عن البيت الأثري الذي لم تهدمه اسرائيل
كنا عالجنا، في مقال سابق وعلى حلقات عدّة، موضوع البيوت التراثيّة في بعلبك، وأشرنا إلى ما تتعرّض له هذه المباني من تعدّيات تصل إلى حدود الهدم. وإذ كنّا قد حذّرنا حينها من المستقبل القاتم الذي ينتظر تلك المباني، فلأننا كنّا نعلم، في قرارة أنفسنا، أنّ ثمّة من ينتظر الفرصة السانحة من أجل إلحاق الأذى بما بقي من عناصر التراث المعماريّ في أيّ لحظة.
وللأسف الشديد، فقد صدق ظنّنا. يتعلّق الأمر بالبيت التي سمّيناها في مقالنا المذكور “بيت المطران نجيم”. ذكرنا أنّ هذه التسمية قديمة، وتعود إلى مالك المنزل الأصليّ، وقد بقيت سارية على الرغم من تنقّل البيت من مالك إلى آخر. لسنا هنا في وارد ذكر اسم مالكه الأخير، الذي لا نعرفه بالتحديد، إذ نترك للسلطات المتخصّصة متابعة هذا الأمر، ويبدو أنّها عمدت فعلًا إلى ذلك، على نحو ما أبلغنا. هذا الحدث لا يمكن تصوّر مجرياته إلاّ في بلد لا يخضع لأيّ معايير واضحة وثابته في زمن السلم، فكيف بك في ظروف الحرب التي نعيشها في هذه الحقبة؟
هكذا، استيقظ البعلبكيّون منذ فترة ليجدوا أنّ المنزل التراثيّ، الذي يقع في نقطة “استراتيجيّة”، تطلّ على هياكل بعلبك الرومانيّة، على بعد خطوات من أوتيل بالميرا الشهير والتراثيّ بدوره، نقول إنّ هذا البيت صار الآن ركامًا. لم نعرف شخصيًّا بـ”المجزرة” ساعة حدوثها، بل بعدما تمّ ارتكابها، من خلال بعض الأصدقاء، وعبر وسائل التواصل الاجتماعيّ. رؤية المشهد بالعين المجرّدة، ومعاينة المكان المغتصَب، تدعوان إلى الحزن والتحسّر، والغضب أيضًا.
المنزل، في شكل عام، كما الكائن البشريّ نفسه، كان له تاريخ يضاهي في امتداده عمر الإنسان العاديّ. وقد شهد حوادث عدّة، بعضها يتعلّق بأصحابه، وبعضها الآخر يتعلّق بمن كان يزورهم، وخصوصًا أنّ مالكه الأصليّ كان قد شغل مركزًا روحيًّا في المدينة، ما قبل الحرب الأهليّة، وربّما في خلالها. من النافل القول إنّ غرف المبنى تحمل كمًّا لا يُحصى من الذكريات، وذلك في زمن كانت المدينة تعيش “عصرًا ذهبيًّا”، وهو التعبير الذي ينطبق على غير منطقة لبنانيّة، حين يجري الحديث على تلك الفترة من الستينيّات وأوائل السبعينيّات، قبل أن تطيح الحرب بذاك العصر إلى غير رجعة.
الناس مشغولون بالحرب وتبعاتها. سوق المدينة مقفل في معظمه. يرتاد الناس الحوانيت القليلة التي فتحت أبوابها من أجل شراء حاجيّاتهم الغذائيّة الضروريّة قبل سواها. الشوارع افتقدت الزحمة التي كانت جزءًا من هوائها، وسبّبت فوضاها. السكّان يعيشون توتّرًا يوميًّا ، فالمدينة مهدّدة في كلّ لحظة، أكان في أطرافها، أو حتّى في مركزها الذي نال نصيبه من الحقد الذي تلفظه الطائرات، وتحوّل الهدف الذي تستهدفه إلى رماد. استغرب البعض مشاهد الدمار في وسط المدينة، التي يمكن رؤيتها في الشارع الرئيس الذي يشقّ البلدة نصفين، ثمّ اعتادوها وصاروا يمرّون من قربها كشيء اعتياديّ.
في هذا الجوّ المشحون، حيث تحاول الخليقة البحث عن السبل الممكنة والاحتياطات اللازمة من أجل البقاء على قيد الحياة، نقول في هذا الـ “أتموسفير” الاستثنائيّ يجد أحد الأشخاص، الذي لا شأن له بالثقافة والتراث، الفرصة الملائمة من أجل هدم بيت تراثيّ عمره 100 عام على الأقل. تمّت العملية بسرعة فائقة، بحسب تصوّراتنا، إذ لم يستغرق الأمر سوى يوم واحد، وربّما تحت جنح الظلام، في مدينة تخلو شوارعها ليلًا من الناس، ولا تجول فيها سوى الكلاب الشاردة بحثًا عمّا يسدّ جوعها.
أجرت الزميلة غوى كنعان (مناطق، الـ 25 من تشرين الأوّل/ أكتوبر الجاري) تحقيقًا واسعًا حول جشع التجّار (المقصود هنا تجّار الشقق) في الفترة الحاليّة. يستغلّ هؤلاء الوضع المحزن، وحتّى المأسويّ، للنازحين الباحثين عن مأوى في زمن صار السقف الذي يقيهم أمزجة الطبيعة الطارئة حاجة ملحّة. الطمع والجشع تظهر مفاعيلهما لدى بعضهم في اللحظات الصعبة، في حين ينصّ المنطق الإنسانيّ على أنّ الرأفة والرحمة والإحسان مطلوبة في هذا الظرف.
المنزل، كما الكائن البشريّ نفسه، كان له تاريخ يضاهي في امتداده عمر الإنسان العاديّ. وقد شهد حوادث عدّة، بعضها يتعلّق بأصحابه، وبعضها الآخر يتعلّق بمن كان يزورهم، وخصوصًا أنّ مالكه الأصليّ كان قد شغل مركزًا روحيًّا في المدينة
الفعل الذي قام به صاحب المنزل يشبه هذا الجشع، لكنّه أشدّ هولًا برأينا. فإذا كان الدمار الذي تحدثه الهمجيّة الإسرائيليّة “مفهومًا”، بالنظر إلى طبيعة هذا الكيان وتاريخه الذي لا يولي الإنسان والحجر اهتمامًا، تماشيًا مع تعاليمه الحاقدة، فإنّ الدمار الذي يُحدثه الإنسان، من خلال استغلاله الوضع المأزوم، يخرج عن حدود الخيال والمنطق.
ثمّة بيوت تراثية تُهدم في غير مكان في هذه المدينة، وبمكن التسامح مع هذا الفعل، حين لا يمتلك المبنى قيمة تراثيّة كبيرة، ويقع في زاوية مخفيّة ضمن متاهات الأحياء القديمة، التي لا يلجها سوى أصحاب المنزل أنفسهم. لكنّ الحالة التي نحن في صددها، مختلفة من حيث الموقع والقيمة التاريخيّة. جريمة على المستوى الثقافيّ والتراثيّ لا يمكن السكوت عنها، والمطلوب من السلطات أن تقوم بواجبها.
وإذا كانت وزارة الثقافة قد أصدرت بيانًا حول هذه المسألة، بعدما وصلتها أخبار الواقعة، واتّخذت بعض الإجراءات المبدئيّة، لجهة منع البناء في الموقع المستهدف، فإنّنا نأمل أن تتمّ ملاحقة المسألة حتّى بلوغ خواتيمها، لا أن تضيع في زواريب الوساطات والمحسوبيّات والنسيان، وهي أشياء ليست بغريبة عن هذا البلد.