عن المُلصق السياسي..فنانون رسموه ذات يوم
يعتبر الملصق من أكثر الأنواع الفنّيّة تأثيرًا في الناس، تكمن أهمّيّته في طبيعة عناصره من حيث البساطة في الأشكال والرموز المستخدمة والجاذبيّة البصريّة اللونيّة والشكليّة ليصل محتواه إلى المتلقّي مباشرة.
تأتي أهميّة الملصق الناجح جماهيريًّا، في الوضوح في الشكل والفكر، والبساطة في العناصر والرموز، والقوّة في التعبير. ولا تقف فاعليّة الملصق عند حدود الدور السياسيّ، فالملصق يلعب أكثر من دور، فهو أيضًا وسيلة تثقيف جماليّة.
تتطلّب مسألة الطباعة من الفنّان الوعي بالإمكانيّات التقنيّة الطباعيّة، إذ إنّ تطوّر الطباعة لعب دورًا بارزًا في تطوّر المُلصق، وإيصاله إلى الناس بمضامينه وجماليّاته؛ لأنّ الطباعة الرديئة تحدّ من فاعليّة المُلصق الجماليّة والجاذبيّة البصريّة، الّتي تشكّل عاملًا هامًّا من عوامل جذب اهتمام المتلقّي ودفعه إلى تأمّل المُلصق.
الملصق بوصفه خطابًا حزبيًّا
اهتمّت الأحزاب اللبنانية بالملصق السياسيّ منذ مطلع الحرب الأهليّة، لكنّها غالبًا ما كانت تعتمد على الشعاراتيّة، والخطّ العربيّ على حساب القيمة البصريّة أو التشكيليّة للمُلصق. كانت المكاتب الإعلاميّة للأحزاب تُشرف على إنتاج المُلصق وغالبًا ما أخذ شكلًا شعاراتيًّا مباشرًا، يخاطب الانفعال أكثر من التثقيف السياسيّ. من هنا أتت معظم المُلصقات بوصفها منتجًا آنيًّا يخاطب تاريخيّة محدّدة من تواريخ الحروب والجولات والمراحل التي مرّت فيها الحرب الأهليّة طوال 15 عامًا.
كانت المُلصقات محشورة على جدران المدن بتنوّع الأحزاب والشعارات والتصاميم المُتعلّقة بأسماء الأحزاب وأعلامها ومقتطفات من خطابات زعمائها، فتراوحت بقيمتها من الشعارات المبدئيّة إلى الشعارات الشعبويّة التي تعمل على شدّ العصب الغرائزيّ الطائفيّ، وانفلات الانفعالات العاطفيّة المناطقيّة والقبليّة والملليّة. وفي مناسباتٍ خاصّة مثل الذكرى السنويّة للحزب أو ذكرى وفاة / اغتيال زعيم سياسيّ أو إحياء ذكرى حوادث مهمّة، يُطلب من فنّانٍ أن يتطوّع بعملٍ فنّيّ لمُلصق. يعتمد ذلك على شبكة علاقات الحزب مع فنّانين من لبنان والالتزام السياسيّ لفنّانين معاصرين.
كانت معظم المُلصقات تُطبع بحجم واحد تقريبًا، وتُلصق على مساحة الجدران الفارغة أو فوق مُلصقات سابقة، وكانت الملصقات التي تحتشد على الجدران دلالة سيطرة هذا الحزب أو الميليشيا على هذا الشارع أو تلك المنطقة. كان المُلصق زينة الجدران الصغيرة والأحياء الشعبيّة على امتداد البيروتين وضاحيتيها الشرقيّة والجنوبيّة.
فنّانون تشكيليّون
تجاوز المُلصق خدمة الخطّاطين ممّن خطّوا المُلصقات وصمّموها، وجلّ هؤلاء أتوا من مهنة الخطّ العربيّ على اللافتات التي كانت تنتشر في المناسبات الانتخابيّة، وبعضهم أتى من رسم أبطال ونجوم السينما على لافتات كانت تُنشر في بيروت، لتعلن عن أفلام هذا الأسبوع المعروضة في صالات السينما.
كانت المُلصقات محشورة على جدران المدن بتنوّع الأحزاب والشعارات والتصاميم المُتعلّقة بأسماء الأحزاب وأعلامها ومقتطفات من خطابات زعمائها، فتراوحت بقيمتها من الشعارات المبدئيّة إلى الشعارات الشعبويّة
في ظلّ غياب البعد الأكّاديميّ لصناعة المُلصق بصريًّا، انخرط فنّانون تشكيليّون في صناعة المُلصق السياسيّ، وذلك إمّا التزامًا منهم بعقائد تلك الأحزاب، أو تطوّعًا للمشاركة في إحياء مناسبات ولادات الأحزاب، وتواريخ انتصارات ونكسات أو تواريخ اغتيالات.
لم تكن هذه المساهمات كبيرة بل أتت متقطّعة، لكنّها أضافت البُعد التشكيليّ والقيمة الفنّيّة البصريّة للمُلصق، وأدبيّات الحزب الصادرة عنه. واحدة من تلك المناسبات الوطنيّة المتعلّقة بتاريخيّة الصراع مع اسرائيل ولادة وانطلاقة وأعياد جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة وما رافقها من احتضان وطنيّ وشعبيّ، وحماسة من فنّانين تشكيليّين مكرّسين في الحياة التشكيليّة اللبنانيّة أمثال الفنّان پول غيراغوسيان (١٩٢٦-١٩٩٣) بتصميم ملصقاتٍ لأحداثٍ ثقافيّة، ثم كان لمساهمات هذا الفنّان اللبناني الأرمنيّ، دور أساس في تصميم المُلصق السياسيّ خلال الحرب، بعد أن وضع أعماله الفنّيّة في خدمة الأحزاب والمؤسّسات الثقافيّة والمنظّمات المدنيّة الأخرى الداعمة للمقاومة الوطنيّة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
وكانت المُلصقات التي صممها على صلة برسوماته التشكيليّة التي صوّرت شخوصاً مجرّدة، لا تبدو من ملامحها بل خطوط الحبر الأسود والبقع اللونيّة الحمراء، وأطياف لأبطال وعمّال مجهولين في كفاحهم من أجل التحرّر. وأعاد الفنان رفيق شرف (1932-2003) ثيمات لوحاته لا سيّما عمله على الموروثات والأبطال الشعبيّين، فأنجز أولى ملصقاته السياسيّة حول الصراع العربيّ– الاسرائيليّ في منتصف الثمانينيّات. من دون أن نغفل عن ذكر فنّانين عملوا على ذكرى المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي أمثال حسن جوني وشربل فارس وإميل منعم وحسين ياغي كما عمل آخرون على تكريم شخصيّات سياسيّة في مُلصقات ذات قيمة فنّيّة عالية، أمثال عارف الريّس وجميل ملاعب وموسى طيبا وغيرهم من الفنّانين.
تراجع الملصق السياسيّ
ارتبط المُلصق السياسيّ بالأحداث اللبنانيّة وبأزمة العمل الحزبيّ بعد انتهاء الحرب الأهليّة، وهذا ما نلحظ تراجعه كمنتج بصريّ حزبيّ لعدّة أسباب منها تنظيميّة حزبيّة، ومنها تراجع الفنّانين عن الانخراط في العمل السياسيّ المباشر، ولا سيما بعد انتهاء الحرب اللبنانيّة وأزمة العمل الحزبيّ والنتائج التي أفرزتها الحرب على مختلف الأصعدة البنيويّة والاجتماعيّة والفكريّة.
كذلك ساهم صعود وسائل التواصل الاجتماعيّ والإعلام المرئيّ في استبدال الاتّصال الحزبيّ مع الجماهير عن طريق المُلصق، بأدوات جديدة من الاتّصال ولا سيّما وسائل التواصل الاجتماعيّ التي خاضت وتخوض النقاشات والتعبئة الحزبيّة والوطنيّة وحتّى عمل الجمعيّات الأهليّة والمدنيّة بعيدًا من التواصل بواسطة المُلصق الذي نفتقد دوره في هذه الأيّام كما نفتقد أعمال الفنّانين التي غابت عن التعبير السياسيّ والنضاليّ المباشر على المستويين البصريّ والنظريّ وللبحث صلة.
صور الملصقات مأخوذة من موقع ” ملامح النزاع – الملصق السياسيّ في الحرب الأهليّة اللبنانيّة”.