عودة اللاجئين السوريّين إلى بلادهم حلّ أم مشكلة؟
باكرًا بدأت تُطرح أسئلة حول تداعيات سقوط نظام الأسد في سوريّا، منها مستقبل العمالة السوريّة في لبنان المعتمدة في قطاعات اقتصاديّة واسعة، أهمّها قطاع الزراعة وقطاع البناء والصناعة وغيرها في كثير من المجالات، حتى يصحّ القول: إنّ عجلة الاقتصاد اللبنانيّة تسير إلى حدّ كبير بوقود العمالة السوريّة.
مع سقوط النظام في سوريّا، فجر الثامن من كانون الأول (ديسمبر) الماضي، شرع عشرات الآلاف من اللاجئين السوريّين في العودة إلى بلادهم، أو بدأوا يتهيّأون إلى ذلك، إذ تستمرّ مواكب العودة وتتصاعد وتيرتها يوميًّا وتَتَكَثَّف بشكل مضطرد، في ظلّ تقديرات بعض المراقبين وخبراء الاقتصاد بعودة جميع السوريّين إلى بلادهم، في حال الاستقرار السياسيّ فيها، وتَوّفر الدعم لإطلاق عمليّة إعادة الإعمار، ما يَخْلُق ملايين فرص العمل هناك.
شَكَّل اللجوء السوريّ، طوال 13 عامًا مادّة سجاليّة وحملات سياسيَّة متبادلة، بعضها اقترب من العنصريَّة، وبعضها الآخر وصل إلى درجة تبنّي خطاب كراهيّة تجاه بعض اللبنانيّين والسوريّين على حد سواء، لكن في حال استقرار الأوضاع فإنّ ذلك سيعيد النقاش إلى أصوله في مقاربة ملفّ اللجوء سلبًا وإيجابًا.
الزراعة تتأثّر سلبًا
طوال السنوات الماضية، وَفَّرَ اللجوء السوريّ إلى لبنان يدًا عاملة زهيدة الأجر في قطاعات عديدة، منها الزراعة والصناعة وقطاع البناء، وصولًا إلى عُمَّال النظافة في الشركات الخاصّة وبعض البلديّات.
يشير رئيس بلديّة القاع (في محافظة بعلبك الهرمل) المحامي بشير مطر في حديث لـ “مناطق نت” إلى “الحاجة الماسَّة زراعيًّا إلى اليد العاملة السوريّة، فهي شريان رئيس في عمليّة الإنتاج الزراعيّ لبنانيًّا، حراثةً وزراعة وجنيًا للمحاصيل والمواسم، وبدونها سوف يعاني القطاع من صعوبات كثيرة، بدءًا من ندرة البديل اللبنانيّ الكفوء مرورًا بارتفاع الأسعار إنتاجًا واستهلاكًا، وصولًا إلى ترك بعض المزارعين أرضهم بورًا من دون زراعة، ما يُضْعِف تسويق المنتجات اللبنانيّة محلّيًّا أو تصديرها أمام مثيلاتها في دول الجوار”.
حول مطالبة بعض القوى السياسيَّة بمغادرة السوريّين فورًا من دون تأخير، وسُبُل إيجاد البدائل سريعًا يقول مطر: “عودة اللاجئين إلى بلدهم حاجة سوريّة ولبنانيّة مشتركة، فقد تَحَمَّل لبنان تبعات اللجوء أكثر من أيِّ بلدٍ أخر، أمَّا موضوع العمالة السوريّة في لبنان فهي قديمة جدًّا، وتعود إلى زمن الإستقلال، وهي أيضًا حاجة سوريّة لبنانيّة مشتركة”.
لذلك، ناشد مطر السلطات اللبنانيّة أن “تسارع في إطلاق ورشة إصلاح فعليَّة، للعلاقات مع السلطات السوريّة الجديدة (التي أعلنت احترامها سيادة لبنان وبناء أفضل العلاقات معه)”. وطالب مطر أن تلحظ الورشة مراجعة الاتّفاقيّات “وضرورة إيجاد آليّات عمل وعبور تُسَهّل دخول العمّال الزراعيّين السوريّين وخروجهم بشكل يوميّ، لا سيّما أنَّهم من قرى الجوار وتفصلهم مسافة دقائق عن بساتين القاع، إذ إنَّنا بحاجة إلى الآلاف من العمّال السوريّين، وهذا يعود بالنفع الاقتصاديّ على الجميع”.
“رح تخترب بيوتنا”
با اعتماد مزارعي التفاح بقاعًا كاملًا على العامل السوريّ، من الحراثة والتقليم والتشذيب إلى الرَّيّ والقطاف والتوضيب والتحميل. يقول “أبو علي” أمهز ابن بلدة اللبوة البقاعيّة لـ “مناطق نت”: “اللبنانيّ لا يعمل في الزراعة، – برستيجو ما بيسمحلو- وإذا وُجِد فالعدد ضئيل جدًّا -بدك تبيع البستان لتعطيه أجرتو”. يتابع أمهز: “خلال السنوات الماضية كانت مواسمنا تعتمد بالكامل على العامل السوريّ، لم نحسب حساب فقدانها، لذلك أمنيتنا في الاستقرار سريعًا في سوريّا، وعودة الأمور إلى طبيعتها، لأنّه من دون العامل السوريّ أقولها بالفم الملآن -راح تخترب بيوتنا- لن نجد من يهتمّ بالبساتين وسيقع الثمر تحت الأشجار لتأكله المواشي”.
أمهز: مواسمنا تعتمد بالكامل على العامل السوريّ، لم نحسب حساب فقدانها، لذلك أمنيتنا في الاستقرار سريعًا في سوريّا، وعودة الأمور إلى طبيعتها، لأنّه من دون العامل السوريّ أقولها بالفم الملآن -راح تخترب بيوتنا
صعوبات وتحوّلات
ليست الزراعة المتضرر الوحيد من فقدان اليد العاملة السوريّة، فالأفران وورش البناء ومحطات الوقود ومغاسل السيّارات ومزارع الفرّوج والدجاج والمواشي تعتمد في غالبيّتها على اليد العاملة السوريّة المنخفضة الأجر.
الأكثر تضررًا.. المعبر ينقذها
بلدة عرسال البقاعيَّة، التي اشتهرت كإحدى أكبر المجتمعات المضيفة في لبنان خلال 13 عامًا مضت، بات اللجوء يُشكّل عاملًا أساسًا في اقتصاد أبنائها، فثمّة 143 عقارًا مستأجرًا لإقامة المخيّمات، ومئات البيوت والمحال يشغلها سوريّون للسكن أو التجارة، وما يزيد على 800 وظيفة في الجمعيَّات والمنظَّمات الإغاثيَّة، وعشرات صهاريج المياه وشاحنات شفط الجُوَر الصحّيّة والفَنيَّة تعمل في المخيّمات.
إلى ذلك هناك تقديمات كثيرة من مفوّضيَّة الأمم لشؤون اللاجئين ومنظّمات أخرى مثل برنامج الغذاء العالميّ، منظّمة الفاو، اليونيسيف، الـ UNDP والـ USAID وغيرها، جميعها وصلتها تحت يافطة “مجتمع مضيف”. وكذلك مصانع حجر الزينة والمقالع والكسّارات تعتمد نسبيًّا على العُمَّال السوريّين؛ الآن مع رحيلهم ثمّة خسارات كثيرة وضرر كبير سيلحق بأبناء البلدة، وهو بحاجة إلى استدارة كبيرة وتحوّلات في تحصيل أرزاقهم، ممّا يلزمنا “ببرمجة وإعادة ضبط مصنع” بحسب أحد الظرفاء.
يشرح نائب رئيس بلديّتها السابق نصرات رايد لـ “مناطق نت” تَحَوُّل بلدته عرسال “من جوّ القرية النائية إلى جوّ المدينة نتيجة وصول ما يزيد على 120 ألف لاجئ سوريّ بداية الثورة السوريّة. هذا الكمّ الهائل من الناس، بحاجة إلى جهود وعمل بأضعاف مضاعفة لتأمين احتياجاتهم ومستلزماتهم الحياتيَّة، فتَنَوُّع مشارب الوافدين (من مدن وأرياف) أحدث تغييرًا هائلًا في حياتنا، اجتماعيًّا وثقافيًّا وحياتيًّا، لكن التغيير الأكبر والأكثر تأثيرًا هو التغيير الاقتصاديّ”.
أثر سلبي على الاقتصاد
وعن التأثير الاقتصاديّ للجوء ذهابًا وإيّابًا يتابع رايد: “إنّ ركائز اقتصادنا سابقًا كانت محدودة، صناعة حجر الزينة والزراعة والوظيفة الرسميَّة، وعمليات التهريب عبر الحدود”. يضيف رايد “مع دخول السوريّين تنوّعت وازدادت ودخلت إلينا مهن وحِرف لم تكن موجودة سابقًا؛ المفارقة أنَّنا بحاجة ماسَّة إليها مثل المخارط الصناعيَّة التي يتميّز بها أهل مدينة يبرود السوريّة، وتحتاجها معاملنا التي نفتقد للعاملين فيها من أبناء البلدة”.
ويشير رايد بأسف إلى أنّه “الآن سوف نعود لإرسالها إلى المدينة الصناعيَّة في زحلة بكلفة أعلى ووقت أكبر، أيضًا صانعو الحلويّات وعمّال الأفران كلهّم سوريّون، إلى الخيّاطين والإسكافيّين ونجّاري الباطون والعاملين في صيانة الهواتف، للأسف إنّ رحيلهم فجأة ومن دون توقّع سوف يضعنا في مأزق كبير عدة أشهر لتأمين البدائل”.
أمَّا عن أهمّيّة تحويل معبر “الزمراني” الترابيّ إلى معبر رسميّ شرعيّ بعد تأهيله يشير رايد: “إنّ معبر الزمراني يشكّل قفزة نوعيَّة بالنسبة إلينا، هو بمثابة ترياق الحياة، وافتتاح هذا المعبر سيساعد في ازدهار البلدة وخلق فرص عمل لأبنائها، بل إنعاش المنطقة كلّها إذا كان للبنان حصّة في إعادة إعمار سوريّا مستقبلًا، لذلك نأمل من السلطات في البلدين النظر في هذا الموضوع لأنّنا أكثر من دفع الأثمان في مأساة الشعب السوريّ”.
رايد: مع دخول السوريّين تنوّعت وازدادت ودخلت إلينا مهن وحِرف لم تكن موجودة سابقًا؛ المفارقة أنَّنا بحاجة ماسَّة إليها مثل المخارط الصناعيَّة التي يتميّز بها أهل مدينة يبرود
مصالح صغيرة في المهبّ
ليست القطاعات الكبرى كالزراعة والبناء وغيرها هي ما ستشهد فراغًا نتيجة عودة السوريّين إلى بلادهم، هناك مصالح فرديّة كثيرة يملؤها العاملون السوريّون أيضًا، وهو ما نلمسه في حديثنا مع حسين زعرور وهو صاحب صالون حلاقة فيعبّر عن خسارته جرّاء مغادرة الشاب السوريّ الذي كان يعاونه في صالونه إلى بلاده.
يقول زعرور لـ “مناطق نت” “إنّ رحيله (أحمد من حمص) نتجت عنه خسارة كبيرة لي، أنا أعمل في الصالون وفي عملٍ أخر حتّى أتدبَّر كلف عائلتي، الآن بات الصالون يعمل نصف دوام (من الساعة الثالثة بعد الظهر وحتّى التاسعة مساءً) ما يعني خسارة نصف دخلي وخسارة عدد من زبائن الصالون، لذلك سأعمل على إعادته إلى لبنان بطريقة قانونيّة شرعيّة كي يستفيد هو وأستفيد أنا”.
إنّ علاقة الشعبين اللبنانيّ والسوريّ، ثابتة محكومة بالجغرافيا دون تغيير، لكن ما يساهم في تطويرها أو سوئها هي الأنظمة السياسيَّة، لذلك فإنّ طموحات غالبيّة الشعب اللبنانيّ الخروج من رواسب النظام السابق، ثُمَّ الشروع في علاقات أخويَّة ندّيّة، مبنيَّة على الاحترام المتبادل وحُسْنِ الجوار. وحده العمل على التنمية والازدهار يفيد الشعبين، أمَّا الوقوف على أطلال الماضي وإطلاق حفلات الزجل الخاصَّة بالأرقام (خسائر أو مساعدات) لن تنفع بشيء غير إضاعة الوقت.