عن تأنيث المطبخ وإعادة إنتاج المنظومة الأبويّة(١)
![](https://manateq.net/wp-content/uploads/2025/02/mihad.jpg)
في رواية “زمن النساء” للكاتبة الروسيّة “يلينا تشيجوفا”، تتمنّى الطفلة الصغيرة أن يموت المطبخ.
ليس موت المطابخ رغبةً عابرةً، بقدر ما هو موتٌ محمّلٌ بالدلالات، على الرغم من أنّ الكاتبة لم تصرّح عن ذلك بشكل مباشر.
فموت المطبخ يعني أكثر من مجرّد نهاية لحيّزٍ منزليّ؛ إنّه إعلان عن رغبة في تحرّر النساء من سطوة المكان. وأن يكفّ العمل المطبخيّ عن كونه المسار الطبيعيّ الذي يرسمه المجتمع لهنّ، وتقولب فيه مهاراتهنّ وخيالهنّ.
أليس البشر هم الكائنات الوحيدة التي تمارس فنّ الطهي كتعبير عن إنسانيّتها وثقافتها؟ فلماذا يُفرض على النساء وحدهنّ أن يحملن هذا العبء؟ أليس في ذلك شكل من أشكال التعبير الاجتماعيّ الذي يجب أن يتشاركه الجميع، بدل أن يُفرض كدور جندريّ مقيّد لجنس دون آخر؟
الأهمّيّة الأنثروبّولوجيّة والاجتماعيّة للمطابخ
يعتبر الطهي عمليّة خيميائيّة تجمع بين العلم والفنّ، بين الضرورة والرغبة، باستخدام النار والحرارة والبرودة لاستخراج أقصى إمكانات المكوّنات. على رغم أنّ الطهي قد يبدو للبعض رفاهيّة، إلّا أنّه يمتدّ عميقًا في تشكيل هويّات الشعوب. منذ القدم، كان تبادل الطعام بين الحضارات الشرقيّة- من مصر القديمة وبابل إلى الهند والصين- يتجاوز مجرّد تبادل المواد الغذائيّة، ليشمل تبادل المعرفة والعادات.
![](https://manateq.net/wp-content/uploads/2025/02/Medieval_wine_conservation.jpg)
يشير الباحثون إلى أنّ الطعام ليس وسيلة للبقاء فحسب، بل هو تعبير عن الهويّة الثقافيّة والاجتماعيّة، يحمل معاني التفريق بين الجماعات العرقيّة والدينيّة، ويعكس الانتماءات الطبقيّة، “قالتراتب الهرميّ للمراتب والطبقات يأخذ شكلًا مطبخيًّا”، كما تقول كارول كونيهان.
ولا يقلّ تأثير البيئة السياسيّة على التقاليد الغذائيّة أهمّيّة، حيث يمكن أن تتغيّر طرق الطهي، وما نأكله مع تغيّر السلطة السياسيّة. كما تلعب طريقة إنتاج الطعام وطهيه دورًا في تشكيل سياسات التمييز على أساس طبقيّ وعرقيّ وجندريّ.
يرتبط الطعام بالأحداث التاريخيّة مثل المجاعات والكوارث الطبيعيّة، وهو ليس مجرّد مسألة غذاء، بل نظام رمزيّ يعكس ثقافتنا. وعنصر أخلاقيّ يتّصل بالمقدّس، بما أن “التابو” يرمز إلى كلّ من الطعام والجنس، ويؤثّر في كيفيّة تشكيل رؤيتنا للآخرين.
الدور المطبخيّ للنساء
ساهمت النساء في اكتشاف النار، ممّا أدّى إلى التحوّل من تناول الطعام النيء إلى تطوير وصفات لا حصر لها. وعلى رغم أنّ هذا الاكتشاف كان نقطة تحوّل كبيرة في تاريخ الحضارة البشريّة، فإنّه لا يبرّر استغلال قوّة عمل النساء في المجتمعات الحديثة. الطهي هو مهارة يطوّرها الإنسان بحسب ظروفه، وبما أنّ الطعام حاجة أساسيّة، فإنّه يصبح مسؤوليّة الجميع.
ساهمت النساء في اكتشاف النار، ممّا أدّى إلى التحوّل من تناول الطعام النيء إلى تطوير وصفات لا حصر لها. وعلى رغم أنّ هذا الاكتشاف كان نقطة تحوّل كبيرة في تاريخ الحضارة البشريّة، فإنّه لا يبرّر استغلال قوّة عمل النساء في المجتمعات الحديثة
يُعتبر المنزل “الأويكوس” (Oikos) الذي بُني عليه الاقتصاد الرأسماليّ، والذي يتطلّب من المرأة القيام بالأعمال المنزليّة بينما يعمل الرجل خارجه. ولكي يتمكّن الرجل من بيع قوّة عمله في سوق العمل، يحتاج إلى مأوى لاستعادة قواه، وتوفير هذا المأوى هو الدور الذي أوكلت به النساء من خلال عملها غير المأجور، والذي يثقلها بعبء نفسيّ وجسديّ. يُنقل هذا الدور عبر التربية والرعاية، ممّا يعزّز النظام الاقتصاديّ الرأسماليّ ويكرّسه للأجيال القادمة.
ويفترض البعض أنّ المطبخ مكان لا يحتاج إلى إنتاج فكريّ، وأنّ حصر النساء فيه يبعدهنّ عن المجال العام. هذا التصوّر يُغرس في الفتيات منذ الطفولة عبر ألعابهنّ وكتب الطبخ الموجّهة لهنّ، ويعزّز فكرة أنّ المطابخ شأن نسائيّ. ويتجلّى هذا الاستبعاد في المزاح الذي يدعو النساء للعودة إلى المطبخ لمجرّد إبداء آرائهنّ.
لكن لا يمكن تقسيم الأدوار الجندريّة على أنّ الطبخ سمة جينيّة أو جزء من الأنوثة، بل هو حرفة تُعلَّم وتُكتسب. والنساء لا يصبحن طاهيات ماهرات بالفطرة، بل من خلال التوارث الاجتماعيّ وإعادة إنتاج الأدوار المجتمعيّة.
ماذا عن العمل المطبخي للرجال؟
تُعطى الأهمّيّة الإعلاميّة غالبًا للرجال في برامج الطهي، على رغم براعة النساء في هذا المجال منذ القدم فإنّ احتكار الرجال لمهنة “الشيف” إلى سنوات طويلة يعكس رفض المجتمع لفكرة الشيف “المرأة”. يعود هذا إلى التقسيمات الجندريّة التي تضع الطبخ كواجب أساس للنساء في المنزل، ممّا يحرمهنّ من فرص العمل في المطاعم والفنادق أو تحقيق مكاسب مهنيّة أخرى بعيدًا من الفضاء الخاصّ.
كما يُثنى على الرجال الذين يطبخون ويُعتبر ذلك “ميزة”، بينما يُنظر إلى النساء اللاتي لا يطبخن كاستثناء.
حتّى مع تزايد أعداد الطهاة المؤثّرين في وسائل التواصل، يثار التساؤل حول من يطبخ لهم في المنزل؟ إذ يقتصر عملهم المنزليّ أحيانا على “مساعدة” زوجاتهم في المناسبات، ثمّ يعودون إلى الأدوار التقليديّة المرسومة لهم. وهو ما يعكس استمرار التوزيع التقليديّ للأدوار.