عن تجربة فرقة كاكتوس في النبطية.. عندما تقول الموسيقا لا

“غريبة هي الجزيرة التي تعادي المحيط”. بهذه الكلمات وصف أحد الأعضاء المؤسّسين لفرقة “Cactus” الموسيقيّة وسام بشارة، البيئة كالجزيرة التي تريد أن تعادي الموسيقا. هذه البيئة التي ترفض بثنائيّة أحزابها أيّ شكل من أشكال الفنون، بينما تبقى صامتة ومتغافلة عن مشاهد أكوام النفايات المتراكمة على جوانب الطرقات، وحرائق المكبّات التي تنعبث في الهواء وتلوثه بأخطر أنواع السموم.

الولادة من خاصرة النبطية

برزت التحدّيات بشكل لا يُخفى خلال فترة التأسيس لفرقة “Cactus” في النبطية، حيث أصبحت هذه المدينة، التي شهدت تحوّلات عديدة عبر العصور، بيئة تتطلّب مسحًا دقيقًا لتجلب إلى الواجهة أيّ نوع من أنواع الفنون. هكذا بدأت رحلة هذه الفرقة، التي انطلقت برؤية وسام بشارة، ابن النبطية، الذي كان منغمسًا في عالم الموسيقا بشكل منفرد داخل غرفته، لكنّه سرعان ما دعا أصدقاءه الذين يشاركونه الاهتمام عينه بهذا الفنّ لينضمّوا إليه، بهدف تأسيس فرقة موسيقيّة تُعنى بموسيقا “الراب”، حيث كانوا يستخدمون الدرامز والغيتار الإلكتروني، بالإضافة إلى عدّة آلات موسيقيّة أخرى.

بدأت القصّة العام 2003 مع شخصين فقط هما: وسام بشارة وعلي حامد. ثمّ انضمّ إليهما لاحقًا كريم شمس الدين من بلدة الزعروريّة والصبيّة رولا مكّي، حيث تمّ إنشاء غرفة صغيرة على سطح بيت أحد الأعضاء، لتكون مساحة لنشاط الفرقة. يقول وسام بشارة لـ”مناطق نت”: “أدّخرنا من مصروفنا اليوميّ ثمن الآلات الموسيقيّة الرخيصة التي اشتريناها، ثمّ بادرنا إلى تجميع أثاث الغرفة من أغراض أحضرناها كل من بيته”.

فرقة “كاكتوس” في بداياتها
البيئة التي تصنع الصبّار

بقيت الفرقة ولمدّة طويلة تتدرّب وتعزف دون أن يكون لها اسم، حيث كانت نشاطاتها تنحصر في الاجتماع وإقامة العروض الموسيقيّة في الغرفة المُقامة على سطح المنزل، وهذا كان سعيًا لترسيخ الانتماء والتميّز وسط بيئة ذات لونٍ واحد مثل مدينة النبطية.

دفع التدريب على سطح المنزل بالجيران حينئذ إلى التذمّر والشكوى، وعدم تحمّل أصوات الموسيقا العالية والمزعجة على حدّ قول بشارة، ليصل الأمر بهم إلى اتّهام أعضاء الفرقة بأنّهم من عبدة الشياطين، وبأنّهم يجتمعون لشرب الكحول وتعاطي المخدّرات.

انتشرت هذه الشائعات في النبطية كانتشار النار في الهشيم، فتوسّعت دائرة الاتّهمات أكثر ولم تقتصر فقط على الجيران. وعلى رغم وجود كثير من الناس الداعمين والمشجّعين آنذاك، إلّا أنّ الفئة غير الداعمة كانت أقوى من ناحية النفوذ، فصبّوا جام غضبهم على أعضاء الفرقة، في وقت كان يُعدّ ما يقومون به ظاهرة غريبة وغير مألوفة وجرأة لافتة منهم.

هذا الغضب تُرجم على شكل ضغوط تم ممارستها على أعضاء الفرقة، إلى أن وصل الحال بالأهالي إلى استخدام أساليب ترهيب نفسي وجسديّ وافتعال مشاكل وضرب، وطلبهم للتحقيق، وتعنيف أعضاء الفرقة بكلّ ما أوتيوا من قدرات.

والوصفة لتبرير العنف والتعدّي على الآخرين سهلة جدًّا كانت في ذاك الحين، فيكفي أن تكون شابًّا ذا شعر طويل وترتدي قرطًا في الأذن، وتهتمّ بالموسيقا لتتعرّض للتعنيف. يستذكر بشارة تلك المشاهد قائلًا: “عندما كنّا نمشي على الطريق بشعرنا الطويل ولباسنا المختلف، كان رجال قوى الأمن يستدعوننا للتحقيق، حتّى صرنا في نهاية الأمر معتادين على الأمر”.

دفع التدريب على سطح المنزل بالجيران حينئذ إلى التذمّر والشكوى، وعدم تحمّل أصوات الموسيقا العالية والمزعجة، ليصل الأمر بهم إلى اتّهام أعضاء الفرقة بأنّهم من عبدة الشياطين

لذلك، ارتأى الأعضاء إطلاق لفظة Cactus (أيّ نبتة الصبّار) اسمًا على فرقتهم. فالصبّار ينمو في الصحراء، وهي نبتة ليّنة من الداخل لكنّها مليئة بالشوك من الخارج لتحمي نفسها من البيئة التي تنمو فيها.

ادّخار لشراء الآلات الموسيقيّة

شغفهم بالموسيقا ورغبتهم في تغيير الواقع المحيط بهم، على الرغم من المعارضة الشديدة التي واجهوها، كانت القوّة التي منحتهم الدافع للاستمرار في خوض التجربة. وبإصرار منهم، عملوا على توفير المال من مصاريفهم الشخصيّة لشراء الآلات الموسيقيّة بأسعار زهيدة، الأمر الذي كان يؤثر في نوعيّة الأعمال التي لم تكن بالمستوى المطلوب، “إلّا أنّها كانت تشكّل نوعًا من الأمل في هذه البيئة”. كما يقول بشارة، أو كما كان يُلقّب في الفرقة بـ”كيم”: “لقد استغرق الأمر منّا عامًا كاملًا كي نجمع المال اللازم لشراء الدرامز”.

هذا الهدف دفعهم إلى تنظيم حفلات وعروض موسيقيّة مجّانيّة في النبطية وضواحيها، وحتّى في المناطق الجنوبيّة الأخرى. وقد لاقى هذا الجهد استحسانًا وترحيبًا من كثيرين كانوا يتوقون إلى تلك الأجواء الفريدة والموسيقا التي يعزفونها.

لعنة الإنتقال

تزايدت معاناة أعضاء الفرقة بفعل تصاعد التذمّر والهجمات المستمّرة من المحيط، ممّا دفعهم للانتقال من مكان إلى آخر لممارسة التدريب والعزف. وكادت هذه الحال غير المستقرّة أن تنتهي، إلى أن التقوا بأستاذ جامعيّ في كلّيّة الهندسة في الجامعة اللبنانيّة، الدكتور يوسف حمزة، الذي ينتمي إلى الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ، والذي دفعه حبّه للموسيقا إلى دعمهم وتبنّي موهبتهم.

بادر الدكتور حمزة إلى منحهم مكانًا للتدريب في “جمعيّة المرج الثقافيّة الاجتماعيّة” في (حيّ المسلخ) النبطية، التي كان قد أسّسها قريبة من ثكنة الجيش اللبناني. عن تلك المبادرة يقول بشارة: “لقد تبنّى الأستاذ يوسف الفكرة وأعطانا مكانًا للتمرين في الجمعيّة من دون أيّ مقابل، وهذا ساعدنا على أن يكون نفسنا أطول وأطول”.

ولكنّ لعنة الانتقال وعدم الاستقرار استمرّت، حيث تعرّض مؤسّس الجمعيّة لضغوط من قبل أهالي النبطية، ممّا دفع البعض إلى مطالبة “حمزة” بطردهم من الجمعيّة، مخافة تحويلها إلى مركز لعبادة الشيطان كما ادّعوا. رضخ الأخير للمطالب، ولكن وبالرغم من ذلك، ولإيمانه القويّ بموهبتهم وإصراره على دعمهم، قام بمنحهم كوخًا صغيرًا في الجبل لمواصلة التدريبات وممارسة شغفهم.

الموسيقا لغة عالميّة مجانية

على رغم كلّ هذا الهجوم غير المبرّر، استمرّت فرقة “Cactus” في الوقوف بثبات على مبادئها التي آمنت بها منذ اللحظة الأولى، تحت الشعار الذي تأسست من أجله “الموسيقا حقّ مجّانيّ للجميع”. لذا، لم تكتفِ الفرقة بالعزف في مدينة النبطية فقط، بل توسّعت جنوبًا، ثمّ نحو جميع مناطق لبنان وأمام مختلف الفئات، بما في ذلك الجمعيّات التي تدعم الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصّة. ويؤكّد بشارة ذلك قائلًا: “كنّا نعزف في نادي الشقيف في النبطية، قبل أن تتمّ الهيمنة عليه”.

كانت هذه التجارب غير العاديّة، ولكن الإيجابيّة في الوقت عينه، عاملًا أساسًا جذب انتباه الصحافة المحلّيّة والعالميّة، ممّا دفع مجلّة “لوفيغارو” الفرنسيّة إلى إجراء مقابلة معهم في العام 2006.

جوائز لا تُطعم خُبزًا

إنّ إنجازات الفرقة وإصرار أفرادها على أن تبقى هذه “الصبارة”– أيّ الفرقة – على قيد العزف، أوصلهم إلى العالميّة، حيث شاركوا في مباريات عالميّة مثل “Global battle of the bands” (هي مسابقة موسيقيّة حيّة تشارك فيها فرق من جميع القارّات حول العالم) في لندن، في المملكة المتّحدة. يومها قاموا بعزف مقطوعات موسيقيّة من تأليفهم، وفازوا بالمرتبة الثانية، كان ذلك في العام 2008. يعلّق بشارة على هذا الفوز قائلًا: “كانت لحظة عظيمة أتذكّر تفاصيلها والمشاعر التي غمرتنا يومها. لكن يعزّ علينا أننا لم نكرّم في بلادنا كما كُرّمنا في الخارج”.

ويختم قائلًا: ” كانت نهاية الفرقة كحال كلّ شيء في هذا البلد. هاجر الأعضاء للبحث عن لقمة العيش. وأنا ما زلت أعيش هنا وأعزف بين الفينة والأخرى في أماكن مختلفة في الجنوب.

ويضيف: “الرسالة التي أريد أن أوصلها، هي، أنّ كلّ شخص أو مجموعة لها الحقّ في العيش طالما لم تؤذِ من حولها، ولهذا أنا مستمرّ للآن بما بدأت به سابقًا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى