“عمو” معقول تقصفنا الـ MK؟

“عمّو الـ “إم كا” بالجوّ فوقنا. معقول يقصفونا”؟ بنظراتٍ خائفةٍ ووجهٍ شاحبٍ أصفر يملؤه الرعب، وبصوتٍ مرتجفٍ خائفٍ يقولها لي ونحن في مركز إيوائنا، والظلام كان قد حلّ حاملًا معه انتظارات القصف والقتل، إذ بات وقت شؤمٍ مشوب بصمتٍ رهيبٍ، يخيّم على المكان ولاجئيه. الكلّ ينتظر أين سيسقط الصاروخ؛ في أيّ بلدةٍ، وعلى أيّ بيتٍ، وهل سيكون الهدف عسكريًّا ليطمئنّ أنّه بأمانٍ، أم أنّه سيصيب منزلًا مدنيًّا لتتعالى معه صرخات الهلع، من احتماليّة أن يأتيه الدور؟

أُمسكُ بيده وأنا أتلو على مسمعه كلماتٍ من قاموس الشّجاعة والقوّة، لكنّه سرعان ما يكتشف حيلتي لإكسابه الأمان ويبدأ يردّد بتمتمةٍ مسموعةٍ: “إنت عم تضحك عليّي بس أنا عارف إنو ح نموت.”

اسمع يا عباس

لم يكن “عبّاس” ابن الثماني سنوات قد اختبر الحرب سابقًا، ولم يكن قد سمع أصوات صواريخ بحجم صواريخ العدوّ، التي تزلزل الأرض ومن عليها من قبل، وهو الهارب مع أهله منذ ثاني أيّام العدوان، بعد أن خُطف لون وجهه وتسمّر في غرفة نومه وفقد النطق لساعات، حين سقطت أربعة صواريخ من الوزن الثقيل دفعةً واحدةً، بالقرب من منزله ليرتجّ المنزل بمن فيه، ويسود الذهول الذي أخرس المكان من شدّة الهول.

يلحّ “عباس” بقوّة خائرة على والديْه أن “خذوني إلى مكانٍ آمنٍ” قبل أن تأتي الطائرات القاتلة للطفولة وتخطفنا صواريخها، فأصواتها صارت نذير موتٍ يختلط بصراخ النساء وعويل الأطفال.

يسمع “عباس” أنّ العدوّ يستهدف المقاومة وأهلها، وهو يعرف جيّدًا معنى هذا الكلام، فيبادر بأسرع من صوت الطائرات إلى طلب اللجوء إلى مكانٍ لا مقاومة فيه ولا أهلها، فالحياة عنده أصبحت في بيئةٍ غير البيئة التي وُلِد ونشأ فيها.

يصرّ بضغط البكاء على الخروج الفوريّ من المنزل، والبلدة قبل أن ينال منه صاروخ غادر، وتحت وطأة رعبه والخوف يلبّي له والداه الطلب، إلى جهةٍ لا وجود فيها لأيّ شيءٍ قد يكون مصدرًا لقلق ابنهما.

في مركز الإيواء

في مكان الإيواء يتفحّص “عباس” الوجوه وجهًا وجهًا، يدقّق في ملامح الأشخاص بنظراتٍ أقرب إلى تصوير السكانر، وكأنّه يجري مسحًا لهاضمانًا للطمأنينة والأمان اللذيْن هرب لإيجادهما بأيّ ثمنٍ، وإن كلّفه ذلك ترك المطارح والألعاب التي كانت تشكّل مرتعًا لطفولته المليئة بشقاوته.

وبين لحظةٍ وأختها، وعند قدوم أيّ نازحٍ، يصمت عباس حدّ الخرَس، ويفتّش عن أيٍّ من عارفيه كي يسأله عن مدى معرفته بالوافد إلى “ملجئه”، فهو حريص أن يبقى مكانه خاليًا من أيّ خطر، وبعد أن يلقى الجواب الذي ينتظر سماعه، ينصرف إلى لهْوه مع أقرانه مع إبقاء أجهزة السمع والنظر والكلام لديه مستنفرةً على الدوام، ملاحقةً الأشخاص والحركات حدود التنصّت واستراق كلّ شاردةٍ وواردة.

أَدخلُ مع “عباس” إلى مكان اللجوء، المكان الذي منحه بعضًا من سكينةٍ، وأعطاه فسحةً من أمل النجاة من موتٍ لم يكتبه الله، وأشير إليه لينصرف إلى “اخوته” من اللاجئين فيأبى، فهو يريد الجلوس مع “الكبار”، ليسمع كلٍّ جديدٍ وطارىء، على مجريات الأحداث، حتّى يقرّر اللعب بأمانٍ أو يعود إلى قلقه من آتٍ قد يسرق منه فرحة البراءة وحلم الطفولة المهجّرة بفعل إجرام العدوّ وغدر آلة القتل والموت.

خروج من الطفولة

خرج “عباس” من سنواته الثماني بسرعة خوفٍ، وابيضّت أفكاره وهواجسه. قفز من طفولته بين ليلةٍ آمنةٍ هانئة إلى ضحاها الحالك المميت، ليبلغ مرحلة الكهولة المصبوغة بلون الهموم، المحمولة على عواتق طريّة العود بريئة السريرة.

بين لحظةٍ وأختها، وعند قدوم أيّ نازحٍ، يصمت عباس حدّ الخرَس، ويفتّش عن أيٍّ من عارفيه كي يسأله عن مدى معرفته بالوافد إلى “ملجئه”، فهو حريص أن يبقى مكانه خاليًا من أيّ خطر

على رغم دفء المكان وزحمة الأعداد وتلاطم الأحاديث، بين ساخرةٍ وضاحكةٍ وقلقةٍ، بين فينةٍ وأخرى يبقى “عباس” بقلقه في مكانٍ آخر، مكانٍ لا يدرك معالمه إلّا هو، يفصّله على حجم خوفه “وعمره الجديد”، يرسم حكاياه وحلمه بعيدًا من كلّ الموجودات والشخوص.

ينفرد إلى زاويةٍ فارغةٍ إلّا من سكون الجدران ويسهو مع ذاته، يحدّثها عن حاله وهمومه وكِبَره السّريع. يقطع عليه وحدته والده الذي يدعوه إلى تناول طعام الغداء، فيَهمّ مسكونًا بالرعب، ليدرك أنّ الصوت الذي أتاه لم يكن صوت صاروخٍ، فيهدأ ليترافق هدوؤه بدويٍّ عنيفٍ؛ “إنّها غارة، الصاروخ قريب”. يرتفع صوت عبّاس عاليًا ويختنق بعد ثوانٍ. إنّها صدمة الخوف نالت من صوته. يطلب الحاضرون فرق الإسعاف. والداه في حالة ذعرٍ وصراخٍ. استفاق “عبّاس” من غيبوبته الموقّتة وهو يسأل عن حاله.

لم يقتنع هذه المرة أنّه بمأمنٍ من الموت، وأنّ العدوّ سيعفيه من القتل؛ “ما شفتو شو عملت اسرائيل بأطفال غزّة”؟ يأتي كلامه من صُوَرٍ مطبوعةٍ في ذاكرةٍ حفرتها مشاهد القتل والدماء من قبل عدوٍّ وحشيٍّ يمارسه على أطفال غزّة. مشاهد غزَت وجدانه حتّى استوطنت أفكاره ليستحضرها كلّما شعر بهلع.

أُنهِك قلب “عبّاس”، وخار كلّ ما بداخله، ولم يبقَ أمامه إلّا الرّضوخ لمصيرٍ لم يختَرْه بأحلامه الطفوليّة، بعد أن ماتت فيه كلّ محاولات الهروب، لو استطاع، من الدنيا بكاملها، وأن يضع حياته  بين يديّ ربّه ووالديْه، فهو يعيش كلّ لحظاته على قيْد الموت، وصارت الحياة قيْدًا له من النجاة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى