساس، لكنّها تحتاج إلى الصقل والخبرة”. يتابع حليحل حديثه لـ “مناطق نت” عن بداياته قائلًا: “منذ وعيي الفنّي كنت أستمع إلى الأغاني البدويّة القديمة، على رغم رواج أغنيات من نوعٍ آخر في الراديو والتلفزيون. أحببت التراث وكرّست له حياتي، حتّى حين نصحني البعض بمتابعة الأغاني التي كانت رائجة آنذاك.”

الفنان علي حليحل 

يؤكّد الفنان حليحل المُكنّى بـ “أبو أسعد” أنّه منذ مراهقته كان يختلط بالقبائل والعشائر العربيّة، ويجلس إلى كبار السنّ ليستقي من خبراتهم، يقول: “كنت ألتقي رجالًا قاربوا الـ 100 عام ومنهم أكثر، لأغرف من معارفهم. هكذا تراكم لديّ مخزون من البداوة والفلاحيّة، فاللون الفلّاحي ابن البدويّ، والجبليّ ابن السهليّ.”

يشير حليحل إلى أنّه بدأ مشواره الفنّي في العام 1974، وكان في سنّ مبكّرة في الـ 14 من عمره، حيث واجهه أحدهم بأنّه لا ينفع للغناء نظرًا إلى صغر سنّه، فتحدّاه بكلام ارتجاليّ:

«بيتك عالعِزّ والتُقى عَمرو
ولا تفرِّق بين زيدٍ وبين عَمرو
علي أدّيش كان عُمرو
عند ما زيدٍ بِسيفو ضَرَب.»

فحُمل بعدها على الأكتاف إعجابًا ببلاغته وسرعة بديهته.

بعد سنوات نصحه زكي ناصيف بالتوجّه إلى “استديو الفن”ّ ليعطي مسيرته الحيويّة اللازمة. كان ذلك في العام 1982.

بعد الحديث عن بداياته التي لم تكن عاديّة، نسأله عن اليوم، وإذا ما كان يعتبر نفسه ظُلِم إعلاميًّا ولم يحظَ بالتغطيات التي يستحقّها.

يُبدي حليحل رضاه عن مكانته وشهرته، إلّا أنّه يُعبّر عن امتعاضه من الذين “يتطاولون على التراث ويدّعون حبّه لتحقيق مكاسب إعلاميّة”، ويشير إلى أنّ: “هناك من يدفع المال لبعض المخرجين ليُستبعد اسمي من البرامج، لكنّني مكتفٍ بمعرفة الناس لي وتقديرهم لفنّي.”

عندما سُئلت فيروز عن الصوت التراثيّ الأحبّ إلى قلبها، أجابت باسمه: “علي حليحل”

عن أصل التراث وجذوره

كان لا بدّ من أن نسأل حليحل عن أصل الموّال وجذوره، فيردّ: “التراث ككلّ مصدره العراق ونَجد. غالبيّة التراث جاء من العراق، وهو بلدٌ أدبيٌّ وشعريّ. جاء التراث منه، ومرّ بسوريا حتّى وصل إلى لبنان، وأصبح لهذا التراث هويّة خاصّة في كلّ بلد.”

ويشير حليحل إلى إنّ لبنان لم يعرف الموّال بالمعنى التقليديّ، بل امتاز بألوانٍ أخرى مثل الشروقي والعتابا والحِدا، مشيرًا إلى أنّ حتّى العتابا “أصلها عراقيّ” وقد تطوّرت في لبنان واكتسبت لحنًا ولهجةً محلّيّة.

ويضيف: “في بعلبك تحديدًا، تختلف اللهجة في متانة الكلام والقافية، وكسرة الميجانا البعلبكيّة. ما من أحدٍ يسبق عليها”.

لا يرى حليحل في التراث مجرّد غناء، “بل منظومة فخرٍ وهويّة. الله خلقني صاينًا وحاميًا هذا اللون، مثل عرضي وأهلي”، يقول بفخر. ويشير إلى أنّ بعلبك كانت منطقةً أميريّةً، يحكمها آل حرفوش، وكان الشعراء يصفّون قصائدهم لسنوات قبل أن يقدّموها أمام الحكّام خشية النقد الصارم:

“في بعلبك المدح والندب فيه قوّة عجيبة، لم أرَ مثلها إلّا هنا.”

الدبكة والخيل والشعر… وجهٌ واحد

ينطلق حليحل للحديث عن الفنّ الذي تبنّاه منذ بداياته وعن علاقته الخاصّة بالتراث. يصرّ على أنّ اللهجة التي يقدّمها بعلبكيّة ممزوجة بالبدويّة، وأنّ “كثيرين اليوم يؤدّونها بشكلٍ خاطئ، لأنّهم لا يفهمون معانيها. هناك أصوات نابعة من البيئة البعلبكيّة، وليست كمن يقلّدها ولهجته مدنيّة.”

نسأله عن الأغنية المحبّبة إلى قلبه بين جميع أغنياته، فلا يميّز بينها “كلّها حلوة”، يقول ضاحكًا، قبل أن يذكر “يا ميّة هلا طلّو” و”يا يمّا قولي لبويا” و”طلّي يا كحيلة صوبي”. ويشير إلى أنّ معظم أغنياته تراثيّة قديمة، أضاف إليها كلمات جديدة، فغنّاها كثيرون بعده.

يُعرف عن حليحل عشقه الشديد للخيل، فنضعه أمام الاختيار بين الخيل والغناء، لكنّه يرى أنّ التراث البعلبكيّ هو نسيج واحد، يجمع بين الدبكة والخيل والغناء والشعر “كلّهم متمازجون مثل أكلةٍ ببهاراتها.” ويستشهد بقول عنترة بن شدّاد: “إن لم أكن أشعرَهم أكن أفرسَهم، وإن لم أكن أفرسَهم فأشعرَهم”، مشيرًا إلى أنّ الشعر والخيل توأمان في الثقافة الفروسيّة. هنا، يستذكر أمراء آل حرفوش الذين كانوا يصفّون الرمح والخيل في مئات القصائد.

هل يبقى التراث؟

بعد الحديث عن الشعر والخيل والدبكة، نسأل حليحل عن حال التراث اليوم، وعن العتابا إن كانت ما زالت حاضرة وتحظى بجمهورٍ واسعٍ فيقول: “لم تفقد جمهورها، لكنّ جمهورها اليوم في القرى. من يعشْ في العاصمة يحبّها، لكن نمط الحياة السريع لا يسمح له بسماعها لطول مدّتها.” ويلفت إلى أنّه لهذا السبب يضيف بين أغنياته أهازيج وأناشيد قصيرة لتجنّب الملل لدى المستمعين.

بالنسبة إلى التراث بشكله الأوسع، يؤمن حليحل بلزوم حماية التراث، وبأنّ “هذه المهمّة من مسؤوليّة وزارة الثقافة، تتمّ عبر إنشاء نوادٍ ثقافيّة تُدرّب الأجيال الجديدة على أيدي الأساتذة الكبار، تمامًا كما في الغرب، حيث يكون العطاء من المعلّم والطالب معًا”.

حليحل: في بعلبك المدح والندب فيه قوّة عجيبة، لم أرَ مثلها إلّا هنا.

يؤكّد حليحل استعداده لتبنّي المواهب الصاعدة، شرط أن تكون أصيلة “كثيرون يتعلّمون الدبكة لاستخدامها تجاريًّا في الملاهي، وهذا ما يؤذيني.”

بعلبك… وداعًا لدبكة الشيوخ

عن رواج العتابا في أيّامنا المعاصرة، نسأله عن حال بعلبك اليوم، وعن الدبكة والمهرجانات البعلبكيّة. يتحسّر حليحل على اندثار “دبكة الشيوخ” التي “ماتت بموت أصحابها”، منتقدًا الفرق الراقصة الحديثة التي تحوّل الفلكلور إلى “عرضٍ مسرحيّ خالٍ من الروح”.

و يرى حليحل أنّ مهرجانات بعلبك انتهت مع غيبة فيروز ورحيل وديع الصافي وصباح ونصري “الحجارة اللي شهدت الماضي العظيم تبكي، وما من أحدٍ يدرك أنّها تبكي على حال المهرجانات اليوم.”

نسأله عمّا إذا كان للمدّ الدينيّ دورٌ في ذلك، إلّا أنّه، على عكس ما يُشاع، لا يرى حليحل أنّ المدّ الدينيّ أثّر سلبًا في الفنّ في بعلبك “العكس هو الصحيح. الناس ما زالت تسمع التراث وتقدّره، شرط أن يكون الكلام محترمًا وغير مبتذل.”

النخوة والكرم صامدان

ختامًا، ورغم اعترافه بخسارة بعلبك مهرجاناتها التي كانت تلقى رهجتها الخاصّة، يقول حليحل “الجميل في بعلبك هو النخوة والكرم والرجولة والترحيب الذي لا يتواجد في أماكن أخرى. راحت كثير من الأشياء الجميلة، لكن بقيت سوالفها… من واجبي الحفاظ عليها بالكلمة واللحن والصوت.”

يواصل علي حليحل صون التراث بصوته ولهجته وأصالته، ولا يرى في الغناء الشعبيّ ترفًا فنّيًّا، بل موقف من الانقراض والنسيان، وذاكرةً جماعيّة تستحقّ من يحرسها. في زمنٍ يطغى عليه الإسفاف والاستسهال، يبدو لنا “أبو أسعد” كمن يقف على تخوم التاريخ، يذكّرنا بأنّ الفنّ الحقيقيّ ليس ما يُصفَّق له الجمهور، بل ما يُخلّده الوجدان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى