علّمينا يا بعلبك كيف لا نبكي المدن الجميلة
لن يكون هذا النصّ رثاءً للمدينة التي أحب، بل هو نشيدي الطويل الذي أعيد من خلاله بناءكِ يا بعلبك في ذاكرتي، أنت التي بُنيت على الأناشيد.
كلّ زاوية، كلّ حجرٍ، أرتّبها في مخيّلتي واحدةً تلو الأخرى، كما لو أنّني أشيّدكِ من جديد.
لقد هُجِّرنا للمرّة الثانية؛ في رحيلنا الأول، عندما أجبرنا على مغادرة منازلنا. ورحيلنا الآخر مع خروج كلّ فردٍ كان قد بقي في هذه المدينة، كانت روحها تتسرّب في الدخان شيئًا فشيئًا.
فعلّمينا يا بعلبك كيف لنا ألّا نبكي المدن الجميلة.
علّمينا كيف لا ننسى شمسكِ وسماءكِ التي تحمينا من التيه في منافينا الغريبة. وكيف نحيا في ظلّكِ أينما كنّا.
بعلبك حكايات الطفولة
هي المدينة التي حملتُ على عاتقي حبَّها، ولعنت الظلام الذي طالما خيّم عليها. هي ذاكرتي العنيدة التي تأبى أن تتلاشى. هي أوّل كتابٍ اشترته لي أمّي من بائع الكتب القديمة، الذي يعرفه الجميع، مفترشًا الرصيف وقد تراكمت حوله الكتب كبوّابات لعوالم أخرى.
بعلبك هي فرحتي العميقة، متعة اكتشاف الكلمات، وحماستي حين كنت أوصي أمّي كلّ مرّة بكتابٍ جديد، فكنت كلّما قرأت صفحة، وجدتُ فيها روحها وأحلامها.
هي قصّة “حكاية طفلة اسمها جنين”، تلك الحكاية الفلسطينيّة عن فتاة فقدت والدها في دفاعه عن مدينتهم، وقرّرت أن تكمل مسيرته؛ القصّة التي ما برحت عالقة في ذاكرتي، كأنّها تصير مرآة لأطفال بعلبك الذين تقاسموا مع الفلسطينيّين آلام خروجهم، بعد أن شرّدتهم الطائرات الحربيّة الإسرائيليّة.
ونحن، أبناء ضواحيكِ يا بعلبك، وبنات قراكِ المنسيّة، نتشبّث باسمكِ لعلّ العالم يسمع أصواتنا، لعلّه يعرف أنّنا موجودون، نحمل تراثك وتاريخك.
ولكن، هل يعرفكِ العالم سوى في لحظات المأساة؟ هل يُنصفكِ إلّا حين تغدو مساحاتكِ تحت سياط التهميش أو القصف؟
وفي عيونهم، أنتِ لست سوى وحش يخافونه، ويريدون قتله.
العودة بعد أوامر الإخلاء
بالأمس تلقّيت أمرًا بالإخلاء، وأنا التي تفصلني عنكِ مئات المسافات، أو هكذا خُيّل إليّ. شعرت وكأنّ المدن التي عبرتها لأصل إلى طرابلس تلاشت فجأة. أصبح كلّ شيء حولي ضبابيًّا، كأنّما عقلي وجسدي معًا قد دخلا حال إنكار، يرفضان أن يصدّقا حقيقة أنّني خارجك.
عندما وصلني صوت إنذار المجيب الآلي للجيش الإسرائيليّ، وهو يحدّد لنا الطرق التي يجب أن نسلكها، كانت تلك الكلمات الميتة، النبرة المهدّدة، الآمرة تعيدني إليكِ على الفور.
وجدت نفسي أهرب في شوارعك.
واستحالت شوارع طرابلس إلى قفار، خالية من الحياة. لم يبقَ في قلبي سوى أحيائك، وروائح أسواقك، وصوت صغارك يلعبون.
ما لم يعرفه ذلك الصوت الآليّ المقيت هو أنّه إن كان لهربي طريق، فهو لا يفضي سوى إليكِ.
قبل أن يغيّبك الركام
في العشرين من أيلول (سبتمبر)، كان الفراق يلوّح في الأفق، قبل أن نتوه في دروبٍ لسنا نعرفها. وقفت هناك، على دوّار الجبلي في دورس. كانت المدينة تلتفّ حولي بشوارعها وأبنيتها، كأنّها تومض ببعض الرؤى من ماضيها ومستقبلها.
لعلّه حدسي أنبأني بما أخاف حصوله.
شعرت بك تتغيّرين، واختلفت زرقة سمائك، ورمادية جبالك.
وكمن أصابتها الوهلة؛ كنت أقف هناك، وعيناي لا تبتعدان عنك. كأنّ روحي كانت تشرب ملامحك، وكأنّني بعينيّ أحفظ طيفك قبل أن تغيّبك عنّي المسافات، وقبل أن يغيّبك الركام. فأغمضهما الآن لأطمئن قلبي أنّك ما زلت بخير.
فنبكي اليوم، لأنّ الحزن يعلّمنا كيف نكون أطرى من مروجكِ الخضراء.
نبكي لأنّ الحبّ وحده يربطنا بك، ووحده يعيدنا إليك.