عن تأنيث المؤونة وإعادة إنتاج الأدوار الجندرية (2)

تحيلنا التساؤلات المطبخيّة إلى الدور الذي لعبته النساء في حفظ الطعام على مرّ العصور. ومع قلّة المصادر غير المتحيّزة جندريًّا، يبقى موضوع حفظ الطعام غامضًا، خصوصًا عند النظر إلى نظريّة “الرجل الصيّاد والمرأة الجامعة”، التي ترسّخ التقسيمات الجندريّة بناءً على تاريخ التطوّر البشريّ.

إلّا أنّ النظريّة التطوريّة المادّيّة ترفض هذا الزّعم، لأسباب متعدّدة ذكرت في كتاب “من طبخت العشاء الأخير؟ تاريخ العالم كما روته النساء”. أوّلًا، لم ينتمِ البشر جميعًا إلى المناطق الجغرافية نفسها، فلم تسكن جميع القبائل البدائيّة الكهوف، ولم يكن كلّ ذكورها يخرجون إلى الصيد. إضافة إلى ذلك كانت عمليّة الصيد وحفظ اللحوم غير ممكنة في بعض الظروف المناخيّة، وهي عمليّة تتطلّب جهدًا جماعيًّا.

وقد تعاونت النساء في مختلف الثقافات على تجهيز وتخزين المؤونة بشكل جماعيّ. فكنّ يجتمعن في مكان محدّد، مثل بيت أو فناء كبير، لتحضير المؤونة وتخزينها. وتختلف ثقافة التموين بين الشعوب.

كما كان تموين الموادّ الغذائيّة وسيلة اقتصاديّة لحفظ الطعام وتقليل الكلف خلال الشتاء، أو خوفًا من المجاعات في الحروب، من خلال استغلال موسم نضج الخضروات وانخفاض أسعارها في الصيف، مثل تجفيف البازلّاء، الملوخيّة، البامية، وتخزين الباذنجان المجفّف (المقدّد)، وحفظ ورق العنب بالماء والملح، نتيجة عدم توافر الكهرباء، وارتفاع الأسعار.

الحاجة فضة فقيه نحضر الصعتر في بلدتها الطيري

تبرز هذه الممارسات القديمة أهمّية العمل الجماعيّ الذي مارسته النساء في حفظ المؤونة وتوفير الغذاء، وتسلّط الضوء على استبعادهنّ الحاليّ من القرارات المتعلّقة بالسيادة الغذائيّة، وحقّهن في تحديد السياسات الزراعيّة والغذائيّة. بدلًا من الاعتماد على أسواق الغذاء العالميّة، وتشجيع إنتاج الغذاء المستدام بيئيًّا والذي يلبّي احتياجات المجتمع المحلّيّ، ويعزّز السياسات التي تحمي الأرض، والمياه والموارد الطبيعيّة، ممّا يسهم في تعزيز العدالة الاجتماعيّة، الاقتصاديّة، والجندريّة، ويمنح المجتمعات القدرة على اتّخاذ قرارات مستقلّة بشأن كيفيّة إنتاج وتوزيع الغذاء بشكل تشاركيّ.

هل هي مشاريع إعادة إنتاج المنظومة الأبويّة؟

كيف يمكننا مقاربة الدورات التمكينيّة لصنع المؤونة ضمن إطار تأثير المشاريع التنمويّة التي تنظّمها عديد من المنظّمات، سواء الحكوميّة، أو غير الحكوميّة في البلدان التي تعاني من الأزمات الاقتصاديّة المتواترة، والحروب؟ وهل تسهم هذه الدورات في تعزيز الأمن الغذائيّ، والاستقلاليّة الاقتصاديّة للمجتمعات المحلّيّة، أم أنّها تبقى مجرّد حلول موقّتة لمواجهة ظروف معيّنة؟ وفي سياق ديستوبيا لإدامة الصراعات، قد تخلق أنماطًا اقتصاديّة جديدة تؤثّر في القدرة على إيجاد بدائل اقتصاديّة، وأنظمة سياسيّة ناجعة.

مواضيع ذات صلة: عن تأنيث المطبخ وإعادة إنتاج المنظومة الأبويّة (١)

تتجلّى الخطورة في قدرة هذه المشاريع على تجاوز الدعم الفوريّ لتصبح جزءًا من استراتيجيّات طويلة الأمد تهدف إلى تمكين الأفراد، خصوصًا النساء، من اكتساب مهارات مستدامة تتيح لهنّ تحسين أوضاعهنّ الاقتصاديّة والاجتماعيّة على المدى الطويل، وتعزيز قدراتهنّ على مواجهة الأزمات والتأقلم معها، ضمن سياسات ليبراليّة بحتة. بذلك، تصبح حقوق النساء الاقتصاديّة تحت رحمة ورعاية المشاريع التمكينيّة.

الفكرة لا تقوم على رفض استمراريّة إحياء التراث القديم والحفاظ عليه، بل تكمن خطورتها في ربط مصائر النساء بهذا المجال وإعادة إنتاج الأدوار الجندريّة التقليديّة بناء عليها. ذلك لأنّ معظم المشاريع التمكينيّة تظلّ محصورة في نطاق الأعمال الرعائيّة مثل الطبخ والخياطة، ممّا يرسّخ تقسيم الأدوار التقليديّة بدلًا من توسيع آفاق مشاركة النساء السياسيّة والاقتصاديّة.

معظم المشاريع التمكينيّة تظلّ محصورة في نطاق الأعمال الرعائيّة مثل الطبخ والخياطة، ممّا يرسّخ تقسيم الأدوار التقليديّة بدلًا من توسيع آفاق مشاركة النساء السياسيّة والاقتصاديّة.

وفي بعض الأحيان، تصبح هذه المشاريع عبثيّة. إذ ما الحاجة، على سبيل المثال، إلى تعليم نساء الأرياف مهارات التموين وهنّ تربّين بالفعل على أهمّيّة المؤونة في المنزل؟ هذه المهارات تُعتبر جزءًا من حياتهنّ اليوميّة، وبالتالي لا تضيف قيمة جديدة مؤثّرة؛ خصوصًا إذا لم تُتّبع هذه الدورات بفرص عمل لاحقة أو إمكانيّة تسويق المنتجات في أسواق خارجيّة، فإنّ فائدتها الاقتصاديّة تصبح محدودة.

إنذ معظم سكّان المناطق المستهدفة يصنعون مؤونتهم بأنفسهم، وقلّة قليلة فقط تحتاج إلى الشراء، ممّا يجعل هذه المشاريع غير كافية كخطّة اقتصاديّة لتحقيق الاستقلاليّة والدعم الفعليّ للنساء، على رغم أنّها تحقّق أهمّيّة في تحويل الأعمال غير المأجورة للنساء في منازلهنّ إلى أعمال مأجورة من خلال عمليّة بيع المواد.

بالإضافة إلى ذلك، لماذا لا يتمّ تعليم النساء مهارات إضافيّة يمكن أن تفيدهنّ اقتصاديًّا بشكل أكبر؟ في الوقت الذي تنحصر فيه الكثير من الدورات التمكينيّة في المهارات التقليديّة مثل الطبخ والخياطة، هناك فرصة لتوسيع نطاق هذه الدورات لتشمل مجالات أكثر تنوّعًا وشمولًا، تساعد النساء في بناء مشاريعهنّ الخاصّة وتحقيق استقلاليّة اقتصاديّة.

تحضير ماء الورد في قصرنبا

على سبيل المثال، يمكن أن تشمل الدورات تدريبًا في مجالات مثل إدارة الأعمال، التسويق الرقميّ، أو التكنولوجيا، ممّا يتيح لهنّ الفرصة لتطوير مهاراتهنّ ومشاريعهنّ الخاصّة في مختلف القطاعات.

علاوة على ذلك، نلاحظ أنّ هذه الدورات غالبًا ما تستهدف النساء دون الرجال بالطريقة نفسها. فهل صادفتم إعلانات لدورات تمكينيّة مخصّصة للرجال في مجالات مثل صناعة المربّيات أو الخياطة؟ من الواضح أنّ هناك تباينًا في كيفيّة تقديم وتوزيع الفرص التدريبيّة، ممّا يعكس إعادة توليد المنظومة بالطريقة نفسها.

ربّما ما تحتاجه النساء، بعيدًا من سياسات التمويل، وخارج إطار الأعمال المنزليّة غير المدفوعة الأجر، هو استعادة الفضاءين العامّ والخاصّ كأماكن توفّر فرصًا للتعاون الجماعيّ دون عزل أو إقصاء. يمكن استلهام هذا المشروع من جهود النسويّات المادّيّات اللواتي اعتبرن المنزل مكوّنًا أساسيًّا لاضطهاد النساء. وبتنظيم مطابخ جماعيّة وبيوتًا تعاونيّة، وكومونات للطهي المشترك، للسيطرة على إعادة الإنتاج كوسيلة لتجاوز القيود الرأسماليّة. وهي خطوة ضروريّة اليوم للنساء والرجال على حدّ سواء.

من خلال استعادة هذه التجارب الجماعيّة والمعرفة المتراكمة حول إعادة الإنتاج، يمكننا مواجهة الهندسة الجندريّة لحياتنا القائمة على العنف، وإعادة بناء منازلنا وحياتنا كمشاعات تعاونيّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى
document.addEventListener("DOMContentLoaded", function() { var blockquotes = document.querySelectorAll('blockquote, q'); blockquotes.forEach(function(blockquote) { var beforeContent = window.getComputedStyle(blockquote, '::before').content; if (beforeContent === '"\\f10e"') { blockquote.style.setProperty('content', '"\\f10f"', 'important'); } }); });