عن محمّد وعائلته ودوامة اللجوء والنزوح

مع بداية الحرب في سوريّا التي طال أمدها وتجدّدت بشكل عنيف قبل أيّام، وجد بعض السوريّين ملاذهم في لبنان فجاؤوا إليه لاجئين يظنّون أنّ الحرب ستنتهي قريبًا ويعودون إلى ديارهم، لكنّ الحرب لم تنتهِ، لا بل تجدّدت، ولا ندرى إن كانت حكايات اللجوء ستتجدّد أيضًا، مع أخبار المعارك التي عادت تحتلّ نشرات الأخبار، ومعها أصبح حلم العودة أشبه بالسراب، يطارده السوريّون أينما حلّوا وأقاموا.

في لبنان حيث لجأ قسم كبير من السوريّين طالت الرحلة، بعضهم كبر هنا وحلم وأسّس على رغم صعوبات الحياة أيضًا، من تدهور اقتصاديّ وضربات متتالية للبلاد ذات المساحة الصغيرة، لكنّ ذلك كان أهون من العودة إلى سوريّا في ظلّ ظروف أصعب، خصوصًا أنّ بعضهم كان ينتظر فرصة سفر وهجرة نحو بلد آخر.

محمّد وعائلته نزحوا من ريف حلب مع بداية الحرب في سوريّا، توجّهوا جميعهم نحو لبنان حيث كان هناك أقرباء لهم يعيشون فيه منذ سنوات، ومن هنا بدأت رحلة اللجوء نحو البحث عن أمان وحياة أفضل بعد أن فقدوا بيوتهم وأراضيهم.

إلى الضاحية الجنوبية:

استقرّ محمّد وأهله في الضاحية الجنوبيّة لبيروت مذ جاؤوا إلى البلاد، إذ كان قريبهم السوريّ يعمل فيه منذ سنوات طويلة بمشغل خياطة، فبدأوا بالعمل معه والاستقرار في بيوت قريبة من العمل، ومنذ ذلك الحين، أيّ من العام 2012 كان الاستقرار في الضاحية بالنسبة إلى محمّد وعائلته بمثابة أمان، عاشوا بكلّ سلام ووئام مع أهالي المنطقة، لم يشعروا بالغربة كثيرًا عن بلادهم، فكان التعامل مريحًا والجيران لطيفون، يتبادلون الطبخ والزيارات والمساعدة، جنبًا إلى جنب في ظروف الحياة.

النزوح بعد اللجوء معاناة السوريين اللاجئين في لبنان (getti images)

هناك في الضاحية كان يعيش كثير من السوريّين أيضًا من طوائف مختلفة، ويقول إنّ التعامل مع الجميع كان أخويًّا وليس فيه طائفيّة أو تفرقة، ينأون عن التعامل مع التوجّه السياسيّ لأيّ سوريّ، ولم تشهد مناوشات من هذا النوع في المنطقة. مرّت “الثورة اللبنانيّة” والـ “كورونا” وزلزال سوريّا وتركيّا، حتّى جاءت حرب غزّة ولحقتها حرب لبنان، ووصلت النيران إلى لبنان والتهمت الضاحية كأولّ مكان للاشتعال في العاصمة بيروت، وبدأ الناس من لبنانيّين وسوريّين ينزحون نحو المناطق التي يُعتقَد أنّها آمنة.

بين البحر والبرّ

بعد تفجيرات “البيجرز” واغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، شهدت المنطقة نزوحًا واسعًا ولم يعد آمنًا البقاء هناك مع توالي الضربات وإنذارات الإخلاء من الجيش الإسرائيليّ، فاضطُرّ محمّد وعائلته إلى ترك المنزل الذي يسكنه في منطقة الشيّاح بالضاحية، الذي انتقلوا إليه أخيرًا بعد شراء أثاثه وكسوته، قبل أشهر قليلة.

لم تعرف العائلة المكوّنة من سبعة أفراد أين تذهب بنفسها، خصوصًا أنّ الدولة اللبنانيّة والجمعيّات والمنظّمات الدولّية لم تعتنِ بالسوريّين النازحين مثل اللبنانيّين، وباتت بعض القوى والأصوات العنصريّة تنادي بضرورة تقديم الخدمات للبنانيّين وليس للسوريّين. من هذا المبدأ لم تجد العائلة مكانًا لها سوى شاطئ البحر أسوةً بعائلات سوريّة ولبنانيّة أخرى، فافترشوا “الكورنيش” البحريّ وناموا أيامًا عدّة هناك، إلى أن صادفَ محمّد صديقًا له يقدّم المساعدة للنازحين في ملهى “سكاي بار” في منطقة “البيال”، ودعاه للتوجّه إلى هناك مع العائلة والمكوث موقّتًا إلى أن تُحَل الأوضاع.

وجد محمّد خارج “البار” مكانًا صغيرًا، جلس فيه مع عائلته أيّامًا قليلة محاطين بالسيّارات والعائلات النازحة، لم يكن يعرف ماذا يفعل، وكانت الاتّصالات جارية كلّ هذه المدّة مع من يعرفونهم من أقارب أو أصدقاء للنزوح نحوهم إلى بيوتهم، مع اقتراب انقلاب الطقس حتّى وجدوا ما ظنّوه حلًّا.

بين أنطلياس وعين الرمّانة

ذهبت العائلة إلى قريب سوريّ يعيش في منطقة أنطلياس مع زوجته وأولاده، بعد أن أبدى استعداده لاستضافتهم، لكن في تلك الليلة لاحظ الجيران القاطنون في البناء وجود أشخاص جدد في أحد البيوت، وسرعان ما جاءت الجارة وسألت زوجة صاحب البيت عمَّن يستضيفون؟ فأجابت بأنّهم أقرباء لهم. بدا على وجهها القلق والحرج، وطلبت منها أن تطلب إليهم المغادرة، وحينما سألت عن السبب قالت إنّ الجيران وأهل المنطقة لا يريدون نازحين غرباء خوفًا من تهديدات أو احتكاكات أو قصف مثلًا. اضطُر الجميع إلى الرضوخ لرغبة أهالي البناء فقضت عائلة محمّد ليلة واحدة هناك ومن ثمّ غادرت، ولم يكن هناك وِجهة سوى منزل صغير لقريب آخر يعيش في عين الرمّانة، دعاهم إلى القدوم قائلًا: “إنّ بيت الضيق يتّسع لألف صديق”.

لم تعرف العائلة المكوّنة من سبعة أفراد أين تذهب بنفسها، خصوصًا أنّ الدولة اللبنانيّة والجمعيّات والمنظّمات الدولّية لم تعتنِ بالسوريّين النازحين مثل اللبنانيّين

هذا ما كان، وبقيت العائلة حتّى اليوم الأخير قبل وقف إطلاق النار في هذا المنزل، لكنّ المشكلة تكمن في أنّ البيت موجود عند أطراف الضاحية حيث الاستهدافات الإسرائيليّة كانت قريبة منهم، لذا أصبح أفراد الأسرة يتناوبون على السهر ليلًا لمراقبة إنذارات الناطق باسم جيش العدو أفيخاي أدرعي، واضطرّوا إلى ترك البيت مرّتين قاصدين شاطئ البحر، ثم لا يلبثون أن يعودوا آملين ألّا يحصل شيئًا آخر، لأنهم فقدوا كلّ خيارات الأمكنة المتاحة للبقاء فيها، وهم غير مقبولين للجوء إلى مراكز الإيواء، لا سيّما أنّ غالبيّة النازحين اللبنانيّين تنبذ السوريّين إمّا علناً أو بالسر.

لماذا لا تعودون إلى سوريّا؟

وصل عدد العائدين السوريّين من لبنان إلى سوريّا بحسب إحصاءات رسميّة إلى أكثر من 350 ألف شخص، مع نزوح أكثر من 160 ألف لبنانيّ إلى سوريّا أيضًا. لكن دائمًا كان محمّد يُسأَل عن سبب عدم عودته وعائلته إلى سوريّا في هذه الظروف الصعبة بلبنان؟ وتكون ردوده مثل كثير من الإجابات التي يدركها السوريّون جيّدًا ولا يعرفها كثر من اللبنانيّين، أوّلها وأهمّها الخدمة العسكريّة الإلزاميّة، فبمجرّد دخول الشاب المطلوب للخدمة العسكريّة إلى سوريّا يُسَلَّم ورقة يُطالَب فيها بمراجعة شعبة تجنيده خلال 15 يومًا، وبالتالي لم يعد لديه خيار الهرب من الخدمة هذه، سوى في أن يلتحق بالجيش من دون أن يعرف متى يتمّ تسريحه، بحكم أنّ مدّة الخدمة الإلزاميّة بعد الحرب في سوريّا أصبحت شبه مفتوحة، أو عليه أن يدفع مبلغًا قدره سبعة آلاف دولار كبدل خدمة كي يُعفى من الجيش.

يرفض محمّد وإخوته الشباب الحلَّين، فهو وأخوَاه غير راغبين في الالتحاق بالخدمة العسكريّة الإلزاميّة والبقاء في الجيش مدّة قد تصل إلى خمس أو سبع سنوات، كذلك فإنّهم لا يملكون هذا المبلغ الكبير لدفع البدل النقديّ، والسبب الآخر هو أنّ منطقتهم بريف حلب اشتعلت من جديد، وأصبحت العودة إليها مستحيلة في ظلّ الظروف الراهنة، أمّا بيوتهم فقد أصبحت كومة من حجر، لم يبنِها أحد ولم يعوضهم أحد، في حين يختلف الوضع في لبنان، حيث يعرف الجميع أنّ الأضرار في الغالب قابلة للتعويض على نحو ما حصل بعد حرب تموز (يوليو) 2006 وبالتالي لن تبقى البيوت كومة ركام إلى أبد الدهر، مثلما هي الحال في سوريّا.

العودة إلى الضاحية الجنوبية (تصوير محمد قليط)

فيما عدا ذلك، فإنّ بعض أفراد عائلة محمّد لا يمتلكون أوراقًا قانونيّة نظاميّة للإقامة في لبنان، والأمن العام اللبنانيّ لم يتساهل مع هذا الوضع، وبمجرّد خروج المُخالِف لشروط الإقامة من لبنان يختَم على جوازه منع الدخول مدّة سنة وربّما أكثر أو لمدى الحياة، وبالتالي فإنّ أيّ سوريّ مُخالف يغادر لبنان سيخسر فرصة العودة إليه ولو بعد حين، حتّى وإن كان يريد فقط استعادة بقية أغراضه، ولن تعود لديه القدرة سوى الدخول عبر طرق التهريب، خصوصًا أنّ شروط الإقامة في لبنان للسوريّين باتت تعجيزيّة ومن شبه المستحيل استصدارها، إلّا في حالتين، إمّا للطلاب في الجامعات اللبنانيّة أو إجازات العمل، ما عدا ذلك لا يمكن لأيّ سوريّ أن يحصل على إقامة نظاميّة في لبنان.

خمدَت هُنا واشتعلت هناك

ما إن أُعلن بشكل رسميّ عن اتّفاق وقف إطلاق النار حتّى عاد أهل محمّد في الصباح إلى منزلهم في الضاحية، ومن حسن الحظّ في هذه الحرب أنّ الأضرار في البيت اقتصرت على نوافذ مكسورة وأبواب مخلّعة “كلّ هذا قابل للتعويض بينما الروح لا تُعَوَّض” يقول محمّد الذي بدأ وأهله يهمّون بالعودة إلى منزلهم ويتّفقون مع صاحب البيت الذي كان متعاونًا جدًّا في تحسين الأثاث المتضرّر بالتشارك.

بدأت العائلة كغيرها من العائلات بنفض غبار الحرب تدريجًا، لكن ما إن التقطوا أنفاسهم وحمَدوا ربّهم على السلامة حتّى اتّجهت عيونهم فورًا إلى حلب وريفها، هناك حيث عادت الحرب تشتعل من جديد بطريقة غريبة غير متوقّعة. ينظر محمّد بريبة إلى ما يجري مثل كثيرين من السوريّين، ويستذكر الحوادث التي جعلتهم ينزحون من منطقتهم بريف حلب العام 2012، ويسأل: ماذا جرى بعد كلّ هذا الهدوء؟

يدرك محمّد أصلًا أنّه غير قادر على العودة الآن، لكن على رغم ذلك كان لديه أمل بسلام، وربما بعودة قريبة ذات يومٍ قريب، لكن مع عودة الأحداث السوريّة إلى دائرة مجهولة تعود الخيبة إلى القلوب والانتظار الذي لا يُطاق أملًا بأرض خالية من الحروب في لبنان وسوريّا، فهل سيتحقق هذا الحلم؟

عانى السوريّون في حربهم وحرب لبنان كثيرًا وقد آن الأوان أن تنتهي تلك المِحَن، أن يباشروا في بناء بلادهم كي يستطيعوا العودة إليها، أن يستعيدوا القدرة على الحياة، أن تكون حياتهم في لبنان أبسط وأسهل، وأن يكونوا قادرين – على الأقل- على استصدار أوراق إقامة قانونيّة، أفليست بلاد العرب أوطاني ونحن إخوة في السرّاء والضرّاء؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى