عن النشيد الوطنيّ والعلم المرفرف فوق جدران متهالكة

لم يألف ابني، ذو الـ 11 عامًا، صوت النشيد الوطنيّ اللبنانيّ إلّا في المناسبات الرسميّة، أو في إبّان الاحتفالات المدرسيّة القليلة، ولم تلامس يده علم الوطن إلّا مرّات معدودات. الجديد أنّه وتنفيذًا لتعميم صادر عن وزيرة التربية الوطنيّة ريما كرامي، يُلزم المدارس والثانويّات بإنشاد النشيد الوطنيّ صباح كلّ يوم إثنين، ورفع العلم فوق مبانيها، ها هو اليوم، يقف فجأة بتحيّة عسكريّة، أمام العلم اللبنانيّ.
لا شكّ في رمزيّة هذه الخطوة وأهمّيّتها، غير أنّني كنتُ أتمنّى أن يكون حبّ الوطن مترافقًا مع السلوك اليوميّ، وليس مفروضًا كواجب إداريّ ثقيل، يُضاف إلى كاهل مديري مدارس أصبح كثير منهم جزءًا من منظومة تربويّة مترهّلة، عاجزة عن زرع القيم، وعن صناعة مواطنٍ حرّ ومسؤول، قادر على حمل أمانة هذا البلد.
للأسف، يبدو أنّ القرار يشبه وضع ضمّادة صغيرة على جرح غائر يتّسع كلّ يوم. فالأعلام الجديدة ترفرف على جدران متهالكة، حول مدارس هجرتها أعداد كبيرة من الطلّاب إلى مدارس خاصّة، والمفارقة المضحكة المحزنة، أنّ أجيالًا تنمو على مناهج متناقضة، وكتاب تاريخ لا يُذكر فيه تاريخ لبنان الحقيقيّ، وكتاب التربية المدنيّة الذي اختفى من رفوف المكتبات، ليبقى منه فقط نسخ معدودة، يتمّ تصويرها وتوارثها من جيل إلى جيل. هذا الكتاب أصبح ضرورة بسبب ساعة أسبوعيّة إلزاميّة في المناهج الدراسيّة، وليس لأنّه جزء أساسيّ من بناء وطن قادر على النهوض.
في كلّ سنة وفي عيد الاستقلال، نقصّ الأرزة من العلم، نزيّن بها جباه الأطفال بتيجان من ورق، بينما نقتلع الأرز من جذوره في الأعماق.
أرزة مغروسة وسط العلم
يسألني ابني: “لماذا لا توجد في حديقتنا سوى أرزة واحدة، وأخرى في وسط العلم، بينما لدينا عشرات من أشجار الصنوبر والزيتون والليمون؟ ولماذا يقولون إنّ لبنان بلد الأرز، وليس بلد الليمون؟.”
ابتسمت وقلت له “لأنّ الأرز شجرة تعيش طويلًا، تقاوم البرد والريح، وتأبى أن تستسلم للعواصف. تبقى خضراء على مدار الفصول، شامخة لا تنحني، ولهذا صارت رمزًا للبنان، تجسّد صلابته وعراقته”. ثمّ وعدته، وقد شعرتُ بغصّة لا أعرف سرّها، أن نزرع مزيدًا من الأرز في حديقتنا الصغيرة.
لا أعرف لماذا، لكنّني اشتقت فجأة إلى سماع النشيد الوطنيّ. تراءت أمامي صورة المدرسة، كنّا نصطفّ طويلًا في الباحة، نُنشد النشيد الوطنيّ بأعلى صوت، لا كتلامذة، بل كجنودٍ على وشك المعركة. كان الناظر يراقبنا من الأعلى، يضبط أنفاسنا، وأيّ حركة صغيرة كانت تُعدّ خيانة للقانون، وانتهاكًا صارخًا لهيبة الدولة.
حادثة لن أنساها
ما زلت أذكر ذاك اليوم، حين ناداني الناظر فجأة أمام عشرات التلاميذ، باسمي الكامل، بل باسم عائلتي. قال لي: “انتظري… دعي الجميع يصعدون إلى صفوفهم، وبعدها يمكنكِ اللحاق بهم.” حبست دموعي كي لا يراني زملائي باكية. شعرت بالاختناق، لأنّني لم أكن مذنبة. لم أتحرّك في أثناء النشيد، لم أتكّلم، كنت جامدة كصخرة. فماذا فعلت؟ لماذا عوقبت؟ حتّى اليوم، لا أعرف.
يسألني ابني: لماذا لا توجد في حديقتنا سوى أرزة واحدة، وأخرى في وسط العلم، بينما لدينا عشرات من أشجار الصنوبر والزيتون والليمون؟ ولماذا يقولون إنّ لبنان بلد الأرز، وليس بلد الليمون؟
علّمونا في مدرستي الرسميّة أن نحبّ هذا الوطن، ردّدنا النشيد الوطنيّ كلّ يوم إثنين، ورسمنا العلم بأصابع صغيرة وقلوب كبيرة، قالوا لنا إنّه أجمل الأوطان، وإنّنا أبناء بلدٍ ليس كمثله بلد. كبرنا، كبرت، وبدأت صورة الوطن تهتزّ شيئًا فشيئًا، ثمّ تلاشت كلّيًّا تحت وطأة الحروب والانقسامات والأزمات.
مواطنة عادية لا أنتمي لحزب
أنا مواطنة عاديّة. لا أنتمي إلى حزب، ولا أتباهى بطائفتي، ولا أحمل في جيبي بطاقة توصية من زعيم. أعيش في وطن لم يسألني يومًا: “ما هو حلمك؟”، بل كان سؤاله الدائم: “من أيّ فريق أنت؟”. في هذا البلد، تتقلّص المساحات المشتركة، وتكبر الحواجز الخفيّة، ونختبئ خلف شعارات مكرّرة، نغنّي للوطن لكنّنا نعيش في جمهوريّات متفرّقة.
حين أعددت اقتراحي البحثيّ لمرحلة الدكتوراه، تحت عنوان: “الهويّة الوطنيّة في نشرات الأخبار اللبنانيّة”، قوبل اقتراحي بابتسامة ساخرة. قالت لي المشرفة: “هل تعتقدين فعلًا أنّ في إعلامنا هويّة وطنيّة؟ هذا لا يحتاج بحثًا.
قرأت كثيرًا عن المواطنة، قرأت لفوّاز طرابلسي، وجيه كوثراني، مسعود ضاهر وغيرهم كثر، ولمّا فتّشت في مقدّمات الأخبار، عن سرديّة مشتركة، عن كلمة تجمع أبناء الوطن في لحظة وحدة… لم أجد. تخلّيت عن مشروعي البحثيّ. ليس لأنّه بلا قيمة، بل لأنّ البلاد ما زالت ترفض أن تُبنى على فكرة “الوطن”.
محاولة البحث عن وطن
الوطن، بالنسبة إليّ ليس شعارًا، بل عقد اجتماعيّ يجب أن يُحترم. لكن في لبنان، هذا الوطن لا يزال مفقودًا. الدولة تُدار كحصص، والسياسة تُطبخ على نار الطوائف، والمؤسّسات رهينة المحاصصة. كلّ طائفة تملك زعيمًا، كلّ منطقة لها لون، وكلّ حي له علم. أمّا نحن، من نرفع علم لبنان، فنشبه غرباء ضائعين في وطنهم.
ومع هذا، لا نكفّ عن الحلم. حلم بوطن لا يكون فيه النشيد الوطنيّ طقسًا صباحيًّا إلزاميًّا، بل أسلوب حياة: قانونٌ واحد، عيدٌ واحد، وكرامة لا تُقسّم على المناطق والانتماءات.
لبنان يحتاج إلى مدارس تعيد تعريف معنى المواطنة، إلى مناهج تعيد تعريف معنى الانتماء، إلى مدارس تربّي أطفالًا على ما يجمعهم، لا على ما يفرّقهم. نحتاج إلى أكثر من النشيد في صباح الإثنين وإلى أكثر من أعلام جديدة على المباني، نحتاج إلى تربة مشتركة تُزرع فيها الأرزات في الجنوب والبقاع. نحتاج إلى مواطن يقول: “أنا من لبنان”.